ادريس هاني
الحديث عن المفاهيم كمفهوم الدولة في الفكر السياسي يخفي كلّ الإشكالات التي تواجه واقع الدّولة في نسق دولي مبني على عدم المساواة..ويؤدي الغياب المفرط للعدالة على المسرح الدولي إلى التأثير المباشر على السيادة..يزداد الوضع فظاعة حينما نتحدث عن الدولة الثالثية التي لا زالت تكدح للخروج من طوق الهشاشة التي لها علاقة بنسق العلاقات الدولية سياسيا وقانونيا واقتصاديا وثقافيا..دور المؤسسات الدولية ومدى قدرتها على تنفيذ سلطاتها المقررة لحفظ السيادة التي من دونها تبدوا فكرة الدولة نفسها وسيلة من وسائل السيطرة الوظيفية أي التبعية وغياب الغايات القصوى لفكرة الدولة..إن كنت تنتظر أن نبدأ الحكاية من النصوص المؤسسة للسيادة ومفهوم الدولة الحديثة: من جان لوك وجان جاك روسو ومونتسكيو وصولا إلى المواثيق الدولية التي يحتلّ ميثاق الأمم المتحدة رأس قائمتها فسنكون قد دخلنا مدخلا خاطئا لرصد الإشكالية اليوم..مفهوم الدولة نفسه لا زال يمثّل غاية بعيدة..ليس الحرية وحدها ما يأمله الإنسان بل الدولة حتى الآن تكاد بلحاظ وضعيتها في ممارسة سيادتها في الداخل أو في الخارج لا سيما في العالم الثالث هي شيء يدخل في نطاق المأمول والـ”ما ينبغي” أيضا..
كتب عبد الله العروي عن مفهوم الدّولة، وهو عمل تدشيني مهم يفوق في أهميته الكثير مما كُتب عن الدولة في المجال العربي..ومع أنّني أعتقد أنّه لم يشر إلى الكتاب الأساسي الذي مارس معه شكلا من التناص إن لم أقل هو الملهم أقصد كتاب ألكسندر باسران دي انتريف، الذي يكاد في مقدمة كتابه عن مفهوم الدولة (la notion de l état) أيضا ينزع لذات الفذلكة: إنّ الدولة في نهاية المطاف هي الشكل الذي يولد قبل الفرد، ويدركه المرء قبل الحرية، ومع ذلك هو الشيء الذي لا نكاد نفهمه..لا أتحدّث هنا عن سرقة أدبية بل عن تناص، فالعروي كان بصدد وضع سلسلة المفاهيم لتقويض الهشاشة التي تحيط بالمفاهيم حين تقتحم المجال العربي..ولكن هذا التناص كان ضروريا وهو لم يتجاوز الفصل الرابع من كتاب “مفهوم الدولة”، الفصل الذي سيضعنا أمام تطبيقات ذاك المحصول النظري على فكرة وواقع الدولة في المجال العربي..إنما يبقى هناك أمر على درجة من الأهمية في مقاربة المفاهيم، يتعلق بالمستويات التي يجب دراسة مفهوم الدولة في ضوئها..فالمستوى القانوني والفلسفية والتاريخي والسوسيولوجي كما يشير إليهما الكاتب مسألة أساسية..مفهوم الدولة خرج من النصوص التأسيسية لآباء الفلسفة الحديثة وليس هيغل سوى ذروته..من أي زاوية وجب النظر إلى الدولة وبالتالي مفهوم السيادة؟ هل سننظر إليها كما يشير الكاتب نفسه نظرة الفيلسوف الذي يسأل عن الأهداف والغايات المطلقة أو نظرة المؤرخ الذي يبحث في التطور أم نظرة السوسيولوجي الذي يبحث في الوظيفة؟ لكن يبدو أنّ سؤال القانوني والسياسي قد توقّف عند ما تقوله الدولة عن نفسها أو تقوله المواثيق الدولية ذات الطابع النظري عن الدولة..
لم تكن لحظة تأسيس النظرية في علم السياسة الحديث خالية من أي نقاش قد يصل حدّ الإسفاف..التسامح في الأدلّة كان ولا يزال يشكّل ظاهرة..من أي شيء كانوا ينطلقون؟ بالنسبة إلى جون جاك روسو فهو يطيح بما أسماه بأستاذ علمائنا في مجال القانون السياسي، يقصد غروسيوس، حيث اعتبره كما فعل في “الكتابات” مجرد طفل في الميدان بل الأسوأ من ذلك أنه طفل سيئ النّية..ويقول بأنّه يقيس مدى نباهة العقلاء من خلال مدحهم لغروسيوس ومقتهم لتوماس هوبز، مع أنهما كلاهما متفقان: غروسيوس ينطلق من الشعر وهوبز يعتمد السفسطة..وأعتقد أنّ الأمر اليوم هو أعمق من كلّ هذا النوع من التنميط..فالمسألة تتجاوز كل هذا التصنيف لأنّ الحقيقة لم تعد محصورة في القانون السياسي، بل أحيان تجد في الشعر والسفسطة ملاذا في زمن تمأسست فيه المغالطة..والمغالطة لا تردّها إلاّ المغالطة: أعني سلوك النهج العلمي الذي يتوسّل بالمغالطة المنهجية وليس بمنهج المغالطة: أنا هنا أميّز بين المغالطة كمنهج وبين المغالطة المنهجية وهو ما يفيده ذلك الذي نمارسه في التحليل الرياضي على أساس دليل النّقض أو دليل التناقض..إنّنا مع توماس هوبز فقط نستطيع أن ندرك سلوك الدولة لا سيما في المسرح الدولي اليوم..تحدثنا سابقا عن النزعة الداروينية، وهي نزعة تجد لها في الطبيعة الإنسانية التي رصدها هوبز كل أسباب الاندفاع أو الاستعداد الدائم للحرب..فنتيجة عدوان الانسان ضد الإنسان هي ذاتها سواء في زمن الحرب أو في زمن غياب الأمان..إن الإنسان في نظر هوبز يمارس كل ذلك، حين يخرج مسلحا في سفره أو يغلق خزانته عن أطفاله وخدمه فهو هنا في مقام اتهامهم كما يفعل هوبز بالكلمات – يقول -، لكن يتساءل: أي منا لا يتهم الطبيعة البشرية؟ ستجد هوبز هنا يمتح من ذات الرؤية التي ذهب إليها سبينوزا في مجال عدم تخطيئ الرغبات..فهي هنا ليست خطايا إلاّ بعد أن يعرف القانون..وهكذا تبدو حروب الانسان ضد الانسان لا شيء فيها ظالم ما دام لا سلطة مشتركة ولا وجود للقانون:”وحيث لا قانون، لا ظلم”..لا بد هنا من التفريق في نظره بين الحق(jus ) والقانون(lex)..فالقانون الطبيعي وفق هوبز هو الحرية في استخدام القوة بينما القانون هو قواعد تمنع الإنسان من فعل ما هو مدمّر..لا بدّ من الوقوف عند هذا النص التأسيسي الذي سيفيدنا في فهم ما يجري اليوم..هناك إذن حقّ طبيعي في استعمال القوة..وحروب الانسان ضد الانسان ليست موضوع للظلم أو العدل ما لم يوجد القانون..لكن من له الحق في سنّ القوانين؟
تواجه السيادة تحديّا أساسيا من داخل القانون الدولي الذي يكرّس اللامساواة بناء على القوة..قانون تصنيفي يجعل مصير العالم بيد دول يمنحها القانون الدولي حقّ النقض والعضوية الدائمة في مجلس الأمن المعني بتدبير وحماية النظام الدولي، حيث يفرض على الدول الأخرى أن تكون تابعة للخمسة بوسائل اصطفاف سياسي يكرّس مبدأ الحماية..فما يبدو تحالفات هو في عمقه شكل من الحماية التي تلجأ إليها الدول الضعيفة بحسب تشخيصها لمواقع القوة في العالم..يبقى السؤال هو ما مصير السلام العالمي والسيادة في ظلّ نظام دولي لا يقف على قاعدة مشتركة بل على قاعدة مفروضة بينما لا زالت القوى الإمبريالية نفسها هي من يسنّ القوانين في نهاية المطاف..لقد أصبحنا أمام واقع يفرض علينا العودة إلى توماس هوبز..من له الحق في سنّ القوانين؟
السيادة منذ بداية الحديث عنها تعني سيادة الشعب وكذلك سلطة الدولة على أراضيها..لكن أي سلطة للشعب في نظام دولي يرهن الدولة الوطنية مثلا لإكراهات صندوق النقد الدولي، أي أن تجوع لكي تنمو، وأن ينتج عن هذا التحكم خلل في الأمن الاجتماعي مما يستدعي تكريس الدولة الوطنية في العالم الثالث كشرطي لمعالجة المشكلات الاجتماعية الناجمة عن سياسات إعادة الجدولة..وكيف يتسنى للدولة الوطنية في العالم الثالث أن تمارس سيادتها الكاملة بينما النظام الدولي يقرّ بتقسيم إمبريالي للعالم بناء على مصالح الكبار، ولا يسمح بممارسة السيادة الكاملة ولا الدائمة بينما الأصل في السيادة أن تكون كاملة غير منقوصة..القانونيون وفي مجال الوصف بدؤوا يتحدثون عن تطور في مفهوم السيادة.. ثم منذ سنوات هناك نخبة من منظري السياسة في الوطن العربي ما فتئت تزدري بالمفهوم التقليدي للسيادة لصالح مفهوم يقوم على وضعية الدولة في زمن العولة..كنّا ولا زلنا نعتبر ذلك خدعة وشكلا من التمهيد لاختراق الشركات العابرة للحدود سيادة الدولة الوطنية وأيضا شكلا من الإلتفاف على السيادة الكاملة لأنّ السيادة حين تتجزّأ لا تصبح سيادة..نتساءل ماذا سيقول هؤلاء الخبراء المغشوشون اليوم وفي آخر خطاب لترامب في الدور 73 لاجتماع جمعية الأمم المتحدة(2018) حين يتحدث عن مفهوم الدولة الوطنية في مواجهة الهيئات والمنظمات الدولية…هل يا ترى نفهم من هذا الخطاب أنّ الإمبريالية حين تفشل في تعزيز الهيمنة بالتلاعب بالقانون تلوذ بالحق الطبيعي ما قبل سنّ القوانين؟ وهل بمقدورها تطبيق هذا الحقّ في زمن لم تعد وحدها تملك التحكم بمصير الحروب؟
ادريس هاني:26/9/2018