ادريس هاني
إنّ التفكيرالجيوستراتيجي متواصل لا يتوقّف..تتوقف الحروب ويستمر التفكير في الجغرافيا السياسية..أحيانا تنشب الحروب – وهي منذ كلاوزفيتش امتداد للسياسة بأساليب أخرى- ولكنها حين تنشب يكون التفكير الجيوستراتيجي قد خطا خطوات أبعد من تلك الحرب نفسها..هناك نقبض على مقاصد الجيوستراتيجيا على ما لم يكن بالإمكان أن نفهمه من خلال الوقوف على بعض تفاصيل استراتيجيا تلك الحرب وتكتيكاتها..إنها لعبة الدومينو..وهكذا حينما بدأت الحرب العراقية -الإيرانية دعا برجنسكي إلى التفكير في حرب بديلة قبل أن تضع تلك الحرب أوزارها..دعا إلى التفكير في حرب جديدة لأن هذه الحرب سوف تنتهي يوما ما حتما فما البديل عنها؟..حينئذ كان التفكير جاريا وهو ما يفسر حرب الخليج الثانية وما يجري اليوم..فقط التفكير الجيوستراتيجي يعطينا فكرة كاملة عن الأسباب الحقيقية لمثل هذه الحروب التي عادة ما تنشب لأسباب غير مقنعة..اعترف صدام حسين في المراسلات التي باتت في متناول الرأي العام اليوم بخطئه في التورط في تلك الحرب..لكن كان الوقت قد فات، والجروح كبيرة، والدم أغرق المجال، وكانت الإمبريالية تضع اللّمسات الأخيرة على مخطط غزو العراق..بتعبير آخر يمكننا القول أنّه لم يعد هناك زمن منطقي لتغيير المزاج وبناء استراتيجيا جديدة..إنها معادلة صعبة..ما كان في وسع أحد أن يوقف تلك الحرب لأنّ لا أحد كان يعرف قدرة الإمبريالية على اللّعب والاخنراق..حرب الثماني سنوات التي أهلكت الحرث والنسل، كان صدام حينئذ صديقا لرامسفيلد ومعظم ذخيرته في الحرب تأتي من أمريكا..مراسلة صدام قبيل الغزو هي شهادة كافية على أنّ العراق حارب إيران بدوافع أمريكية، بل في تسجيل صوتي لصدام أكّد على أنّ بعض دول الخليج كان يعرقل إيقاف الحرب..قال ذلك في الوقت الحرج كاعترافات في زمن يصعب تغيير المزاج الذي خلفته الحرب العراقية -الإيرانية..لا ندري حقيقة إن كانت عملية إعاقة كل أشكال الوساطة بين العراق وإيران يومها سببها دول الخليج بل سيتحدث وزير الدفاع الجزائري السابق المتقاعد الجنرال خالد نزار في الجزء الثاني من مذكراته الذي أنهاه مؤخّرا عن اتهام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بالضلوع في حادث مقتل وزير الخارجية الجزائري السابق محمد الصديق بن يحيى و13 جزائرياً آخرين، في مايو 1982.. وقال خالد نزار:”إن الجزائر لديها دليل على أن صدام حسين كان مسؤولاً عن إسقاط طائرة غرومان غولفستريم 2 الرئاسية الجزائرية التي كانت تقل وزير الخارجية آنذاك”..وعلّل ذلك بالقول: “إن الدليل تمثل في عثور لجنة تحقيق انتقلت إلى منطقة سقوط الطائرة برئاسة وزير النقل، صالح قوجيل، على بقايا صاروخ جو — جو ضرب الطائرة، وهذا الصاروخ من ضمن أسلحة روسية تسلمها العراق، وتملك الجزائر الرقم التسلسلي لهذا الصاروخ بالتحديد”..وذكر الجنرال الجزائري بأنّه لم يتعاطف مع صدام حسين ولأن وزير الخارجية الجزائري كان “في مهمة سلام في المنطقة لوقف الحرب العراقية-الإيرانية” التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988)، وبأنّ حكومة بنجديد كانت تدرك صعوبة معاقبة العراق على هذا الحادث أنذاك..
لست هنا في وارد الحديث عن صدام حسين ويوميات تلك الحرب ولكن أريد أن أصل إلى نقطة لها علاقة بالتفكير الجيوستراتيجي وكيف تستطيع الإمبريالية اختلاق حروب تستغل فيها الهشاشة الجيوستراتيجية للعرب..حينئذ كان حافظ الأسد الرّجل الوحيد الذي قهر الغرب وإسرائيل جيوستراتيجيا، قال عندما سمع بخبر احتلال صدام للكويت: لا أدري إن كان هذا رجلا مجنونا..وكان يا ما كان..حين نراجع مذكرات القيادي الفلسطيني بسام أبو شريف مؤخّرا، سنقف عند تلك الحقيقة حيث قال بأن أمريكا أوقعت صدام في مصيدة الكويت..بعد نهاية الحرب بدأ العمل على خلق بيئة حرب جديدة..يقول بشام أبو شريف أن سكوكروفت مستشار الأمن القومي قام بإصدار الأوامر لتزويد العراق بكشف كامل بكميات النفط التي استخرجتها الكويت ” خلال حرب ايران العراق ” من آبار عراقية على الحدود ، وبلغت قيمتها تسعة مليارات دولار وأوحى العملاء لصدام بأن يصر على تحصيل المال من الكويت..كان للعراق خطتين: الأولى إجبار الكويت على أن تدفع مستحقات العراق، وكانت له خطة بديلة في حالة الرفض ألا وهي الحرب..لكن صدام كان يدرك تماما أهمية الموقف الأمريكي، فطلب من السفيرة الاميركية ” غلاسبي” نقل رسالة إلى واشنطن يطلب فيها العمل على إقناع الكويت بدفع مستحقات العراق التي قام الأميركيون بابلاغ العراق حولها.. وجاء بعد يومين رد واشنطن : قالت السفيرة غلاسبي بالحرف : ” ان سياسة الولايات المتحدة تقوم على عدم التدخل في الخلافات والصراعات الاقليمية ” ..وحسب المصدر ذاته يقول: وعندما سألها وزير الخارجية : ماذا عن الاحتمال الثاني أي تحصيل حقوقنا بالقوة في حال رفض الحل السياسي؟ ، قالت السفيرة غلاسبي : ” لن نتدخل في الصراعات الاقليمية ”..وفي الوقت ذاته كان هناك تحريض للكويت بعدم الدفع..يلاحظ المصدر ذاته أن السفيرة غلاسيي اختفت تماما إلى اليوم، يتساءل هل كان اختفاؤها يعني إتلاف الدليل؟ ويزعم بسام أبو شريف مستشار سابق لأبي عمار وأحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأنه يمتلك ملاحظات حول ما قاله سكوكروفت لمجلس الأمن القومي قبل غزو العراق ، يقول سكوكروفت لمجلس الأمن القومي:” أيها السادة يبدو أننا مقبلون على حرب في الشرق الأوسط ، فقد شجعنا العراق على غزو الكويت وشجعنا الكويت على عدم الدفع بالمال الذي يطالب به العراق ، وسنتدخل لتحرير الكويت وانهاء نظام الحكم في بغداد والسيطرة على نفط العراق ”..
في الحقيقة كانت النتيجة واضحة..تحدثنا مرارا عن أنّه لا يوجد فراغ في التقدير الجيوستراتيجي لا سيما في منطقة شديدة الحساسية..بعد أن أصبحت البيئة قابلة لحرب جديدة لم تكن هناك حاجة لدليل مقنع لغزو العراق..في المرة الأولى أصبح تحرير الكويت قرار أممي بينما غزو العراق كان يحتاج إلى معلومة مزيفة عن امتلاك العراق لأسلحة كيماوية..
ويبدو أنّ التفكير ذاته لا زال مهيمنا على دول الخليج التي تفكّر من داخل بيئة لديها القابلية للاشتعال..وتساهم تلك الدول في تأجيج المنطقة دون أن تدرك أنّها ستكون الضحية الآخر لهذا المخطط..هنا تصبح المقاومة خطيرة لأنها تجعل ضحايا المخطط هم أنفسهم من انخرط فيه..لا زالوا يعتبرون أنفسهم أصدقاء للمحور الغربي وحلفاء تماما كما ظنّ صدّام..والخطأ الجيوستراتيجي هنا هو أنّهم أغفلوا ما أشرنا إليه في حكاية برجنسكي ألا وهو الاستعداد لحرب جديدة قبل ان تنتهي تلك الحرب الأولى..بالنسبة لبسام أبي شريف فإنّ الخطأ هنا يكمن في أن صدام ظنّ أن أمريكا بعد أن خرج من الحرب مع إيران أن سعتبره القوة الأساسية التي تعتمدها أمريكا في المنطقة، الأمر الذي كان صعب المنال..
ويبدو هنا أنّ صدّام في أقلّ تقدير خاض حروبا في إطار خدعتين..والخدعة هنا لا معنى لها في تقدير الجيوستراتيجيا، أمريكا تفكر في قلب العالم وهم يفكرون في حدود الشرق الأوسط..لم يستفد من مثال الشّاه الذي كان شرطيا في المنطقة ثم سرعان ما تخلت عنه واشنطن.. كما أنه هو نفسه حارب إيران ولكن تخلت عنه واشنطن والغرب ودول الخليج التي حرّضته على حرب الثماني سنوات..لم يستفد من الخدعة الأولى في الحرب مع إيران فوقع في الخدعة الثانية إبان غزو الكويت..مسلسل الخداع هذا يؤكد على أن العراق لم يكن يمتلك رؤية جيوستراتيجية حيث الحرب ليست لها قيمة في ذاتها إلاّ منحيث هي استمرار للسياسة..الحديث هنا عن الخدعة يعكس هشاشة العقل السياسي العربي الذي كانت ولا زالت تعالج به العلاقات الدولية..من يجهل شروط وأبعاد الجيوستراتيجيا ليس له الحق أن يتحدّث عن الخدعة..بل الحديث عن الخدعة يصلح تسلية للتّاريخ..ولازالت ذات الأخطاء ترتكب في المنطقة..ابتلاع طعم الآمال التي تلوّح بها الإمبريالية..التفكير ضدّ الجغرافيا..ولا زالت تداعيات الأخطاء الجيوستراتيجيا العربية ذات أثر على مجريات الأزمة في المنطقة..إنها حروب تولد منها حروب جديدة..ففي منطقة فيها النفط وإسرائيل يصبح الحديث عن تحالف استراتيجي مع الغرب بلا شروط غاية في السّخف..
ادريس هاني: