الرئيسية / الملف السياسي / العالم / إدارة السمعي-البصري بالرداءة

إدارة السمعي-البصري بالرداءة


ادريس هاني

ثمة مفارقة، فالتطور بل الثورات التقنية التي عرفتها وسائل الإعلام لا تتناسب مع المضمون..فالحقد لم يتغيّر وفعل الإسماع لم يتغير..لعل ذلك ما قصده دوبريه الذي اعتبر أنّ السمع ظلّ تقليديّا بينما أصبحنا أمام البصري بعد أن كنا أمام الصورة..وفي نهاية المطاف بات البصر من صيغ السمع..وفي تقدير دوبريه نفسه حيث لا تخفف فكرة السمعي-البصري من هذه المفارقة هناك أمر وجب أن نؤكد على صحته في ما يحيل عليه دوبريه دائما ألا وهو أن السمع في العربية كالأغريقية يعني أيضا الطاعة..سأنطلق من هذه الحقيقة لرسم الصورة التي عليها النشاط السمعي -البصري، لأقول بأنّ هذا الإدمان لا يقف عند تحول البصري إلى تابع للثّابت السمعي أي الإخضاع البصري فحسب بل هذا يعني أنّ الصورة مهما تحوّت فهي تفي بمضمون ثابت..ولولا أنّ هذه المعادلة صحيحة لما كان للرجعية شبكة تلفزيونية متطورة تضاهي الشبكات التلفزيونية في البلدان المتقدّمة..لو كانت الصورة تنقل الواقع ولا تنشيء بديلا عنه لما استطاعت أن تخترق بنيات تقليدية تخشى الحقيقة والكلمة..تحولت الصورة في وسائل الإعلام السمعي-البصرية إلى ديانة جديدة استطاعت أن تحتوي العالم في تعاليمها بخضوع لا يقاوم..وتصبح الموضوعية هنا خدعة جديدة تنضاف إلى مسلسل الخداع الذي يمارسه قطاع السمعي -البصري ليل نهار..يتحرر المشاهد من قبضة الشّاشة في أوقات محدودة ولكن مفعولها يستمر في الكلام، الحوار، الجدل..إننا في هذه الاستراحة نعيد إنتاج الصورة ذاتها وربما حين تغيب الشاشة وتحتل الصورة بضجيج الكلام المرافق لها المخيّلة تصبح صورة أكثر نفوذا..بالتعبير الفرنسي تكون الحكاية أوضح(récréation)..الاستراحة تأخذ معنى إعادة خلق وابتكار وانتجاج..إنّ للصورة استمرارية في ذهن المشاهد لا تخبوا أبدا..فترات الإنقطاع عن الصورة المصطنعة قليلة جدّا بالقياس مع طقس المتابعة والصلاة في محراب الديانة الجديدة والمجال السمعي -البصري المقدّس..ليست الموضوعية في هذا الخداع ناتجة من أنّ السّمعي يملأ بصخبه المجال ويجعل الصورة رغم حيويتها تخضع للضجيج فحسب بل لأنّ التقنية نفسها تطورت في الاتجاه الذي لا يفي للموضوعية بشيء..التقنية نفسها تستجيب لشهوة الموجّه: فهو يريك ما يرى..يحرك الكاميرا حيث يريد..تعلمون ما يمكن أن يحدث مع أي انحراف أو تموضع للكاميرا؟..غيّر الكاميرا يتغير العالم..إنّ الكاميرا غير موضوعية لأنها تخضع لتوجيه من يقف خلفها..
يستند العمل الإعلامي على الانتقاء: انتقاء الصورة، تزوييم الصورة، قطع الصورة، إرفاقها بالضجيج لخلق وجبة من السمعي -البصري جديرة بأن تهيمن على آذان الأنعام..إنّ المشاهد مستسلم نهائيا للشاشة..إنه في حالة مازوخيّة بصرية تجعل قطاع السمعي-البصري إحدى الوسائل الجديدة لتقويض الرجولة..إنه تدريب على الخضوع والعبودية والانفعال..التلفزيون الرجعي هو في حالة اغتصاب سمعي-بصري للمشاهدين..بينما الحقيقة حينما يبدأ عمليات التحقيق فإنها تبدوا بعيدة جدا عن مجال السمعي-البصري..بتعبير آخر إننا في هذا المجال لا نسمع ولا نرى بقدر ما تتطور التقنية البصرية ويواكبها الضجيج..تبدو المفارقة هنا أيضا كبيرة حينما يروج خبر بالصوت والصورة ثم سرعان ما نتحدث عن وجود تحقيق قامت به لجان تستمد سلطتها من خارج السمعي -البصري، ينتهي الأمر إلى تكذيب الخبر..هنا وجب أن ندرك بأنّ السمعي -البصري عنوان لخبر كاذب يرافق واقعا مصطنعا..السمعي -البصري لا يلغي سلطة التحقيق..
كم من صورة تقصيها وسائل الإعلام وتعتبر أنها لا تخدم خطّها التحريري..الخط التحريري إذن يسبق الصورة والكلام..إنها ديكتاتورية الوسائط وديمقراطيتها المزيفة لأنها تخضع لتوجيه صارم لا تسامح فيه وسلطة خفيّة..والإعلاميون هم منفذون لخطّ تحريري ما..شركاء في منظومة الزّيف..إننا نعيش مرحلة حساسة استطاعت الصورة أن تنقذ الكلام..تواطأت الصورة مع السماع لمزيد من الخداع..هناك قطاع سمعي -بصري في المقابل لا يلقى ذات الاهتمام نظرا لسلطة البثّ والسيولة التي تنفق على القطاع..الإعلام الرجعي يحتلّ ذات المساحات التي يحتلها الإعلام الإمبريالي..وهو يخاطب الجمهور بلغته وبما يطلبه الجمهور بينما لا يتسنى لإعلام المقاومة أن يحتل تلك المساحة..وحينما يقترب أكثر في الإقناع تظهر اللعبة الخفية للإعلام الإمبريالي والرجعي فيعمل على إنزاله من القمر الاصطناعي..زادت تلفزيونات الرجعية من أطقمها وأغدقت المزيد من المال على شبكاتها ووسعت نشاطها في الوقت الذي حاصرت فيه الإعلام في سوريا مثلا لكي لا تصل الصورة من الميدان إلى النّاس..إذن هي حرب في نطاق السمعي -البصري جبانة تقوم على سياسة التّفرّد بالمشاهد..الاحتكار السمعي-البصري..إنه قطاع لا يقبل بالمنافسة..في غياب وعي كامل للجمهور الذي لا يقف عند تفاصيل اللعبة السمعية-البصرية وحين يصحو من سكر هذا التخدير المكثّف تكون أهداف الإمبريالية قد تحققت..ومثلما يجري اليوم في الشرق الأوسط وفي سوريا تحديدا سنجد بعد فترة تحولات في الإعلام كلها تتحدث عن الخدعة وعن التغرير وعدم فهم الصورة، كلها اعترافات ستتدفق من دون جدوى..ما قيمة الاعتراف بعد التخريب..أين الاستشراف والتحقيق والذكاء الذي تمنحه الإمكانات الحديثة لقلب الطاولة على الزّيف..
التماهي مع الموقف الإمبريالي لا يقف عند السياسات فحسب بل هو في صلب الإعلام..الإعلام الرجعي هو فرع للإعلام الإمبريالي الذي يشحن الوعي بصور زائفة عن الواقع مصحوبا بضجيج إسمه التحليل السياسي والإستراتيجي لهوات يستنبتون في سياق الأزمات..فالسمعي -البصري يختار لغته وينتقي صوره ويختار الوجوه التي سترافق زيف الصورة بالتحليل الزّائف..لا توجد كاميرا حيث تُخاض المعارك لكن المحلل السياسي يستطيع أن يحلل المشهد ويستشرف وهو الأمر الذي يتطلب مزيجا بين التفاهة والحقد والنزعة المفيوزية التي تتطلبها عمليات الخداع السمعي -البصري..تتكرر وجوه مجهولة ستعرف من خلال الشاشات وتصبح مألوفة بسلطة التكرار لا بمهارات حقيقية، ويصبح الجمهور هو الذي يمنحها بقوة الإبصار تلك الأهمية..فهي تفرض عليه كما تفرض كل سلعة مسرطنة على المستهلك العاجز عن التمييز بين الأصالة والرداءة..إنّ القطاع السمعي -البصري هو القطاع الذي تتجلّى فيها أكبر عمليات الإهانة للجمهور..فهو من خلال هذا التسويق المفتعل للرداءة يخوض حربا باردة مع المثقّف الحقيقي، لأنّه في زمن الثورة السمعية -البصرية هناك مضمون واحد وجب أن ينتصر: الرداءة..

عن prizm

شاهد أيضاً

صندوق ” NED” … وكالة استخبارات أميركية ثانية

14 آب 2024 عبد الحميد غانم شكلت السياسات الخارجية الأميركية في العالم حاملاً لممارسات الولايات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *