ادريس هاني
شطر من المقاومة المغربية تجسده الأنثى..دور المرأة في المقاومة المغربية لا يضاهى..تقاليد عريقة في التّحدّي: المرأة هنا مكافحة..ومن يجهل تاريخنا سيخسر الحقيقة..في كل بيت مقاوم يتذكر أنّ امرأة هنا أو هناك حملت السلاح إلى المجاهدين أو طعنت محتلاّ أو نصبت لكتائبه فخاخا..ابحث عن المرأة المغربية في عرين الأسود..الاختزال خطيئة..انظر تجدها في المقاومة على قدر من الشراسة أسطورية..سأبدأ حديثي بالرسالة التي بعثها معاوية عبر رسوله إلى الإمام علي بن أبي طالب جاء فيها: “سأقاتلك برجال قلوبهم كالحديد” ..فكتب الإمام علي إلى معاوية قائلا: “فلقد بلغني أنك ستقاتلني برجال قلوبهم كالحديد أما والله لأقاتلنك برجال قلوبهم كالنساء”
في ذاكرة المغاربة حكاية الشبح المخيف عن المرأة التي تطارد الرجال في كل مكان في الأودية والبراري..جنّية تحمل إسم عائشة قنديشة، بينما إسمها الأميرة: عائشة الكونتيسية..المغاربة يستعملون تصحيفا لهجيا: عيشة بدل عائشة..وفنديشة بدل كونديسا(contessa)..تماما كما حرفوا عبارة آلوميت الفرنسية إلى زالاميط..ولاكويزين إلى الكوزينا..وهلم جرا..إنّ حكاية عيشة قنديشة تؤكّد على أنّ تلك المرأة التي حاربت الاستعمار وقد تحولت إلى أسطورة بلغت قدرتها على السّرية جعلت الجنود البرتغاليين أنفسهم ينظرون إليها كجنّية، واستمر الوضع كذلك حتى أنها خفي أمرها على المؤرخ المغربي وربما هنا يأتي دور السوسيولوجيا لتنقذ التاريخ من الأوهام أو من النسيان..خاضت عيشة قنديشة ملحمة من الثأر بعمليات فردية ممنهجة بعد أن قام جنود الاستعمار بقتل زوجها وتعذيب أفراد عائلتها..يذكر أنّ عيشة قنديشة هذه مغربية يقال من أصول موريسكية هي ابنة علي بن موسى بن راشد أمير شفشاون وهي أيضا زوجة السلطان أحمد الوطاسي، وخلافا الصورة النمطية التي تصور عيشة قنديشة في صورة كائن وحشي وشيطاني فإنها كانت أميرة..كان على النظام التربوي في المغرب أن يلتفت إلى الأساطير الشعبية وينقذها من التأويلات الجامدة ويعيد كتابة التاريخ مما احتفظت به الذاكرة الشعبية بصورة خاطئة..عيشة قنديشة رمز من رموز المقاومة النسائية بل هي أيقونته إذا أدركنا دقة الخطط التي نهجتها حتى تحولت إلى أسطورة وحالة غير قابلة للتشخيص..لقد انتهجت عيشة قنديشة نهجا فصاميّا مددبّرا بحيث كانت تزاول في اليوم كل نشاطها حتى أنها كانت تعطي دروسا تربوية للنساء في بيتها ولكن ما أن يجنّ الليل حتى تتحول إلى ذلك الكائن المرعب فتخرج إلى حيث تواجد الجنود البرتغال لتبدأ في تنفيذ عمليات التنكيل الممنهجة بالجنود الذين كانت تسحلهم سحلا وتنكل بهم بوحشية وتطعمهم للكلاب..وكانت تترك انطباعا لدى الجنود بأنها ليست آدمية حيث تلبس لباسا تنكّريا..وكانت تستعمل ربما الإغواء واستدراج الجنود نظرا لجمالها الفائق ثم سرعان ما تنفرد بهم وتبدأ في التنكيل بهم..ما يعزز أنها أميرة تلقت تدريبا قويا وتملك ذكاء حادّا وكانت تتقن صنائع كثيرة..
إن الأسطورة بخلاف التاريخ تخاطب اللاّوعي..وهي تنشئ واقعا افتراضيا بديلا معاشا..لقد أقنعتهم عيشة قنديشة بأن مجرد الحديث عنها قد يستدعيها في جنح الظلام..وهكذا فرضت الصمت على كل عملياتها مستغلّة الثقافة والأسطورة في عملياتها السّرّية..وسنجد من المفارقة أن السوسيولوجي المغربي من أصول فرنسية بول باسكون قد تناول حكاية عيشة قنديشة في ” أساطير ومعتقدات من المغرب”، ويروي حكاية شعبية عن ذلك الأستاذ الأوربي الذي حاول أن ينجز بحثا جامعيا حول عيشة قنديشة، لكنه سرعان ما وجد نفسه مضطرا لمغادرة المغرب بعد تعرضه لبعض الحوادث الغريبة..أقول هذا وأذكّر بأن بول باسكون نفسه مات على إثر حادثة سير مؤلمة..حاول وستر مارك أن يبحث في بنية هذه الأسطورة واهتدى ككل الأنثربولوجيين الذين ينطلقون من تشابه بنيات الأسطورة إلى اعتبارها امتدادا لبعض نظائرها في المشرق ومنطقة حوض البحر المتوسط..تصلح قراءة وستر مارك لحكاية عيشة قنديشة لاستيعاب الوعاء الأسطوري الذي احتوى حكاية تاريخية واقعية..فالمغاربة نسجوا حولها أساطير أخرى..إنها عيشة كونتيسّا المقاومة..