علي بن مسعود المعشني
يدور الحديث دائمًا في وطننا العربي على وجه الدقة والتحديد عن سلبيات تولي العسكريين للسُلطة في بلدانهم دون ذكر للإيجابيات أو الظروف التي استدعت العسكريين للسلطة، وبالتالي تنتفي الموضوعية والعلمية في الطرح والمُعالجة، طالما الهوى والعاطفة هما من يدفعان للتوصيف وإطلاق الأحكام بدلًا من الآراء وانتقاء التجارب وتجزأتها، والأخطر من كل ذلك هو سوق الأحداث دون تأصيل لها أو تسكينها في سياقها التاريخي والظروف الموضوعية التي أحاطت بها.
وبالتَّالي يُمكننا القطع بأنَّ هذا التنابز لا يخلق وعيا ولا إدراكا ولا يُحصن الأوطان بأفضال تراكم التجارب واستخلاص العبر منها وتقويم أعوجاجها والبناء على الصالح منها دون شخصنة أو ثأرات أو قطيعة بين الأجيال، على اعتبار أنَّ الكل مواطن والكل له الحق في الإسهام في بناء الوطن كل وفق اجتهاداته وممكناته وماتجود به مُعطيات الزمان والمكان لتحقيق الممكن والتطور المنشود لبلاده.
وللحقيقة نقول ومن واقع تصفح تاريخ العالم وخاصة ما يُعرف بالعالم الثالث وهي الدول الأقل نموًا وحديثة النشأة والعهد بالتنمية العصرية بمفهومها الشامل أن أغلب البلاد في العالم والتي شهدت نهوضًا حقيقيًا وفق مشروعات وطنية واضحة وجلية وحافظت على وحدتها الترابية وأطياف شعوبها وفرضت نفسها كقوة عسكرية واقتصادية إقليمية أو دولية فاعلة، كانت بفضل حكم العسكر لها والأمثلة كثيرة، ولا يُمكن حصرها في مقال، ولكن من باب الإنصاف والواقعية نسرد بعض الأمثلة من العالم مع ضرورة أن يعي القارئ الكريم أنَّ حكم العسكر في الغالب يحمل سمات الديكتاتورية المستنيرة. والديكتاتورية بمفهومها السياسي هي عبارة عن منظومة حكم شأنها شأن أيّ منظومة قامت أو لا تزال قائمة في العالم، وهي عبارة عن حصر الصلاحيات والسياسات في حزب أو مؤسسة الحكم وليس شخص الحاكم كما يُفهم ويروج حيث لايوجد فرد يتحمل بمفرده أعباء حكم بلد مهما بلغ من قُدرات، فالديكتاتورية اليوم تُفهم من الألسنة والثقافة الشفهية لا من قواعد الحكم ونظريات السياسة فأصابها الكثير من الغبش والضبابية والعوار.
والديكتاتور المُستنير كالأب الوفي لأبنائه فهو حريص جدًا على مصلحتهم وإسعادهم ولكن دون إشراكهم في الرأي لأنه يمتلك مشروعًا في ذهنه لحياتهم وحياة أسرته، وهكذا كان أغلب الديكتاتوريين ممن حكموا العالم، والديكتاتور هنا هو عكس الطاغية والمُستبد واللذان لا همّ لهم سوى المكاسب الشخصية والنجومية المطلقة دون اكتراث بالنتائج أو اعتبار لمصلحة من يرعاهم ويحكمهم، لهذا قد يُصدم الكثيرون حين نصف الزعيم الماليزي مهاتير مُحمد بالديكتاتور المستنير أو نظيره السنغافوري لي كوان كذلك، فهما وفق قواعد الحكم والسياسة مارسا الديكتاتورية المستنيرة في بلديهما وتفردا بالتخطيط والتنفيذ لمشاريع نهوضها دون مزاحمة من أحد أو إشراك لأحد. وبهذا يُمكن القول إنهما مثالان جليان للديكتاتورية الحقة في زمننا المعاصر، كما لا يمكننا إغفال الظروف الموضوعية التي أحاطت بهما وببلديهما والتي أنتجت مشروعاتهما الوطنية في هدوء وإثمار والفضل الأول والأخير هو عنصر الاستقرار لبلديهما حيث لاحروب داخلية ولاخارجية مورست عليهما ولا قلاقل أو زعزعة أو مؤامرات من الخارج ولاقشور ديمقراطية ديكورية مستوردة كما هو الحال في أمثلة أقطارنا العربية.
وبالعودة إلى سر تفوق العسكر في الحكم وخاصة في العالم الثالث نقول إنَّ للقادة العسكريين خصائص شخصية مميزة طبيعية ومكتسبة تجعلهم مختلفين بعض الشيء عن أقرانهم من المدنيين، فتأهيلهم العسكري يمنحهم مهارات خاصة في فنون القيادة ووضع الاستراتيجيات والتخطيط وإدارة الأزمات والمبادرة والحسم والصرامة والانضباط واتخاذ القرار إضافة إلى العنصر الأكبر والأكثر حضورًا وهو العقيدة العسكرية الصارمة والتي تُقدم الوطن وأمنه واستقراره والذود عنه على كل شيء.
لهذا كان العسكر في الغالب قادة تحرر وطني وصمام أمان لأوطانهم في مفاصل تاريخية بعينها في أزمنة الاستقلال؛ حيث تتدخل المؤسسات العسكرية العميقة في السياسة والحكم حين تستشعر الأخطار على الوطن الخارجية منها أو الداخلية أو تلمس تخاذلا أو قصورا جلياً في أداء الساسة بما يُهدد الأمن القومي للوطن ومنجزاته ومكوناته بل وفي بعض الحالات كان تدخل المؤسسة العسكرية مطلبا شعبيا.
فالتاريخ يُحدثنا أنه لولا الزعيم جوزيف ستالين لما كانت هناك قوى عظمى تُسمى الاتحاد السوفيتي، فقد أضاف الرجل القوى الأخرى المهمة للدولة الصناعية منها والاقتصادية إلى جانب القوة العسكرية ليصبح الاتحاد السوفيتي القطب المنافس لقوى الغرب والرأسمالية العالمية، كما بنى الزعيم جوزيف بروز تيتو بلده يوغسلافيا ووحدها وجعل منها قوة سياسية حيادية أنموذجية ووازنة في السياسة الدولية، وبغيابه تفتت الاتحاد اليوغسلافي إلى كيانات صغيرة (صربيا، كرواتيا، والبوسنة والهرسك، مقدونيا، الجبل الأسود)، وبفضل الزعيم أحمد سوكارنو نالت إندونيسيا استقلالها من الاستعمار الهولندي وانطلقت نحو العصرنة والمشروع النهضوي الوطني، وقد كان سوكارنو حاسمًا في الحفاظ على اللحمة الوطنية ووحدة التراب الإندونيسي إلى درجة الهوس والتطرف الأمر الذي دفعه لاتخاذ قرار انسحاب بلاده من منظومة الأمم المتحدة حين طُرح مشروع انفصال تيمور الشرقية عن إندونيسيا (والتي انفصلت مؤخرًا بدعم غربي كبير) ولم يقبل بعودة عضوية بلاده إلا بعد سحب المشروع والسكوت عنه.
وقد كان للزعيم الخالد جمال عبدالناصر مشروعه النهضوي العربي بشقه التحرري والوحدوي والنهضوي، والذي ألهم أحرار العالم وحركات التحرر في العالم قاطبة وجعل من مصر محور كتلة عدم الانحياز ورائدة مشروعات التأميم واستعادة مقدرات الوطن وكرامة المواطن العربي المهدورة والمستباحة من قبل الاستعمار الغربي ووكلائه في المنطقة، وكان شعار الزعيم ناصر في سنوات التحدي والكبرياء هو: “إن ثمن الكرامة أقل بكثير من ثمن الاستسلام والخضوع”.
والملاحظة التاريخية هنا أن إخفاق بعض العسكر في الحكم ببعض البلاد أتى نتيجة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاسدة في أوطانهم والتي أنتجتها التجارب الديكورية للديمقراطيات المستوردة الهشة والتي لم تجد المقومات الحقيقية ولا الحاضن الفكري للنجاح حيث لم تكن حاجات حقيقية للشعوب فأصبحت عبئًا عليهم وعلى أوطانهم وأهدرت الكثير من الممكنات من مقدرات الأوطان الطبيعية والبشرية وغيبت المشروع الوطني والممكنات التنموية بفعل التنابز وصراع النجومية وتسجيل النقاط والزبونية السياسية. ففي البلدان التي تشربت بالديمقراطيات المقلدة علت نبرة العداء للعسكر بلا مُبرر علمي أو منطقي ولغرض في نفس يعقوب، بينما في الديمقراطيات الأصلية يفخرون بزعاماتهم العسكرية من أمثال بسمارك موحد ألمانيا والجنرال فرانكو حامي وحدة أسبانيا وملكيتها، والزعيم الفرنسي ديجول والزعيم البريطاني تشرشل والزعماء الأمريكان ترومان وروزفلت وأيزنهاور وغيرهم الكثير ممن تقلدوا الحكم في أوطانهم وتركوا بصمات يصعب إنكارها أو زوالها.
قبل اللقاء: ليس من العقل أو المنطق أن يكون قدر العسكر الموت من أجل الوطن فقط وليس الحياة من أجل الوطن كذلك.