ادريس هاني
لكل شيء فلسفته وللتنمية فلسفتها، وهذا ما أغفله أرباب النظر في هذا المجال حتى جعلوا من التنمية أرقاما وبيانات صامتة كما وضعوا للتنمية شروطا ميكانيكية لا تأخذ بعين الاعتبار جملة العوامل الخفية التي تحكمت في مسارات التنمية والتخلف في العالم. ولا شكّ في أنّ الإيغال في برنامج الأرقام والبيانات هو أمر تقتضيه عملية الإحصاء والوصف وهما جانبان لا يمثّلان الأسباب الحقيقية للتنمية والتخلّف. وخلال عشرات السنين والنظرية التنموية لم تخرج عن أصول مرجعيتها الكلاسيكية، بينما ما استجد منها لم يبرح الجوانب التقنية والتفصيلية لتطبيق الخيارات الأنجح لحماية المنظومة الرأسمالية التي تطوّر في أدواتها ولكنها تكرّس جوهرها التّاريخي باعتبارها مذهب في الاقتصاد يقوم على استغلال الإنسان لا يهمّ بأي وسيلة يتم ذلك الاستغلال ولكن الثروة في النظام الرأسمالي لا يمكن إنتاجها في شروط عادلة وبالتّالي فالتوزيع لن يكون للأسباب نفسها عادلا. ولا نريد العودة إلى تعليل حرص الرأسمالية على الحفاظ على عدم المساواة، ولكن لنكتف بالموقف التاريخي من المساواة حيث إن تحسين شروط العمّال يعتبر في نظرها خطرا على الإنتاج، ولذا لا بدّ في نظر الرأسمالي أن يجعل العامل في حالة عدم الشبع وفي الوقت نفسه يفتح له مجال الحلم بالوصول إلى الرفاهية المستحيلة وهذا هو الدافع للعمل والضامن لاستمرارية الاستغلال. ومثل هذا من شأنه أن يعزّز الحقد الطبقي لأسباب سيكولوجية تجعل الشعور بالإحباط وعدم الوصول يتفجر حقدا، وهو الحقد الذي يتعدّى الحقد الطبقي إلى الحقد داخل الطبقة نفسها وهو ما سأصطلح عليه من باب المعالجة العلم نفس-اجتماعية بالحقد البين -طبيقي، والثاني هو الحقد داخل الطبقة نفسها..اهتمت الدراسات السوسيو-اقتصادية بالفوارق الطبقية وأثرها في العلاقات الاجتماعية ولكنها لم تهتمّ بأثر هذه الفوارق على العلاقات داخل الطبقة نفسها، تلك التي بدل أن تدرك مصلحتها التاريخية وتكتسب الوعي بوضعيتها التّاريخية تخضع لآثار تحريف الوعي تحت طائلة الإحباط وهو ما يفسّر أشكال الجريمة الجديدة التي تنطلق من انزلاقات نفسية -اجتماعية يمكن اعتباره شكلا من البسيكوز-الجماعي..تتحوّل الطبقة المسحوقة في منظومة الاقتصاد الاستغلالي إلى طائفة أو مجموعة مغلقة (caste)، تنتج رموزها وثقافتها ولغتها، ثم سرعان ما تتحول إلى دولة داخل الدولة، مما يعني أنّ الاستغلال الحديث يتهدد السلم المجتمعي والصّحة الجماعية. يتحدث المدافعون عن اللاّمساواة باعتبارها طبيعية، غير أنّ الطبيعة تمنح فرصا أكثر مما يمنحه النسق الحديث، فهذا الأخير يحدّد لك المكان الطبقي المناسب، ويُخضعك لشروطك الطبقية ونمطا في الاستهلاك إن لم تدخل في دورته ستكون تحت طائلة التعسف والقهر الاجتماعي ويجعل فعل الخروج من الطبقة فعلا يقتضي كفاحا وثورات شخصية أو جماعية..النسق الرأسمالي يعمل وفق منهجية تكريس الفوارق بخلاف الطبيعة..اللاّمساواة في هذا النسق هي افتعال متحكم فيه، وحيث مع تقدمه أصبحنا نتحدث عن فرص العمل التي تخضع الطبقات الدنيا من المجتمع إلى أن تعيش تحت طائلة الضغط النفسي للفرصة بمعناها الإجتماعي..
منذ الكلاسيك اتضح بأنّ نمط الانتاج الجاري به العمل وباعتبار نمط الاستهلاك يجعل مشكلة تحقيق العدالة في التوزيع تكاد تكون مستحيلة..طرح مالتوس بكل صراحة المخرج في التخفيف من الحمولة الديموغرافية باعتبار أنّ الديمغرافية تهديد للحياة البشرية..إنسانية يهددها التكاثر..والحل هنا هو في إخصاء النوع البشري بواسطة إبادة القسم غير النّافع: العالم الثالث..إذكاء الحروب..بينما جاء الحلّ ماركسيّا تحت تأثير ريكاردو مع إضفاء الطابع الاجتماعي على إنتاج القيمة، يدور حول إشكالية القيمة المضافة وما ينبني على ذلك من تراكم رأس المال، ودائما يكون البحث عن الإنتاج ووسائله وأنماطه ونظام التوزيع ولا حديث عن الوضعية الذُّهانية للاستهلاك..فالإستهلاك ظلّ هو الدّافع والضامن لاستمرار المنظومة الإنتاجية وبالتّالي هو سبب ما أسميناه بالبسيكوز-الجماعية..تقاد الأمم جميعا إلى أنماط استهلاكية غير عقلانية تلعب فيها الأساطير والخيال دورا تدميريّا للنّوع..تفرض هذه الأنماط نمطا من الانتاج أيضا ومن التوزيع مما يعني أنّ العالم غرق في ذُهان الاستهلاك إلى حدّ بات الاستهلاك هو القضية الأخطر وربما في نظري هو العامل الأكثر تأثيرا وخطورة من القيمة المضافة التي ينتجها بدل أن تنتجه..لقد عاشت البشرية قرونا تحت طائلة الوضع الاستغلالي برسم القيمة المضافة حيث لعبت الثقافات أحيانا دورا حمائيا في هذا المجال، لكنها غير قادرة على الاستمرار فيما لو حصلت ردّة في نمط الاستهلاك..نتساءل بدورنا: هل في مقدور العالم أن يغيّر من نمط الاسنهلاك دون قيام حرب عالمية؟
سأستعير من علم النفس اللاّكاني فكرة الأنا غير الواقعية بموجب أطروحته حول المرحلة المرآوية، وأعتقد أنّ علم النفس اللاّكاني مضافا إلى فكرة الاستهلاك كأيديولوجيا عند جان بودريار بإمكانهما أن يساهما في تشخيص هذه المعضلة..إنّ الاستهلاك لاعقلاني ولكنه يأسر الذات باعتبار أنّ الاستهلاك هنا ليس حاجة إنسانية بل شيفرة للتموقع الاجتماعي..ويمكننا الذهاب إلى أنّ ثمة ولادة بيولوجية وولادة اجتماعية وبها أستطيع القول أنّ الاستهلاك هو نتيجة تحدد ولادتنا الاجتماعية لا بل إنّ الرأسمالية اخترقت حتى فترة الرضاعة لتقحم الأطفال الرّضع في دورتها الاستهلاكية، وهنا الفطام يصبح خاضعا لأنماط جديدة من الاستهلاك اللاّعقلاني..يخضه الإنسان في ظل هذه المنظومة إلى نمط من الأسر الاستهلاكي الشمولي..سأعود إلى لاكان وكيف أنّ المسأل تتعلق هنا بأنّ ذواتنا لا تنكشف بذاتها لنا بل تنكشف بالآخرين لنا، فذاتنا تتشكل في أعيننا من خلال نظرة الآخر..والنتيجة هي أنّ الأنا واقع في أسر المحيط والبيئة..ومن هنا يمكن قراءة الولادة الاجتماعية من هذا المنظور حيث يمكن اعتبار تشكل الأنا في منظومة الاستهلاك..وهذه العملية تتحكّم فيها الرأسمالية من المبتدأ حتى الخبر..من الرّضاعة حتى الكفن..هذيان الاستهلاك في الولادة وحتى في تدبير الموت..
هنا تجد المنظومة الرأسمالية نفسها أمام حرب شمولية على النوع البشري، والأمر بات يتجاوز القيمة المضافة لأنّ عصر العبودية الجديد لا زال يفرض استحقاقه، بينما اعتبر ماركس أنّ الرأسمالية ضرورية للقضاء على العصر العبودي..أي هي رغم كونها النقيض فهي تعمل لصالح المخطط الاشتراكي، غير أنّ الرأسمالية تتطوّر بصورة تنقلنا من نمط عبودي إلى آخر، والكل ينخرط في أنماطها بشكل من الأشكال لتعقد المعركة الاقتصادية في العالم والتي هي أصل كلّ بلاء..وعلى هذا الأساس أضف تفسيرا جديدا على ما اصطلحت عليه بحروب ما بعد التنمية، حيث يمكننا القول بأنّ النموذج التنموي بلغ الباب المسدود منذ بروتن وودز، وما تبقى هو سياسات تكييف وخضوع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تدبير اقتصادات العالم الثالث، بينما ظلّ العامل الغائب اليوم في تفكيك السياسات الاقتصادية الغربية هو دور النّهب لثروات الأمم في إنتاج الرّفاهية في الشمال. لا القانون الدولي ولا نظام بروتن وودز فتح ملف الثروات التي شكلت منطلقا للإقلاع الاقتصادي باتجاه الرفاهية، وحتى حينما فرض بموجب مخرجات الحرب العالمية الثانية تقسيم أوربا وجدنا أنّ أثر تراكم الراسميل الكولونيالي في أوربا الغربية بارزا مع أننا نتحدث عن دول من ذات السلالة التاريخية والجماعية..وحتى خلال الحرب الباردة كنّا نتحدث عن منهجية ضخّ الراسميل بكيفية أو بأخرى بالنسبة لأي دولة تريد أن تتقدّم..فالنموذج التنموي الأكثر نجاحا جاء على أساس ضخّ الراسميل لأسباب جيوستراتيجية كما يقع في أوراسيا، أحزمة أمنية ضدّ اليابان تارة أو الصين أو روسيا..في المقابل أخفقت كل النماذج التنموية التي تقوم على تدبير صندوق النقد الدولي أي على الدين الخارجي وإعادة الهيكلة واعتمادا على الموارد الطبيعية المحلّية، هذه الأخيرة لا تتيح توفير القيمة المضافة لتحقيق معدّلات نموّ، مما يجعلنا أمام تراكم أسباب التّخلف..ثروات الأمم تعرضت للنهب إبان مرحلة الاستعمار، ولكنها اليوم تنهب أكثر بسبب أساليب الاقتصاد الكولونيالي الجديد..القروض وتوابعها من التحكم في التدبير وإعادة الهيكلة والابتزاز السياسي..فالأمم لا يمكنها أن تتقدم تنمويّا بالمساعدات المشروطة وفي غياب مشروع نهضوي متكامل..الاقتصاد الثالثي برمته هو اليوم في أسر هذه الشمولية الإمبريالية التي تتحكم بمنافذ الاقتصاد..لقد بات واضحا أنّ النماذج التنموية بلغت الباب المسدود حيث أصبح الأمر مختزلا في قضية الدعم الخارجي وما يأتي في حكمه كقضية الاستثمار الأجنبي..وهذا التراجع في معدلات النمو يجتاج اليوم الغرب نفسه، الذي بنى رفاهيته وبالتالي سلمه الاجتماعي على أساس خدعة الاستهلاك وذهان الرفاهية، لكن أي تراجع في معدلات الأجور سينتهي بنقل الأزمة إلى الغرب..إن الحراكات الاجتماعية في الغرب ستزداد بوتائر حادة كاشفة هي الأخرى عن خلايا الأزمة النائمة، وبالتالي ستفجر كل تناقضات الغرب المخملي ذي السمعة العالمية في مجال النّمو والرفاهية..حروب ما بعد التنمية بدأت، وهي تتطور وتتعاظم بشكل منهجي..بل سنشهد حروبا أكبر وأكثر تعقيدا تهدف إلى تأجيل الانهيارات الاجتماعية الغربية..تبدو تناقضات الغرب حيال بعض أشكال الحروب ناتجة عن صراع حاد ينتظر الكيانات الغربية حيث ستظهر تناقضاتها تباعا إلى حدّ تفكيك الاتحاد الأوربي جريا خلف مثال بريطانيا، ستنموا التناقضات وبالتالي ينعكس ذلك على بنية التحالف الغربي اقتصاديا وسياسيا انتهاء إلى بروز النعرات العرقية والعنصرية وبوادر صراع ثقافات..لقد شكلت الرفاهية صمام أمان للسلم الأهلي الأوربي، غير أنّ الرّدة إلى اقتصاد الندرة ستكون له آثار على المديات القادمة، فتكون حرب ما بعد التنمية هي بداية انهيار المنظومة الغربية وتحوّلها إلى دول تحت الرفاهية..القيمة المضافة لهذا الانهيار هو صعود قوى اقتصادية جديدة وبالتالي ضرورة قيام نظام عالمي جديد…
اذريس هاني