الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / شرايين سورية المفتوحة!

شرايين سورية المفتوحة!

عقيل سعيد محفوظ
سورية، هذا البلد المشرقي الجميل، بلد منكوب بالفعل، بسبب خصومه وحلفائه في آن، وهم ليسوا سواء، إذ يحتدم “الصّراع على سورية”، ليس من أجل إعادتها بلداً آمناً ومستقراً، وثمة من الحلفاء من يريد لها ذلك بالفعل، إلا أنه يريد مع ذلك أن يحقق أهدافاً أخرى، كأن تكون سورية ما بعد الحرب “على شاكلته” مثلاً، أو قريبةً منه، أو جزءاً من رهاناته الإقليميّة والدوليّة، وقد لا يتطابق ذلك تماماً مع ما تريده سورية نفسها.

وليس في عنوان هذا النصّ أي مبالغة، فقد حدثت في سورية كلّ الأهوال الممكنة للحروب، من دمار، ليس للبنى المادية فحسب، وإنما المعنوية والرمزية منها أيضاً، وإذا تمكن أي من فواعل الحرب الدائرة اليوم من تحقيق ما يصبو إليه، فمن المحتمل أن تصل الأمور بنا إلى “سورية أُخرى” مختلفة عما كانت عليه قبل آذار/مارس 2011، وبالطبع مختلفة عن سورية المأمولة في ما بعد الحرب.

جانبٌ من الصراع المحتدم اليوم يتخذُ طابعاً مختلفاً، إذ إنَّ الهدف هو في جانبٍ كبيرٍ منه “اغتنام البلد” ككلّ، أو اغتنام الحصة الأكبر منه، أو ما أمكن من حصة. وقد ظهر منذ البداية أنَّ سورية أصبحت ساحة معارك متداخلة ومتوازية بين فواعل إقليمية ودولية عديدة، كما سبق أن عبر عن ذلك وزير الخارجية الأمريكيّ الأسبق جون كيري، أو ساحة “معركة بين بين الحروب” كما يصفها الإسرائيليون، ومن أسفٍ أن هذا صحيح. ومن الواضح أنَّ تراجعَ المواجهات العسكرية في سورية نقلَ البلاد إلى مستوى آخر من التهديد، يتركز اليوم حول طبيعة الحلّ أو التسوية، وطبيعة المجتمع والدولة، واتجاهات السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد الحرب.
نستعير عنوان النصّ من كتاب للروائيّ الأوروغواياني إدواردو غاليانو بعنوان “شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة”، والمكتوب يظهر من العنوان، كما في مثل مشرقي معروف. وينطلق حديثنا هنا من أنَّ الحرب طالت كل شيء تقريباً في سورية، ولا يزال كل شيء تقريباً تحت التهديد، وهو ما يفسّر أو يبرّر حديثنا عن “شرايين سورية المفتوحة”:
-أول الشرايين المفتوحة هو استهداف “فكرة الدولة” وطبيعتها، وطبيعة النظام السياسيّ، والبناء الدستوريّ، وطبيعة التكوين الاجتماعيّ والتفاعلات الاجتماعيّة والإثنيّة والدينيّة في سورية.
-الهيمنة على مدارك ومخيال السوريين، ومحاولة جعلهم “يتمثلون” ما يراد لبلدهم، وأن تتنازعهم تلك “التمثلات”، ليقعوا ضحية قابلية انفجار بلدهم ودخولهم حروب ومواجهات وتمزقات ماديّة ورمزيّة.
-شرايين مفتوحة في كلّ الجهات: في الشمال حيث تتدخل تركيا لإقامة كيانيّة في مناطق سيطرتها المباشرة وسيطرة الميليشيات الموالية لها في إدلب وريف حلب. وفي منطقة الجزيرة أو ما يُعرف بــ “شرق الفرات” التي تسيطر عليها فعليّاً الولايات المتحدة تحت واجهة كردية. وفي المنطقة الجنوبية حيث لا تزال لدى “إسرائيل” أجندات تغلغل واختراق في درعا والقنيطرة وربما الغوطة بريف دمشق، وثمة تقديرات بأنّها تُعِدُّ لأجندات مشابهة تجاه السويداء.
-ثمة شرايين مفتوحة، يسببها الحلفاء هذه المرة الذين يسعون للتدخل والهيمنة –من باب الاستثمار وإعادة الإعمار– على قطاعات حيويّة للبلد مثل: الفوسفات والنفط والغاز والنقل البريّ والجويّ والبحريّ، وحتى الصناعات الدوائية، والزراعة، والتعليم وغيرها. وهذا يتعلق بروسيا وإيران أساساً، فيما تنتظر الصين أن تتضح ملامح الحلّ أو التسوية واتجاهات القوة والنفوذ!
-ثمة شرايين مفتوحة في الداخل، وهي أكثر خطورة؛ بل أكثر كارثية وتنشأ من: الفساد والهدر، وسوء الإدارة، والإخفاق في السياسات الحكومية، واستنزاف الرأسمال البشري والمادي، والإجهاد القيمي والثقافيّ. وقد كشفت الأزمة عن أنَّ الهوية الوطنية والدولة لم يكونا مستقرين أو آمنين بالقدر الكافي، ولذا أمكن للخصوم تفجيرهما بسهولة غير متوقعة.
شرايين سورية مفتوحة، ليس بما هي بذاتها “موضوعاً” للصراع فحسب، إنما بما هي “ساحة مواجهة” و”تراسل” بين مختلف الفواعل الإقليمية والدولية: تركيا وإيران، “إسرائيل” وإيران، إيران والولايات المتحدة، روسيا تجاه كلّ من تركيا والولايات المتحدة وحتى إيران، الولايات المتحدة، وحزب الله تجاه “إسرائيل”، إلخ.
إنَّ لدى مختلف الأطراف أولويات غير مطابقة لأولويات السوريين أنفسهم، وهذا غير مطلوب أساساً، بيدَ أنَّ ثمة مخاوفَ من أن يحاول الشركاء المُضي في أولوياتهم، في مواجهة أولويات خصومهم من جهة، وفي مواجهة أولويات أهل الدار، أعني السوريين، من جهة أخرى.
لكن أن يشعر الفاعلُ أو الطرفُ أنه “قَوَّام” على أهل البلد، وأن له عليهم “دَيناً” ماديّاً أو معنويّاً، ويجب عليهم أن يسددوه، فهذا يمثل “شرياناً مفتوحاً” رئيساً يتهدد سورية بكليتها، ويهدِّدُ معها كلّ التحالف الإقليميّ المعروف باسم “حلف المقاومة”، كما يهدد الآمال والفرص البازغة بإمكان بروز نظام عالميّ متعدد الأقطاب وأكثر عدالة وتوزاناً.
تَزين دمشقُ تلك المخاطر والتحديات بـ “ميزان معاوية”، إن صح التعبير، وصانعو السياسات فيها هم من أبنائه أو من خرِّيجي مدرسته، وهو ميزان بالغ الحساسية، وليس من السهل عليهم أن يقبلوا بقاء شرايين هذا البلد مفتوحة، ولن يقبلوا!

المصدر: مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات

عن prizm

شاهد أيضاً

إسرائيل تنفّذ أكبر عملية أمنية في تاريخ الصراع: هل فُتحت أبواب حرب بلا ضوابط ولا أسقف ولا حدود؟

18 أيلول 2024 إبراهيم الأمين خلال دقيقة واحدة، نجح العدو في توجيه أقسى ضرباته إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *