د . بهجت سليمان
1▪ لم تتعوّد سورية في تاريخها على السّلام ، إذ لطالما كانت عبارة عن محّطة حرب تلو الأخرى ، حيث عرفت جميع أنواع الحروب في الّتاريخ منذ أقدم عهود الحروب التّقليديّة و حتّى هذا الجيل المعاصر من الحروب ، و الذي يُعتبر أحدث أجيال الحروب العالميّة التي هي من أولويّات أهدافها و أهمّها و أعمقها ، تحويل الدّول إلى ”دول فاشلة” ، بالعموم ، و تدمير المجتمعات عن طريق تحويلها إلى مجتمعات متقاتلة في ما بين أعضائها ، متناحرة الجماعات و الأفراد .
من جانب آخر ، فإنّ حروبَ السّنوات أو العقود الطويلة ، و الحديثة ، لا ُتقاس بدالّة الزّمن فقط ، و إنّما لها مقاييسُ أخرى تُظهر أبعادها المختلفة ، و بخاصّة إذا كانت هذه الحروب من النّوع المركّب و المعقّد و الذي يُضمر أهدافاً خاصّة أكثر من تلك المعلنة ، و بالأحرى من النّوع الذي يُضمر أهدافاً لا ترتبط ، من بعيد أو من قريب ، بتلك المعلنة ، كما هو الأمر في الحرب على سورية ، هذه التي تجاوزت الكثير من تقاليد الحروب و توقّعاتها و أدواتها و أغراضها و أهدافها و غاياتها ، إلى ما هو أكثر بعداً و عمقاً و خصوصيّة من المشاريع المتعدّدة في الحرب نفسها ، بتعدّد الأطراف و التّحالفات و الشّراكات و العداوات و الأعداء و الأصدقاء، مع أخذنا بالاعتبار أنّ لكلّ ”قوّة” فاعلة على أرض الحرب السّوريّة ، هدفها الذي ربّما يتشابه و يتوافق ، أو ربّما يختلف و يتغاير ، و أحياناً يتناقض و يتصارع فيما بينها ، و لو بدبلوماسيّة و صمت إعلاميّ ، أو بوضوح و صراحة لا يوجد ما يجعلهما طيّ الكتمان السّياسيّ .
2▪ و لقد تداخلت في الحرب السّوريّة عواملٌ خارجيّة و داخليّة و إقليميّة و دوليّة ، حتّى عاد المشهد العامّ للحرب قد انجرف إلى الإفصاح عن تفاصيل ، بعضها يعرفها ذوو الشّأن و الاختصاص و الاهتمام ، و بعضها الآخر أصبح يعرفه – إذ أنّه يعيشه – كلّ مواطن سوريّ .
و من دون دراية من الكثيرين ، فقد انزلق هؤلاء إلى مواضع تنظير العارفين بخبايا الأمور ، و القادرين على إدارة هذه ”الحرب” و مفرزاتها و نتنائجها ، عن بعد و عن جهل أيضاً ، في الوقت الذي يقف فيه أكثر الفاعلين في هذه الحرب وقفات التّأمّل الطّويلة و الصّعبة – و أحياناً ، التّردّد و الإحجام بالسّلبيّة ! – و إعادة الحسابات المرهقة و مراجعتها في كلّ ساعة من ساعات الصّراع ، هذا إن لم نُردِ المبالغة في تواتر المراجعات .
نحن في سورية ، و كما كرّرنا مرّةً تلو المرّة ، و لمن لا يعلم ، فإنّنا نخوض حرباً عالميّة ، هكذا بكلّ وضوح و بساطة المؤدّى، مع ما يحمله هذا ”الوضوح” من جميع أصناف النّتائج ، تحت ذلك العنوان العريض .
و من يأخذ على هذه الكلمات مأخذ وقوعها في التّكرار و شرح ما لا ُيشرح أو ما هو غنيّ عن الشّرح ، فإنّه لِيَعْلَمِ الجميعُ أنّ ”المعرفة” النّظريّة غير المقترنة بضروراتها التّنويهيّة و مقتضياتها العمليّة ، إنّما هي حالة لا تقل سوءا عن الجهل ، و لا سيّما عند هؤلاء المتذبذبين في قناعاتهم و مشاعرهم ، و العاملين على رهن هذه و تلك بالمتغيّرات اليوميّة و طرق العيش الاجتماعيّ الصّعب الذي طال الغالبيّة من أوساط المواطنين و السّكان السّوريين .
3▪ نحن ، عندما نتناول جانب ”الصّعوبات” و المشكلات التي أفرزتها و لازمت هذه الحرب ، فإنّنا لسنا بصدد وضع ”بيبليوغرافيا” لتصنيف المشكلات اليومّية التي مسّت و تمسّ غالبية السّوريين ؛ و إنّما نجنح إلى رصد ”المشكلات” و الصّعوبات النّوعيّة الأشمل و الأبقى و الأكثر عمقاً و الأبعد تأثيراً على واقع المجتمع و الدّولة في سورية ، و ما سوف يقترن مع المستقبل إلى زمن بعيد ، و ذلك من مختلف جوانب الآثار المدمّرة اجتماعيّاً و اقتصاديّاً و سياسيّاً و إداريّاً و أخلاقيّاً ، لهذه الحرب .
رافق ظهور الصّعوبات ، أو قُلِ الاستحالات ، أحياناً ، مشكلات جديدة فيها ، هي نفسها ، و أخرى متعلّقة بأنماط السّلوك المعياريّة ، هذا إذا كان ثمّة بيانات عمليّة أو نظريّة تستطيع قياس التّغيّرات العميقة التي طرأت على واقعنا و مستقبلنا ، بارتباط في ما بينهما ، في الصّميم .
● أوّلاً – في مختصر الصّعوبات و المشكلات الواقعّية :
4▪ لن نعود بالحديث إلى بديهيّاته التي صار يُدركها الجميع ، بالنّسبة إلى تلك الظّواهر الشّاذة و الصّعبة و التي خلقت مشكلاتها المرتبطة بها ، على الصّعيد اليوميّ ؛ فهذا ممّا قد أشبعته الأحاديث في كلّ مكان إشباعاً ربّما تجاوز حدود العقلانّية ، مع تفهّمنا لأمر أنّ المصاعب التي تحمّلها الشّعب السّوريّ ، لا يمكن أن تبقى ، بالنّقاش ، في مجال العقلانّية ، بل أنّ بعضها هو من الممكن أن يحجز له مكاناً طبيعيّاً في أرض ”الجنون” .
نتفهّم و نفهم معاناة السّوريين على هذا الصّعيد ، كما نشاركهم تلك المصاعب و المشكلات ، و لو بالتّفاوت الطّبيعيّ في الدّرجة و حجم تلك المشكلات ؛ و يمتدّ بنا الحال إلى البحث عن أعذار لكلّ من تجاوزت لديه ردود الأفعال حدودها ”الطّبيعيّة” ، حيث خرجت تلك المصاعب عن كلّ منطق طبيعيّ أو مألوف ، هنا ، لدينا ، و في العالَم و التّاريخ .
غير أنّنا ، هنا ، نحن بصدد توثيق بعض المصاعب و المشكلات التي تَنحّتْ جانباً و دفعت إلى المقدمة تفاصيلَ بعضها مرتبط مباشرة بالمشكلات ، بينما بعضها الآخر حكمه الخبث السّياسيّ و الاجتماعيّ فتجاوز بذلك مسوّغاته الحقيقيّة ، و غطّى – بقصد – على الأهمّ من المصاعب و المشكلات ، حّتى بدا على بعض التّعبيرات على تلك المستحيلات ، أّنه نتيجةُ خلفيّةٍ و فعلٍ فقدان براءتهما و تلقائيّتهما الّلتين تعزلان الحقائق عن أشباهها ، التي يتمّ خلقها و صناعتها بافتعال هدفه إسقاط كلّ نتائج هذه الحرب ، التي يمكن أن تكون إيجابيّة ، أو حتّى في تجنّب نتائج أكثر كارثيّة و مأساويّة ، هذا مع أنّ الذي حصل لا ينقصه الوصف التّراجيديّ ، و لو أنّه يصبح طبيعيّاً و واقعيّاً في مثل حالة هذه الحرب ، و ذلك كما كانت فاتحة هذا الحديث .
5▪ فإذا جعلنا خلفيّة حديثنا هذا جميع ما يعرفه الجميع من ويلات الفقد البشريّ و فائض الدّم الذي أُهرق و الكثير من أشكال التّشرّد و الألم المغطّى و الوجع الخفيّ .. إلخ ؛ فإنّ لهذه الحرب نتائجَ لم تجرِ ، بعدُ ، صياغتها الصّياغات الواقعيّة المناسبة ، فتدخل في طور الحقائق ، طوعاً ، تتجاوز هذا الواقع إلى أن تصبح كابوساً من كوابيس المستقبل الاجتماعيّ و السّياسيّ ، الفعليّة .
إنّ الثّماني سنوات الفائتة على هذه الحرب ، قد جعلت حساباتها الرّقميّة شيئاً سخيفاً و مُضلّلاً ، إذا نحن اكتفينا بهذه الرّقميّة التي ارتبطت بمشكلات أخرى ، غير تلك التي اختزلناها بتلك المعاناة ، أعلاه ؛ حيث جرّ هذا العقد التّاريخيّ الذي تغوّل في الزّمان و المكان ، حتّى صار دهراً محسوباً إليه ، بالجمع ، مستقبلٌ طويل ؛ و أفرز في عمقه التّاريخيّ ، أبعاداً أكثر خطورة ممّا أصاب مجتمعنا و إنساننا ، في صيغ بليغة من المفاعيل التي أصبحت دالّات ”ثقافيّة” في مجتمع ، أثبتت الحرب فيه أنّه مجتمع غير مثقّف بما فيه الكفاية ، على رغم ما أظهره من أدلجة شملت الجريمة السّياسيّة التي تصنعها الأيديولوجيا الُمهلكة و الهالكة في الانفصال و العنصرّية و الاحتكار الشّاذ اجتماعيّاً و سياسيّاً ، و قابليّات التّخندق السّريع أو ذلك القائم ، أصلاً ، في المشاريع الانعزالّية الصّريحة .
إنّ من الآثار ما هو يزول ، و منها ما هو يبقى شاهداً ، أبداً ، لا يزول ، على توحّش هذه الحرب و ضراوة الصّراعات المختلفة التي رافقتها اجتماعيّاً و نفسيّاً ، و من الآثار ، أيضاً ، تلك التي لم توصف ، بعد ، و لو أنّها دخلت في منطقة الشّعور الاجتماعيّ و الإحساس الإنسانيّ ، و هي تشقّ طريقها بثبات إلى ”الوعي الاجتماعيّ” ، لتؤسّس قواعد عمل و مبادئ سلوك جديدة و منحرفة و شاخصات تدليل على أكثر ما سوف نصادفه ، في المستقبل ، من محطّات على الطّريق .
6▪ تعرّف أفراد الشّعب السّوريّ ، و لأوّل مرّة – ربّما – على طبيع الكثيرين منهم ، المدّخرة من التّباغض الصّريح و الشّامل ، و لا يُبطل هذه الحقيقة بعض المجاملات التي تنشأ بين الطّبقة الفكريّة ”الثّقافيّة” التي تفترض في نفسها ، عنوة ، و تمثيلاً قهريّاً يُمارَس على الذّات ، عدم انجرافها في مسيرة التّباغض العامّ .
لقد جعل الحقد من الأفراد مشرّدين في أنفسهم ، ذاهلين في النّتائج التي توصل إليها كلّ منهم على حدة ، مع أنّ للجميع ما يسوّغ له ذلك ، و لكن بالاعتماد على معايير الفهم ”الّتاريخيّ” الأخرق للهوّية و الانتماء .
ساد بين الجميع شعورّ من عدم الثّقة المتبادل و الموزّع توزيعاً اقتصاديّاً موضوعيّاً ، يناسب الشّلل الذي دخلت فيه علاقات الوجدان الإنسانّية التي كنّا نعرفها قبل الحرب ، و التي كانت ، على ما تأكّد لاحقاً ، مجرّد تمثيليّات و مسرحيّات انتهازيّة و وصوليّة دافعها التّخابث الذي نجح إلى حين ، و لكنّه انفض أمره مع العلانية الصّريحة لفقدان التّجاور الشّعوريّ ما بين الأفراد ، و ذلك مهما كان مكانهم مزدحماً ازدحاماً مادّيّاً و جسديّاً بما يتخلّل ذلك من ابتسامات سامة و مسمومة و صفراء .
علت و تعالت نغمة ”الموتوريّة” المبطّنة لأسباب تبدو ، نقديّاً و نظريّاً ، مجهولة و معدومة ، على اعتبار أنّ الوباء ، وباء الحرب ، قد عصف بالجميع .
لقد أفل العالم القديم الذي عرفناه قبل الحرب أفولاً شبه تامّ ، فصار من الصّعوبة البالغة التّعرف على النّفس بالذّات للمرء الواحد ، ناهيك عن التّعرّف أو الاهتمام بالتّعرّف على الآخر بوصفه شرطاً موضوعيّاً للفرد العيانيّ ، إذ دخلت العلاقات الاجتماعّية مرحلة الكفايات الكاذبة و الي تدّعي استغناءها و قدرتها على الاستغناء عن الآخرين ، الّلهمّ إلّا في حدود الحاجة ”المؤسفة” أو في علاقات تبادل الاستغلال القائم على انتقامّية مصدرها ، منطقيّاً ، مجهول ، و تبريرها مستحيل و معدوم .
7▪ في العلاقات العاّمة تقدَّم كثيراً خيار ”الفردانيّة” (individually ) غير المؤهّلة للشّرح و التّفسير و التّفنيد المفهوم و الواضح ؛ [ و هي المقابلة للفلسفة الجماعيّة (المعاصرة) Communitarianism ) ] ؛ و هي الحالة الفردانيّة الواحديّة في السّلوك ، و هذا قبل أن نتناول البعد أو التّعليل الأخلاقيّ لهذه الظّاهرة ، و الذي سيأتي فيما بعد .
و لقد ترافقت ، مبدئيّاً ، هذه الظّاهرة بالاستهتار بالقضايا العاّمة التي تنتمي إلى الشّأن العامّ ، فأظهرت انفرادات وحدانيّة في الهويّة ، و هذا أيضاً ما سنشرحه في ما بعد .
المهمّ أن نقول الآن إنّ ما أصاب العلاقات اليومّية هو ضرب من التّوحّد المرضيّ الذي يُحاصره ”الاكتئاب” كُعصاب نفسيّ موصوف ، مزّق الأمل و جعل من الّلحظة هي خاتمة مطاف كلّ عمل و إنجاز ؛ و من الواضح كم أنّ هذا كان مكلفاً اجتماعيّاً و حضاريّاً وعمليّاً بسبب التّرابط الموضوعيّ ، في الشّأن العامّ ، ما بين إنجازات الجميع .
و يلقي هذا الواقع الضّوء على تعليل الكثير من مظاهر الفساد التي تنطلق من الفردانيّة و تصب ، نهاية ، في الفردانيّة ، أيضاً . و أمّا على هذه ”الفردانيّة” فهي أقرب شيء إلى الاختزالّية في التّصنيفات الاجتماعّية و الثّقافيّة و الاعتقادّية ، إلى أصول و أنواع متواجهة بدلاً من الاعتقاد بالّتماثلات الكثيرة التي تجمع البشر .
مورست هذه الفردانيّة بِنَهَمٍ إطلاقيّ و نهائيّ و كأنّ ”السّاعة” قد قامت ؛ وهكذا فقدت معظم أنواع العلاقات قيمها – و هذا بالعموم – بينما أصاب المؤمنين بالقضاء و المقادير ، أنفسهم ، ضربٌ من إرجاء بعض هذا الإيمان لعّله غير مضمون .. !
و لقد شكّل ذلك خلفيّة كاملة لتسويغ جميع مطلقيّات الّلحظة العابرة ، على أنّها ، كلاً منها ، نهاية العالم .
صاحب ذلك العيش في إطار الاستهتار بالمصائب البشرّية ، حيث أمست حكايات لمساءات الشّتاءات الخائفة و تعلّلات لساعات السّحر في الصّيوف التي لا تنتهي في هذه الحرب .
و رافق ذلك ، بالطّبع ، إيقاعات الجمل البطوليّة و التّعبيرات المُحكمة ، عند الجميع .. فكانت الرّوايات أَولى بملاحم هوميروس و مآسي سوفوكليس .
8▪ استعيد تشكّل ”الهويّات” العنفيّة على وقع حاجات و ضرورات و أوهام الحرب . حتّى الفوارق الثّقافيّة ذات الأساس الطّبيعيّ و البيولوجيّ ، حُشرت من جديد في دائرة ”الهويّة” ، لتصنع الفارقَ القائمَ على الفوالق الاجتماعّية و السّياسيّة التي شُحنت بطاقة الحرب المستعرة في بركان .
و إذا كان لنا أن نرتّبَ في متوالية تتضمّن ”العقل” و ”الهويّة” و أشياء أخرى ، فإنّ الّلافتَ كان أن أثيرت موضوعة الهويّة ، من جديد ، في حالة غير عقلانّية ، بل و أكثر من ذلك ، حيث استُبعِدَ ”العقل” الخاصّ و العامّ ، فيما كانت ”المشاعر” المُهوَّشَة تُعيد مقترحات و ممارسات وأفعال تشكّل و تشكيل ”الهويّة” الجديدة ، ”الهويّات” الجديدة ، على أساس منتجات العنف المتبادل الذي سيطر على طرائق التّفكير و السّلوك .
لقد سيطر شعور الإلغاء ، إلغاء الآخر ، عند ”الجميع” تقريبا ؛ و كان من الّنادر أن تُصادف نشاطاً صادقاً يعمل على لمّ كلّ هؤلاء المنفردين ، لولا أن بقيت ”مؤسّسة الجيش” و ”مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة” ، على تماسكهما العميق ، و قد تولّتا مهمّة جمع النّافرين الذين كانوا ما يُقاربون جمهرة المجتمع ، و ذلك بالتّضحيات التي كانت تنعكس بالتأثير و الفائدة و الّلحمة ، على المجتمع كلّه . و كانت هذه الصّورة هي الصّورة الوحيدة التي تعلّق بها أمل القلّة المضحّين من أجل استعادة روح الهويّة العربيّة السّوريّة و لو بصعوبات كبيرة .
● ثانياً – في مختصر المشكلات و الّسلوك :
9▪ المؤسف أنّ التّداخل في ما بين الصّعوبات و المشكلات ، و علاوة على كونه موضوعيّاً ، فإنّه اتّخذ له طابعاً أخلاقيّاً أيضاً عندما ظهرت تحدّيات جديدة جعلت الذّاكرة الجمعيّة مهشّمة ، حيث طفق الجميع يبحثون عن هويّة و انتماء ضيّقين ، كانت أن جرت إعادة صياغتهما تحتَ ضغط ”العنف” .
لا أشير ، هنا ، إلى الصّراع المادّيّ نفسه و شروطه المُضلِّلة و صعوبات أن يكون منطقيّاً أو مسوّغاً أو العكس ، بل إنّي أشير إلى ما يتجاوز ذلك ، في إعادة تشكّل الهويّة و الانتماء الفئويين تحت جلد سياط التّاريخ الثّقافيّ المنفصل في الذّاكرة السّياسيّة لوعي الحاضر ، و جعل هذا الامتثال العنفيّ يتّخذ له تماثلات معاصرة ، مع ما يحمله ذلك في ظروفه التّكوينيّة من عنف موجّه إلى الحاضر الاجتماعيّ و الفرديّ ، عندما يُراد للواقع أن يُؤخذَ بجرائر الماضي ؛ و لقد شكّل هذا الأمر مفارقة حقيقّية قلّما عاشها شعبٌ آخر في التّاريخ و الجغرافيا في ظروف و ميكانيزمات ثأريّة مماثلة أو مشابهة .
10▪ و على عادة طرائق مثقّفينا الخاصّة بالتّفكير ، من جهة خلط السّلاح بالسّياسة بالأخلاق بالأدب بالشّعر بالأيديولوجيا بالأخلاق ..
فإنّ لحظة الحرب قد منحت ”الثّقافة” المحليّة ، بما هي كما وصفناها ، فرصة لإعادة خلط الماّدة التّاريخيّة المؤجّلة في الذّاكرة ، بالعناصر الواقعيّة للصّراع ، مؤجّجة الأسباب الافتراضّية و قد تحوّلت إلى ظواهر حيّة و واقعات مباشرة .
و هكذا تحوّطت احتفاليّة الدّماء في هذه الحرب بجميع الشّعارات المؤسِّسَة ، بعيداً عن أيّ معقوليّة فكريّة ، حيث تظاهرت هذه ”الاحتفالّية” الكرنفاليّة الدّمويّة بما احتكرته الثّورة المضادّة من خطاب حول ”الحرّيّة” .
و إذا قيّض للدّماغ الحيّ ، عند أيّ شخص عايشَ ظروف هذا الصّراع ، أن يستعيد عناصر خطاب ”الحرّيّة” المدمّرة التي خلقت فوضاها القصوى ، فإنّ ترجمة هذا الخطاب ستبدو يسيرة و بسيطة جدّاً في كونها مفضية مباشرة إلى مفهوم ”كلاّسيّ” للحرّيّة الفوضويّة المعروفة بالأناركّية (أو الأنارشّية)(Anarchism)(أو ”الّلاسلطوّية”)، بحيث اتّجهت ”الثّورة” المضادّة إلى إشعال الفوضى المدمّرة بالتّخريب الذي طال الكثير من عناصر ”النّظام” في ”الدّولة” ، إلى درجة لم تنسَ فيها ثورة الإرهاب الدّمويّة أن تذبح البشر و الحجر كمنظومة متّهمة من قبلها بأنّها عدوّ لها ، متمثّلة بالمؤسّسة العامّة بكلّ ما تحويه من عناصر مادّيّة و عنصر بشريّ و حدود و أطر تنظيميّة ، تشتغل تلك ”المنظومة” من خلالها و تشّكل لها قواعد تسويغ استقلالها عن ”الّشخصنة” التي اتّبعتها قطعان ”الثّوار” الهمجيّة .
11▪ و إذا كانت ”الأناركّية” في التّاريخ السّياسيّ تمثّل ”فلسفة” اقتصاديّة اشتراكيّة طوباويّة ، و ”لاسلطوّية” جذريّة فوضويّة ، جاءت في سياق ظرفها مع الفيلسوف الفرنسيّ المعروف (برودن) ..
[ بيير جوزيف برودن ( ١٨٠٩- ١٨٦٥ ) ] ، و كتابه ”فلسفة البؤس” ، الذي يقول فيه حرفيّاً ، في رسالة له ، فيها الكثير من الاستهتار بعقول البشر ، موجهة إلى صديق :
[ “ أمّا الأناركّية ؛ فقد أردت بهذا الّلفظ الإشارة إلى ذروة التّقدّم السّياسيّ ؛ فالأناركّية هي ، إن جاز القول ، شكل من أشكال الحكومة أو الدّستور يكفي معه الوعي الجمعيّ و الفرديّ ، الذي يتشكّل عبر تطوّر العلم و القانون ، وحده للحفاظ على النّظام و ضمان كلّ الحرّيّات .
و نتيجة لذلك ، تتقلّص السّلطة و مؤسّسات الشّرطة و أدوات القمع و البيروقراطيّة و الضّرائب و غيرها ، إلى حجمها الطّبيعيّ لسبب جدّ وجيه ، و هو اختفاء أنماط المِلكيّة و المركزيّة المتطرّفة ، بعد استبدالها بالمؤسّسات الفيدراليّة و التّقاليد الكوميونيّة ( و يعني هنا : الشّعبيّة أو الجماعيّة أو العامّيّة ) ..
جليٌّ إذاً أنّ اختفاء كلّ القيود يعني ولوجَنا عصر الحرّيّة الكاملة أو الأناركّية ؛ و حين ذاك سيتحقّق القانون الاجتماعيّ بذاته ، بلا قيادة و لا رقابة ؛ و إنّما من خلال العفوّية الشّاملة” ] ..
[ نقلاً عن ( دانييل غيران – الأناركّية – تصدير نعوم تشومسكي ) (ص ١٣) ] ..
فإنّ معلّمي ”ثوّار النّاتو” من أصحاب نظريّة ”الفوضى الخلّاقة” كانوا قد استغلّوا نظريّة (برودن) الفوضويّة ”التّحرّريّة” بمحاولتهم دفع ”ثورتهم” إلى ”أناركيّة” عدميّة ، بالإضافة إلى خصوصّيات تطبيق هذه ”النّظرة” في سورية كمجتمع يحمل بذور فوضاه و انقساماته و انفصاليّاته في عمقه المكين ؛ إذ سيكون اتّجاه العمل اليسير و الجهد القليل – كما تصوّروا و عبّروا، جميعهم – إلى هدف قصف ”النّظام” و كسره ، كافياً لإحداث الفارق أو المفارقة التّاريخيّة بالنّسبة إلى تحقيق هدفهم في ”الحرّيّة” ، و هو إغراق الوطن ، أوّلاً ، بالدّماء ، ثمّ بالانتقال إلى تطبيق تصوّراتهم ، تصوّرات المشغّلين و المشتغلين ، حول ”نظامهم” الجديد .
12▪ عندما واجه هؤلاء فشلهم الذّريع في ”إسقاط النّظام” .. ، تحوّلوا مباشرة إلى احتكار الخطاب ”الأخلاقويّ” ، و من ورائهم هيئات تمثيليّة عالميّة و أمميّة و منظمات تطلي قبحها بألوان ”حقوق الإنسان” و ”جرائم الحرب” و ”قتل المدنيين” ..إلخ ؛ و هو الأمر الذي صار تعويلهم الوحيد ينصبّ فيه ، بعد جملة الهزائم و الفشل و الإحباط الذي أصاب ”ثورتهم” ، و أصابهم معها في الصّميم .
و مع ذلك فقد تعمّم خطاب ”الفوضى” ، هذا، على مستوى واسع في حقيقة الأمر و جوهر التّحوّلات المرافقة لتلك التّدميريّة المريعة ، حتّى أصبح امتداداً طبيعيّاً لنظام الدّولة الاقتصاديّ و الثّقافيّ و السّياسيّ ، الذي ربما كان أقرب توصيف له هو أن ننعته بالليبرتارية ( Libertarianism ) و هو ”النّظام” المتّصل ، مباشرة ، بالأناركّية ، بوصفه – إذا جاز التّعبير ، و هو يجوز – نظامَ ”ديكتاتوريّة الّليبيراليّة” ، و الذي تلمسناه جميعاً قبيل الحرب ، و قد أطلقته الحرب على المستوى السّياسيّ – على الأقلّ – إلى أقصى مداه الممكن و الملموس .
13▪ ظهرت في جانب آخر مشكلة تتّصل بالمشكلات المتقدّمة في حديثنا أعلاه ، و هي قد تكون متّصلة بالأخلاق أكثر منها بالسّياسة ، وأعني بها ظاهرة ”الاهتبال” الوقح للفرص في الانتهازّية السّياسيّة و الاقتصادّية و الإعلامّية ، و كأنّ الحرب كانت سوقاً من أسواق عكاظ في الجاهليّة، أو مهرجاناً للتّجربة الاقتصادّية و السّياسيّة ؛ إذ لم يُحالف سورية الحظّ – على ما بدا – في أن تعيش تجربة واحدة ، على المستوى الحكوميّ و المؤسّسيّ، من مشاريع تحمّل المسؤوليّة و أبعادها من معايشة الشّعور بالواجب، بوفاء للوطن و للمواطن و المقاتل المنهك ، في قلب هذه الحرب .
و لقد انضاف إلى كلّ ذلك دعوات عاطفيّة و رومانسيّة متخفّية برداء العلم و الثّقافة و السّياسة الوطنيّة ”الجامعة” في أنماط إعلامّية يندى لها الجبين ، عبر مزايدات و نفاقات وإظهار أشكال مزيّفة من المسؤوليّات التّاريخيّة، و على لسان ”موظّفين كبارٍ” في الدّولة ، و حتّى على مستوى ”وزراء” !
و كان من شأن كلّ ذلك أن تتقدّم وصفات ديموقراطيّة رديئة ، عبر الإعلام ، كنوع من الكذب التّاريخيّ ، و عدم القدرة على تجاوز هؤلاء لمواقفهم التّاريخيّة التي تخندقوا فيها إلى الأبد ، و هم ما يزالون ممثّلين للمسؤولين السّياسيين التّاريخيين ، في مفارقة قلّما يفهمها الكثيرون ، و المعبّرة على أنّنا في ”الدّولة” و ”المجتمع” ، نهوي ، أحيانا ، إلى صفوف أعدائنا التّاريخيين ، أعداء التّقدّم و الإنسانّية و الحضارة و التّحضّر ، و ذلك بانزلاقات هي عادة ما لا تأخذ نصيبها من الّنقد الفكريّ و النّظريّ ، بل و يجري فيها الاستخفاف بها من دون إدراكنا الفعليّ لآثارها في الحاضر و المستقبل الجاهزَين ، بحكم الحرب و ظروفها و فراغاتها المناخيّة االسّياسيّة ، ليكونا مرتعاً متجدّداً و مُستداماً لإعادة إنتاج التّخلّف و الهمجيّات الثّقافيّة التي تجاوزها العالم منذ قرون .
14▪ من الطّبيعيّ أنّنا لا نسوق تعدادات المشكلات و الصّعوبات التي رافقت الحرب و استجدّت و تَقَوَّتْ بها و في ظروفها ؛ و لكنّنا نستلهم أقرب الخيارات النّظريّة التي عكست و تعكس ”فوضى” الحرب و نتائجها و ممكنات ذلك ، و هو الأمر الذي شكّل على طيلة عَقْدِ هذه الحرب هدفها الرّئيسيّ الذي عوّلوا و يعوّلون عليه حتّى اليوم كأحد ”أفظع” إنتاجاتهم في هذه الحرب ، و كصيغة من ”أفضل” الصّيغ التي وجّهوا نحوها المجتمع و الدّولة ، لتنقلب عبر الدّولة على الدّولة ، و هو إنجاز ”أسطوريّ” لأعداء البلد ، فيما هم أكثر جّديّة و ”تفاؤلاً” بمتابعة تحقيق إنجازات أخرى يُخشى أنّها قيد الممكن .
15▪ لم تنته الحرب ، بعدُ ؛ و هي لمّا تهدأ عاصفتها ، و لو أنّ البعض متفائل كثيرا ، بخصوص تبلور النّتائج النّهائيّة لهذه الحرب .
و إذا كنّا ، ممّن لا يُقيم وزنا كبيراً لمفاهيم التّشاؤم و التّفاؤل ، في مثل هذه الظّروف و الأحداث المفارقة ، فإنّنا نحتفظ ، على الأقلّ ، بنظرة قلقة إزاء ما يمكن أن تتبلور فيه نتائج الحرب تبلوراً سياسيّاً ، تسمح لنا بالتّحفّظ على عناصر غير معلنة يمكن أن تسهم بتعزيز المفارقة نفسها ، هذا مع أنّ واقع الصّراع المسلّح ، هو الآخر، لم ينتهِ بعد .
و لا يُمكننا مغادرة هذا الحديث قبل أن نسجّل تنبيهاً أو تنويهاً بأنّ ثمّة من القوى السّياسيّة المحلّيّة و العربيّة ، من يعمل فلسفيّاً سياسيّاً على تطبيق ”الأناركّية” و ”الّليبيرتاريّة” ، بعد محاولات تقوم بها تلك القوى من أجل إعادة تلميع هذين المفهومين و جعلهما منطلقاً و هدفاً ، في السّياسة و في جانبها الصّراعيّ ، بوصفها قوى ”طموحة” سياسيّاً في هذه الفوضى التي أنجزت كمقدّمة من مقدّمات إعادة إحياء مضامين هذه ”المصطلحات” ، و تضمينها انحرافات مفهوميّة تجعل منها أهدافاً ثوريّة و تقدّميّة معاصرة ، و لو أنّ لكل مصطلح منهما ، و لغيرهما من المصطلحات ، ظروفها السّياقيّة من حيث البيئة السّياسيّة التّاريخيّة ، و كذلك من حيث ظروف نشأتها ، هي ، بالذّات ، كظروف مشكوك فيها باعتبارها أنّها كانت ظروفاً مُلتَبَسَةً مثل كلّ الظّروف التي تنشأ فيها المصطلحات الرّاديكاليّة و لو لم توحِ هذه الرّاديكاليّة بثورويّة فجّة و فظّة ، بحسب سياق الحدث التّاريخيّ الذي وفّر لها بيئتها للنّضوج و الشّيوع .
16▪ واضح ، جيّداً ، حجم الصّعوبات و المشكلات الّناشئة علناً أو سرّاً في سياقات ”الحرب الكونية السّوريّة” ، و معها يتزايد الضّغط السّياسيّ على سورية في كثير من الملفات العسكريّة المباشرة أو السّياسيّة أو الدّبلوماسيّة .
و إذا كنّا نفضّل الابتعاد – مرّة أخرى – عن التّعدادات و عن الغوص المباشر في تعرية طبيعة و أسباب تلك الضّغوطات ؛ حيث كان لنا ذلك في أكثر من مناسبة ، هنا ؛ فإنّنا لا يُمكننا التّخلّي نهائيّاً عن حُججنا في سبيل توجّس السّيء أو الأسوأ في بعض المضمارات التي لاتني تنفتح ، واحداً تلو الآخر ، كما كانت الحرب نفسها شاهداً على هذه الحقيقة .
و الحال فإنّ النّظريّة الفكريّة السّياسيّة النّقديّة التي تُحيط بتاريخ ظواهر الصّراعات العالميّة ، إنّما هي ، دوماً ، ممّا يغتني بذاته عبر تعقّداته و تركيبه و تراكباته ، لا سيّما أنّنا نتحدّث عن ظاهرة إنسانيّة تاريخيّة مستمرّة و معقّدة ، و هي الحرب في جيلها ”الّلامتماثل” أو ”الّلامركزيّ” ، أو بما اصطلح عليه ، جرّاء ذلك ، بالجيل الرّابع من الحروب .