ادريس هاني
كلّ مرة تكشف الإمبريالية عن مستوى من اللّعب لنشعر بأنّنا تعمّقنا في الرؤية بينما تكون قد غاصت نحو عمق آخر لا قبل لنا به..فنزهو بما أدركنا ويضحكون على غبائنا..ثمة أجيال من الألعاب لا يفيد معها التشبّث بالطّرق القديمة..الإمبريالية متقدّمة دائما بينما التعاطي مع أجيالها المتجددة من المكر غير متجددة..إنّ العمق الذي نكتشفه ونتداوله ليس فقط هو ما أريد له أن يتداول ليستمر المعنى بل هو شرط الانتقال إلى البدائل الأعمق..لا نريد أن نفصّل في أصل الحكاية لكن لنقف عند الإعلام..دار حديث بيني وبين عدد من المثقفين والفعاليات على طاولة العشاء..جنازة..كان رأيي داعما لبعضهم حين قال بأنّ الإعلام وسيلة متحكم فيها..سيكون الاستثناء هو شاب حديث الإلتحاق بوسيلة إعلامية غارقة في التشبيك والشبهات..قال لي وهو يتلوّى ويستعين بحركات جسدية مغالطة وقلب البصر لإخفاء عما البصيرة: هذا ليس صحيحا..ليس هكذا..وبدأ الجدل الأزرق وسأجريه على نمط قال وقلت:
قال: الفساد يوجد في كل القطاعات ولكن المشكلة نحن نركز فقط على الاعلام
قلت: هذه مغالطة الخلط..قطاع الاعلام الذي استحق به لقب السلطة الرابعة ناتج عن أنه يؤثر في الجميع وهو الذي يحتكر عملية تشكيل الرأي العام..باقي القطاعات حين ينتشر فيها الفساد تكون الآثار مهما كبرت محدودة بمن يرتبط بذلك القطاع ولا يكون التأثير دائما ويوميا ويستهدف الأذهان..
من علامات المغالط هو العناد بلا انقطاع حتى لو بهت يبحث عن مهرب جدلي آخر..
قال: لا ليس هكذا أنتم الآن تتحدثون في مجالي أنا..
أدركت أنه وقع مرة أخرى في مغالطة السلطة..الهدف أن يمرر توصيفه الأجوف ولكن يعتقد أنه عقلاني جدا ونحن نقول كلاما غريبا..تؤكد تشقلبات نظره على ذلك..بعض الأغبياء لما يحطون الرحال بالعاصمة تصبح لهم نبرة بليدة أمقتها..يتحدثون بثقة كبيرة في جهلهم..المغالطة تواجه بنقيضها..
قلت: لست خبيرا بأساليب الاعلام فقط بل أنا ضحيته منذ سنوات لا مجال للتفصيل..
قلت أيضا: نحن الآن نشتغل على مغالطات الإعلام والتحكم بدواليبه نظريا وميدانيا..
قال:
تذكرت ما جاء في الخبر عن أبي هريرة قال كلاما ثم رطن، أي لم نعد نفهم ما يقول…
لما رأيته يتلوّى مع أنني راعيت الوضع الإنساني كنت مجبرا على تصعيد الضربات..البحث عن الضربة القاضية..تعبنا من الصمت إزاء التّفاهة..
قال: هل تعتقد إذا نشرنا جزء من الخبر بدل ان ننشره كله لأسباب ما يعتبر ذلك تزييفا للخبر في نظركم؟هههه هذا لا يسمى تزييف..
قلت: يعني يُعتبر مهنية..السؤال: كيف يتم ترجيح الجزء على الجزء..وفق أي مصلحة أو تشخيص..تحت طائلة أي سلطة..لماذا اخترت ذيل الخبر بدل رأسه..هناك انتقال غير بريئ..هنا المشكلة..
وفي محاولة لإظهار موضوعيته، قال: أتعلمون أن في أمريكا إذا كذب الصحفي سقط نهائيا؟
قلت: قلت إنهم يكذبون بالليل والنهار..إنها قارة الكذب بامتياز..لكنه كذب يمارس بصدق..دعك من هذا..
ثم قلت : التحكم الإمبريالي بالإعلام بات قضية يدركها الإعلاميون أنفسهم..وقبل أن تستهين برؤيتنا هذه عليك أن تستهين قبل ذلك برأي تشومسكي واغناسيو راموني وامبرتو ايكو وبيير بورديو وريجيس دوبريه..هل هؤلاء كذلك لا يعقلون؟؟؟
بهت الذي جادل عبثا..ثم قلت: لا يوجد إعلام مستقل، حرّ، بريئ..هذا يتطلب ثورة في بنية الإعلام..وحين أقول هناك تحكم لا أقصد أنّ الإعلامي المهني هو من يرسم خطّة هذا البرنامج..داخل الصناعة الإعلامية ككل صناعة هناك شغّيلة..التآمر والتخطيط الذي نتحدث عنه هنا هو المخطط الأمبريالي البعيد والملتبس حتى أنّ الإعلامي نفسه لا يكاد يراه..انتهى الكلام لم ينبت الإعلامي ببنت شفة بينما فقدت شهيتي ولم أتمم الأكل..لقد تسمم بدني بعد استهلاك جرعة من المغالطات..وهي مغالطات ستبقى لتحتوي الأجيال..وهو ما شجعني على الاستعجال بتنسيق كتاب قادم عن مغالطات الإعلام واستراتيجا تحصّن المتلقّي من تلك المغالطات..وهو أهم ما أراه مناسبا لمقاومة الإمبريالية في الصميم..وأدرك مسبقا أنّ تحديا كبيرا سيواجهه هذا الكتاب طبعا ونشرا..الطريق ميسّر فقط للتفاهة ولنا الحصار..قريبا إن شاء الله
ادريس هاني: