6\3\2020
ادريس هاني
جاءت القمّة مخيّبة لآمال من كان يرى في عنتريات أوردوغان ما سيجعل عالي المنطقة سافلها، لا سيما من اعتبروه بمثابة معاوية الثاني ومحيي رسوم سليم الثاني والمخلّص قائد حركة الاستئناف والاستخلاف والاستقلاب كما لا يفتأ يزمجر منظّر العثمانية الجديدة أبو يعرب المرزوقي بكثير من التحليل البزّاقي، فلقد دخل مطأطئ الرأس إلى بيت الطاعة الروسي، هذا الأخير في شخص بوتن – متقن فنّ الجيدو- أزاح أوردوغان الذي لا يحسن ركوب الخيل بحركة إبون一本)) قاضية، وبذلك تراجعت كلّ تهديدات أوردوغان وما وعد به أتباعه الذين يقرؤون السياسة في كفّ إبليس. كان أوردوغان مصمما على سحب القوات السورية خلف نقاط المراقبة التي نصبها وعززها بترسانة أحاطها بتهويل كبير، كانت تعزيزات مشبوهة تفوق الدور الذي حددته بنود سوتشي، لكن الجيش السوري كان بالمرصاد وقوّض اللّعبة من أساسها وسدّد صفعة إلى خيشوم أوردوغان – ممثل الناتو في إدلب – بمناورة تعيدنا إلى الذّكاء السوري وشقاوة غوار الطوشه قاهر العصملّلي بالمرح، لا شيء اليوم سيعيد الجيش إلى ما قبل صفعة سراقب، ولا أحد سيمنع الجيش السوري من إكمال مهمّته في مواجهة الإرهاب، هذا الجيش وكما عبّرنا منذ 2011 إلى اليوم لم يفعل سوى أن يقوم بمسؤوليته الوطنية على الوجه الأكمل.
قد يرى أوردوغان أنه عاد من موسكو وهو يحمل بعضا من المكتسبات، وهذا صحيح، لقد أنقدته قمة موسكو ولكن ليس إلى النّهاية، فالوقت لم يعد في صالح أوردوغان، وهو في خطوة يغرق، ذلك لأنّه لن يستطيع الهيمنة على المشهد التركي إلى الأبد، وحتما لن يستطيع الهيمنة على منطقة عجز أن يحتويها مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي لم يكن لأوردوغان فيه سوى دور الناتور و” الحيّاح” –الحياح في لهجتنا هو من يقوم بحركة تشويش ومطاردة في الأحراش بموجبها تهرب الطريدة ليتلقّاها الصيّاد -، وهي مكتسبات لا تتجاوز حدّ تبرير انكماشه عن أجندته الحالمة. لقد فرضت قمة موسكو على “الخليفة” سيّئ الحظّ مضغ أوراقه كلّها وابتلاع ما تبقى من عنتريات نبع السلام ودرع الربيع التي علّق عليها هو والمتطرفون آمالا تشبه الأساطير الأولى، وبينما كان يلوح بالضرب في كل مكان قرر بأنه سيعود إلى ما بعد الحدود الجديدة التي فرضها الجيش العربي السوري، وبينما كان يغير عناوين التنظيمات المتطرفة التي تتترّس بالمدنيين وتسيطر على بلداتهم سيوقّع في وثيقة موسكو على إخلاء إدلب من كل الفصائل الإرهابية التي تعتبر كذلك –وليس كما يراها هو – في نظر مجلس الأمن الدّولي، بين محتوى مذكّرة التفاهم في موسكو ومطالب أوردوغان الأولى مسافة خيبة أمل، لقد وضع مطلبا أساسيا قبل حتى أن يصل إلى موسكو لإقناع بوتن بالحياد لكي يستفرد الناتو بسوريا، شيء لم تستطيع مراكز الناتو أن تقنع به حلفاء سوريا فكيف يستطيع ذلك ناتورا يعيش أسوأ علاقته مع الناتو أيضا؟
واشتمل الاتفاق على وقف سائر الأنشطة العسكرية على خطّ التماس في منطقة خفض التصعيد في إدلب ابتداء من ليلة الخميس/الجمعة(5-6/3/2020)، على أن تستكمل سائر التفاصيل في غضون 7 أيام، بالإضافة إلى إنشاء ممرين على بعد 6 كلم شمال الطريق الدولي (M4) و6 من جهة الجنوب، ويشمل أيضا تسيير دوريات مشتركة ابتداء من 15 مارس 2020 على طول طريق(M4) بين طرنبه وعين الحور. وبموجب الاتفاق سيتم السماح بعودة النازحين إلى ديارهم وتقديم المساعدات لهم من دون شرط.
كانت قمة موسكو هي الخيار الأفضل لأوردوغان الذي أوصل تركيا إلى حافة الحرب وطوقها بكل المشكلات، بل حتى ورقة اللاجئين انقلبت ضده حيث عبّر وزير الداخلية الألماني زيهوفر في تغريدة له بلغات أربع منها العربية بأنّ الحدود الأوربية غير مفتوحة في وجه اللاجئين القادمين من تركيا، وقد طالبت ألمانيا تركيا بالتزام الاتفاقية المبرمة بين الاتحاد الأوربي وتركيا بخصوص تدبير ملف اللاّجئين، وكان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس قد صرح قبل ذلك بأيام قائلا:”لا يمكن أن تسمح باستخدام اللاجئين لمصالح جيوسياسية”. وتفضح ورقة اللاّجئين شعارات أوردوغان الإنسانية حيث وضع موجات منهم أمام باب مسدود وعرضهم للخطر، ذلك لأنّه حوّلهم في وقت مضى إلى وصل تجاري بينما اليوم يحاول من خلالهم الضغط على الاتحاد الأوربي لزيادة المساعدة. وقد عبرت أنجيلا ميركل عن هذا الوضع برفض أسلوب أوردوغان الذي اعتبرته يعبر عن استيائه من الاتحاد الأوربي على حساب اللاجئين، متفهمة أنّ أوردوغان يشعر بأنّ الدعم المقدم إليه غير كافي مقابل الهبئ الإضافي، لكنها اعتبرت الزج باللاجئين إلى الحدود وبالتالي انتهاءهم إلى طريق مسدود أمر غير مقبول، هذا في الوقت الذي كان قد أعلن فيه أوردوغان بأنه لم يعد ملزما باتفاق يعود إلى 2016. بدأت ورقة اللاجئين منذ البداية كعامل لتوريط النظام السوري في سياق بروباغاندا ممنهجة لكنها أصبحت ورقة محروقة في يد أوردوغان، وستكون لهذه الورقة تداعيات في المستقبل ستؤرّق أوردوغان وتضع علاقته بالاتحاد الأوربي في مأزق.
نعم، لقد مثّل لقاء موسكو مكسبا لتركيا أكثر من أوردوغان، لأنّه حال دون أن يفرض هذا الأخير أجندته على حساب مصلحة تركيا نفسها، وهذا يؤكّد أنّ سوريا وحلفائها يدافعون عن مصالح تركيا أكثر من أوردوغان، فهذا الأخير يخدم مصالح التنظيمات التي أحاط بها نفسه في الداخل والخارج، وحين يتهم سوريا بأنها تريد إفراغ المنطقة من الأهالي، فهو يقصد عائلات الحزب التركستاني وجبهة النصرة الذين طردوا الأهالي واحتلوا البلدات، لأنّ سوريا لها سياسة كاملة لاحتواء النازحين في الدّاخل وهي أصلا تفتح المجال لكل راغب في العودة حتى من المعارضين الذين لم تتلطّخ أيديهم بدماء السوريين. وقد تكون قمة موسكو قد عبّرت عن إرادة المعارضة التركية التي رفضت منذ البداية سياسة أودوغان وحزبه في التدخل في سوريا، ولكنهم جميعا يدركون أنّ هذا التدخّل جاء استجابة طبيعية لانخراط هذا الأخير في مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي صرّحت بانطلاقه كوندوليزا رايس فيما نظّر له من قبل شمعون بيريز.
كانت منهجية بوتن تقضي بالسماح لأوردوغان بمواصلة لغة حفض ماء الوجه، لذا فلا قيمة لعبارة الاحتفاظ بحق الرد التي استعملها أوردوغان في تصريحاته فيما بعد، فالمذكرة هي في نهاية المطاف لا تعبر عن مطالب أودوغان الذي رفع سقف المطالب عاليا برسم نبع السلام ودرع الربيع بل هي تعبر عن مطالب سورية بالأساس، وهذا ما يؤكد أنّ المنتصر في قمة موسكو هو دمشق، فالمذكرة تعكس منطق الأشياء وأنّ ما يقرر ما يجب أن يكون في النهاية هو سوريا، كما لا يمكن اعتبار من يحرر أرضه ويحارب الإرهاب خطرا على الاستقرار في المنطقة، هناك فقط السوريون وحلفاءهم من يحترمون مقتضيات القانون الدّولي، وما عدا ذلك من صورة نمطية بالية حشرت فيها سوريا طيلة سنوات ما هي إلاّ هُراء ممنهج أدمنت عليه الميديا التي حوّلت دعاية الإخوان القديمة ضدّ سوريا إلى برنامج لغسيل الدماغ في صفقة تاريخية لمواجهة سوريا سبقت صفقة القرن.