25/4/2020
جورج عبيد
سنة 2004 صدر كتاب “الاغتيال الاقتصاديّ للأمم”، لمؤّلفه “القاتل الاقتصاديّ”، كما عرّف عن نفسه جون بيركنز وهو أحد كبار أركان الوكالة الأميركيّة للاستخبارات CIA. إسم بيركنز ليس غريبًا عن لبنان ولا عن حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط سنة 2005. ففي كتاب النفاق الأميركيّ لعمران أدهم، استند الرجل على بيركنز ورجل آخر هو ديفيد وين، وفيه اعترف بيركنز بدور أميركيّ مباشر بدفع إسرائيلي وتعاون مع القوى التكفيريّة في قتل رفيق الحريري.
في كنابه وضع بيركنز جملة “القاتل الاقتصاديّ”، ضمن مألفة Synthése ووضع توصيفًا قال فيه: بأنّ القتلة الاقتصاديين هم رجال محترفون، ويتقاضون أجورًا عالية، ويقومون بسلب تريليونات الأموال التي تحصل عليها الدول من الوكالة الأميركيّة والبنك الأميركيّ الفدراليّ، ثمّ يحصّلونها لصالح العائلات المالكة”. ما أورده بيركنز هو الطريقة التي اعتمدها القتلة الاقتصاديون وهو واحد منهم لإفلاس الدول بواسطة شخصيّات مرموقة ومعروفة، فيتداخلون معهم عن طريق الإغراء، ثم تكونلهم صلاحية نهاية المدة من دون أن يعلم صاحب العلاقة بذلك. التصرّف هذا حصل في الإكوادور وباناما وإيران والعراق وعدد من دول الخليج، ويسوغ القول بأنّ ما حدث في تلك البلدان يتمّ أو تمّ الآن في لبنان، بطبقة سياسيّة مندرجة بخيار القتل الاقتصاديّ، ورياض سلامة حاكم مصرف لبنان هو الذراع الأقوى في عملية التفريغ المتعمّدة والمعتمدة حتى بلغنا تلك النتائج المخزية مع بلوغ سعر صرف الدولار حدود ال4000 ل.ل.
كلمة رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب من بعد الجلسة الطويلة لمجلس الوزراء، أظهرت بعبارات استعملها واستهلكها في تصويب المعاني الصائبة على حاكم مصرف لبنان بأنّ في المصرف قاتلاً اقتصاديًّا، أو مساعدًا لهذا القاتل الاقتصاديّ، بطريقة التوريّة. ذلك أنّ رياضًا، وكما أوضحنا في مقالنا الأخير من على هذا الموقع، ليس وليد ذاته، ولم يكن مدّة تولّيه لحاكميّة مصرف لبنان وليد ذاته، على الرغم من محاولته ومحاولة المحيطين به شخصنة الاستقرار النقديّ. بل هو وليد حالة مديدة أوجدته ضمن خطّة استراتيجيّة عامدة وعاملة على إفلاس لبنان وبيع ممتلكات دولته وتجويف منطق الدولة، واستبدالها بنظام ليس وليد التوازنات والتسويات والصفقات هذه المرّة، بل هو منتوج آحاديّة أميركيّة تعدّه ليكون على خطّ المواجهة في الشرق الأوسط والانقلاب على الخطوط الجديدة التي رسمت في سوريا والعراق.
ليست القضيّة محصورة فقط برفع سعر صرف الدولار، بل بما يحويه من أهداف ومعان. لقد اشار رئيس الحكومة في كلمته إلى الغموض المخيف في توجهات حاكم مصرف لبنان وأدبياته المالية والاقتصاديّة، وتوجّه قائلاً: “خاطئ من يعتقد أننا سنتفرج عليهم وهم يخططون للانقلاب عبر سلب الناس أموالهم برفع سعر الدولار، لن نسمح ولن نتهاون في قمع كل عابث بالإستقرار المالي لأن هؤلاء يريدون انهيار البلد لحماية مصالحهم على حساب لبنان ومصالح اللبنانية، الدولة ستضرب بحزم”. وكان لدولته أن يكشف وبوضوح وشفافيّة ومضبطة اتهام “إن المطلوب مبادرة والتصرف سريعا، فالأرقام تكشف خروج أكثر من 5 مليارات دولار من الودائع في الشهرين الأولين من العام”. دولته مصرّ بكلّ ما للكلمة من معنى على كشف جوهر رياض سلامة من خلال واقع السلوكيات، بطرائق رسمية يؤازره بكلّ نأكيد ووضوح رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون.
لعلّ الرئيس دياب يدرك بدقّة ومن خلال متابعته الحثيثة، بأن رياض سلامة هو جون بركنز آخر في لبنان. ليست سلوكيات رياض سلامة على الإطلاق معصومة عن الرؤية الأميركيّة في الانعطاف المتشدّد، وفي رسائل التهديدات التي دأب مايك بومبيو منذ شهر كانون الثاني الفائت إلى أول من أمس إرسالها إلى لبنان، مفادها بأنّ لبنان سيمرّ في ضيق ماليّ كبير. لقد كشفنا غير مرّة بانّ الأميركيين هم خلف الضيق بقرارهم الآيل إلى كسر الاستقرار الماليّ، وسيشتدّ الآن أكثر بالنسبة إليهم ليس من أجل رياض سلامة أو محمد بعاصيري، بل بسبب المطلّ اللبنانيّ بعمقه الاستراتيجيّ، وما يمثله من وظيفة واضحة بالنسبة إليهم، في تطلعهم إلى عالم ما بعد كورونا فيروس. إنه مدى لعبورهم، ولذلك تركوه تحت ثقل ملفّات ضاغطة على المستوى الاجتماعيّ، ومنها ملفّ النازحين السوريين الذين رفضوا عودتهم إلى سوريا، ثمّ طالبوا بدمجهم في المجتمع اللبنانيّ، ورفضوا أيّ تواصل بين لبنان وسوريا ليبقى هذا الملفّ لغمًا ينفجر من لبنان إلى سوريا. إنّه الصراع المفتوح مع إيران وروسيا والصين، ولبنان في قلبه. المسألة الماليّة بالنسبة تمثّل مفردة عميقة وليست عابرة لأن إفراغ لبنان وإفلاسه على غرار ما فعلوا مع دول أخرى يتيح ويبيح لهم وضع أياديهم عليه بواسطة أذرعهم المعتادة الفاسدة، والمتحرّكة بإشرارات منهم لمواجهة الرئيس حسّان دياب. لعلّ كلاّم الرئيس السابق فؤاد السنيورة أو نهاد المشنوق بتطرّفه الإسلامويّ المستجدّ والمفرط يمثّل كما سعد الحريري البارحة أوجه تلك المواجهة. وقد آن الوقت لمساءلة السنيورة عن ال11 مليار دولار، ومساءلة المشنوق عن صفقاته Park Meter عن الأموال التي اغتصبوها وسرقوها خلال فترة حكمهم، ثمّ هرّبوها إلى الخارج. إنّه السيناريو عينه الذي رواه جون بيركنز في التعاطي الأميركيّ مع شخصيات منظورة، يجذبونها إليهم عن طريق تأسيس شركات بهدف إفلاس بلدانهم. الاقتصاد الريعيّ، وإبطال الاقتصاد المنتج، والارتكاز على القروض والمساعدات والمؤتمرات الدوليّة حيث تجري الصفقات على حساب البلد، وبعد ذلك الاتجاه إلى بيع ممتلكات الدولة ومؤسساتها، وهنا بالذات يتمّ إعلان إفلاس لبنان. مطالبة سليم صفير كافية اتوضيح النتيجة.
كلّ هذا يذكّر القارئ وبكلّ أسف بقول الأديب سعيد تقيّ الدين “ما أفصح القحباء حين تنادي بالعفّة”. ما أفصح هؤلاء في مواجهتهم لرئيسيّ الجمهوريّة والحكومة، ونحن العارفون وبكلّ ثقة أن رياض سلامة رجل أميركا الأساسيّ بحسب ما يظهر خلف السطور الأميركيّة (بومبيو، دايفيد شينكر)، لا مجال للشكّ بأن تجويف لبنان ماليًّا تمّ بقرار أميركيّ نفّذه رياض سلامة مع المصارف اللبنانيّة ومع الصرافين، وبتغطية واضحة من الطبقة السياسيّة. وما من شكّ أيضًا بأنّ الطبقة السياسيّة الفاسدة الراعية داخليًّا لرياض وشريكته في الداخل وفي الولاء الأميركيّ، تضغط باتجاه رفع سعر صرف الدولار من بعدما شحّ عنها ونضب المال السياسيّ المتدفّق إليها من الدول، من أجل كسب ثروات إضافية ولو على حساب لقمة اللبنانيين وحياتهم. إنهم المجرمون (بألف التعريف)، وهم المتربعون على زعامة شعوبهم، فيما شعوبهم لا تزال وبعدم وعي أو لمصالح مختلفة تهتف بجهل وتفاهة بالروح والدم نفديك يا زعيم، والزعيم كماري أنطوانيت يرمي لهم الفتات، وهم يأكل من خير لبنان على حسابهم.
في النهاية، المواجهة ليست مالية، إنها وجوديّة بالكامل. ليست المسألة الماليّة سوى التعبير الأفصح على أن عمق الأزمة وقد غدت أزمة وجود لبناني مفتوح على صراع بين الليل والنهار.
لكنّ الثقة كبيرة بأنّنا مع رئيس الجمهورية العماد عون ورئيس الحكومة الدكتور دياب سنطلّ على فجر كبير بثبات الموقف وبهاء الوجه وصلابة إيمان وانتماء.
المصدر: tayyar.org