2020/10/31
ادريس هاني
لا زالت الحيرة تحيط بالإنسان وتهيمن على نشاطه الذّهني، الكل حائر في مزرعة البؤساء، أما الحاسمون فهم يرضون أنفسهم باليقين لأنهم لا يطيقون تحمّل القلق. وبما أنّ المعرفة لا تنفكّ عن شرطها التّاريخي فإنّ الأطاريح ونقاضها لا تستقلّ عن البيئة الاجتماعية والتّاريخية، ووجب القول أنّنا في مرحلة انتقالية تلعب فيها التّطرّفات دورا أساسيا لأنّها تتذرّع بالحسم المستحيل وتفرض أحكاما قد لا تكون فيما هي موصولة فيه بمقدماتها منطقية لكنها في الواقع العملي فقدت ثمراتها واهتزت أسسها وهي ي حاجة إلى انقلاب في اللغة والمنهاج.
في مرحلة موسومة بتقارع أحكام القطع، صراع القُطّاع، الذي لا يقل ضراوة عن صراع الشُّكّاك، في هذه المرحلة حيث صمت الحكمة أمام هواجس ما هو تاريخي لأننا في مرحلة توقّف فيها زمن التأويل الموصول بما قبل التأسيس اللاّإئتماني أو لنقل أزمة الأسس، هناك وحتى انتهاء زمن التحريف لا يوجد استعداد ولا قابلية لسماع جدّي: زمن لا توجد فيه القابلية للإنصات لنبيّ أم من في حكمه، زمن تقارع الزّيف وامتثال الوهم، زمن قلق الحكيم وطمأنينة الصوفيسطائي..زمن الفلاذقة.
لا شيء هنا مفاجئ لأنّ الفترة الانتقالية هي فترة اختبار أقصى التّطرّفات التي سيقوضها الملل والانسداد، وسترى هاهنا غرائب الأفكار والآراء والأحكام، ذلك كله ثمرة تاريخية لأزمة الأسس المزمنة.
حتى المناظرة التي كانت ولا زالت طريقا لتقويم منهاج العلم باتت شكلا من التهريج والرغبة في ملأ الفضاء العمومي بالكلام. توقّف زمن الإبداع وما تبقّى لا يملك الجرأة على الحفر في الأسس، وحينما نحفر في الأسس نكون في حالة هروب من حقيقة أخرى ووضعية تصفية حساب ليس إلاّ، لأنّنا غير آبهين بالحقيقة. لقد أصبح الإبداع يساوق ركوب الموضة وليس كدحا في طريق تقويم المعرفة واجتهادا متواصلا لمكافحة نقائض العلم بالقدر الكافي من الوضوح والقدر الكبير من التمييز. نتحدث عن العلم ولم نحسم في تعريفه النهائي، كما نتحدث عن الحقيقة دون أن نحسم في معناها خارج قوالب التقليد ومقالب الزّيف. هي إذن أحكام تسعى لقمع تدبير الحيرة وتجديدها، نحن نحمل تصميما تقليديا عن الحيرة ولم ندخل بعد حيرة الأزمنة الحديثة.
نحن على الهامش عقليا، بعضّ النظر عن أي فهم وتعريف للعقل، عبيد نحمل المغزى نفسه للعقل لأننا لم نطور عقلا نقيضا قابلا لتحريرنا من لعنة التهميش الحضاري ووضعيتنا التّاريخية المزرية. وظيفتنا هي إنجاز وظائف الهامش في السياسة والاقتصاد والعلم بل وحتى الأساطير فإننا لازلنا عاجزين عن خلق أساطيرنا. مصرّون على الهامش ونُفاخر الأمم بتخلّفنا المقنّع. وفي كل رأي أو موقف لا زلنا أوفياء لنسقنا المتخلّف، وطبعا كلّ شيئ يجري كما لو أنّنا بالفعل نجتهد، فالعبيد أيضا يبدلون الكثير من الجهد والعناء.
السّؤال الكانطي – منذ انقسام العالم إلى فسطاطين برسم الإمبريالية واقتصاديات الهيمنة على ثروات الأمم المادية والرمزية وما تمخضت عنه من ظهور وظائف نسقية لعلاقة المركز بالهامش – كفّ أن يكون كونيّا نظرا لأنّ السّؤال، والعلم، والعمل، والمعرفة، والعقل ، والجمال، والعلّة، الخ، كلها باتت مشروطة بوجودنا الجيوبوليتيكي والحضاري، إنّ السياسة هي من أاجهز على المفهوم البريئ للكونية، وبتنا أمام شكل آخر لها: كونية الهامش والتبعية والتخلّي عن الرغبة في العدالة والتسوية الكونية. ففي أي كونية نريد أن نكون: كونية المركز أم كونية الهامش، فالنزاع اليومي بين كونيتين.
إنها إشكالية التموضع والتموقع، حتى العلم لم يعد محايدا وبالتالي لم يعد كونيّا مذ بات مرتهنا للسياسة أيضا..ولا أخالفك إن قلت أنّ السياسة تسلّطت على كلّ شيء في أزمنتنا الحديثة، لكن المسألة تكمن في السؤال الذي يضعنا في مركز الخُلف المنطقي: كيف وجب أن نسوس؟
وفي سياساتنا لا نفعل شيئا خارج الأفق الذي يتيحه لنا الهامش، ضعف الرؤية ومحدودية الغايات، وكأننا نسوس موقعنا في الهامش بما يضعنا أمام قدرية إعادة إنتاج الموقف والموقع. لا شيء يمكن أن تلمح فيه أثر التّحرّر والصّدق والإنطباع السّويّ إزاء الأشياء. سنلتهي بمعالجة تفاصيل الأشياء وبالنمط نفسه الذي تتيحه البنيات المستعادة، وسنعتبر كل هذا جهدا واجتهادا..إنتاجا وإبداعا..نحمي يقينياتنا بمزيد من القطع ونقطع دابر الشّك، فلا قطعنا بات قطع ولا شكّنا بات شكّ، بل أي جدوى حين نوجد خارج مركز الكونية، حينئذ القطع والشّك كلاهما سيان، ولن يحملا أي أثر حقيقي في دنيا العبيد..