12/1/2021 ادريس هاني
لم يسعفني الجهد والوقت للقيام – بما راودني منذ سنوات – بقراءة مقارنة في نصين، لا أستبعد أن أكون أحدهما استلهم محتواه من الثاني: مفهوم الدولة عند عبد الله العروي، الذي جاء ضمن حاجة برّرها باستمرار، حاجة المتلقي العربي للتعرف على المفاهيم قبل أن يصير إلى تأويلها، وهو في ذلك كان قد أدرك أزمة المفاهيم في الفكر العربي، وأثر سوء الفهم المفهومي على مجمل الأفكار والآراء، في مشهد كان لا زال في حاجة إلى جهد بيداغوجي كالذي تولاّه عبد الله العروي في سلسلة المفاهيم.
وعلى الرغم من كل ذلك الادعاء، فإنّ ما قدمه العروي لم يكن في سلسلة المفاهيم يخلوا من تأويل، إنّه يضعك أمام شكل من الجينيالوجيا وتاريخ الأفكار، لكن كل شيء هنا يجري داخل الإطار الراجح: المفهوم الليبرالي للدولة أو الحرية أو الأيديولوجيا أو العقل أو التاريخ.
لا أدري إن كان العروي قد أحالنا إلى نصوص، أم مارس شكلا من التّناص، فكتاب مفهوم الدولة للعروي هو تناص إن لم أقل استنساخ لمحتوى ما جاء في كتاب مفهوم الدولة(la notion de l etat) للمؤرخ والفيلسوف الإيطالي إلكسندر باسيران دي انتريف(A. Passerin d’Entrèves) والموسوم بأهم مفكر ليبرالي في إيطاليا في القرن العشرين. لقد كان كتاب مفهوم الدولة عند ألكسندر دي اونتريف قد ظهر بفضل جهود تلامذة هذا الأخير بإيطاليا سنة 1962 كما جاء في تقديمه للنسخة الفرنسية في أعقاب النسختين: الايطالية والانجليزية. ما يؤكد على أنّه في الأصل هو ذو طابع بيداغوجي لتعريف وافر وجامع لمفهوم الدولة:تعريفها، قضاياها، إشكالياتها.
وقد يصدم المرء إن هو فتح الكتابين ليدرك أنه ابتداء من المقدمة نجد مفهوم الدولة عند العروي هو أكثر من مجرد تناص مع الكسندر، بل هو إن أحسنّا الظن، تلخيص منتقى لكتاب الكسندر دي اونتريف، مع شيء من الاستبدال والإكمال التأويليين للمضمون نفسه. إلاّ أننا لن نجد اهتماما بالمؤرخ الإيطالي ولا تنويها من العروي بالكسندر دي اونتريف يساوي أهمية حضوره في “مفهوم الدولة”، باعتباره هو العمود الفقري للكتاب. فمنذ المقدمة ستجد التساؤلات نفسها والمذهب نفسه في تهييئ القارئ لاستقبال مفهوم الدولة. ألم يكن من الأولى أن يترجم العروي كتاب دي أونتريف ووضع عليه حاشية وشرحا؟ ألم يكن ذلك أفضل من إخفاء مصادرنا واستغلال زمن الأمّية وغياب الرقابة الثقافية في تمثّلات لا زلت مصرّا على أنّها قفز على مرحلة تأسيسة لم تقم عربيا، أعني سكولاستيكية العربية التي تقوم على الوفاء للترجمة والترجمة الوفية؟ إنّ العروي مثقف كبير، وليس إيمائي – مميكي -، وهو مقتدر في الترجمة وقدر من الخبرة، لكن ما أتحدّث عنه هو خيبة الأمل التي نصادفها كحوادث سير في أوتوستراد معرفة مفتوحة على الاحتمال. أي شيء قاله العروي في مفهوم الدولة لم يتناوله دي اونتريف؟ نجد هذا الأخير يتساءل لينتهي إلى القول بأن الدولة ظاهرة وحقيقة حاضرة، لكن قلّما تساءل عنها المرء، وبأنها تختصر القوة إن لم تكن تحتكرها، وسنجد المدخل نفسه يتكرر بتنويع لغوي وأحيانا حرفيا.
وضع عبد الله العروي ثبتا بمراجع البحث عن الدولة – عربيا وأجنبيا – لم أقف على إسم ألكسندر دي أونتريف ضمن مصادره، مع أن تشابه العناوين هو في حد ذاته مفارقة يصعب هضمها من منظور التخاطر البريئ. وهي عادة نصادفها عند المتمرسين في السرقات الأدبية، أن لا يحيلوا على مصاردهم الحقيقية أو يتجاهلون من استفادوا منهم في محاولة لإبعاد أي قرينة ممكنة عن تهمة عدم الوفاء للمصادر، وهو ما أسميه مفارقة تجاهل المصدر الأساسي وما أسميه أيضا: مغالطة الإحالة على البعيد لإخفاء المصدر القريب. لقد أحال العروي على الجميع إلاّ على دي أونتريف. بل سنجده يضع فهرست الأسماء الأعجمية، ولم نقف على دي أونتريف أيضا. إنه مجهول تماما أو متجاهل تماما من قبل العروي. ومع ذلك هناك تطبيق للمفاهيم على فصل النظرية وواقع الدولة العربية. يبقى الكتاب على الرغم من تلك الملاحظات ممتع، حتى أنني أنصح بقراءتهما معا، لكن، هناك حاجة أو حقّ الأجيال في أن تظفر بالنصوص الأصلية.
هل المفكر العربي معنيّ بالوفاء والأمانة العلمية، أم أنّه حالة استثناء لمجرد أن يكون خبيرا؟ لعل تراكم حقب من الأمية كان وراء هذا النوع من التسامح في النّقل،وقس على ذلك. إنهم معذورون لأنهم تشكلوا في شروط الإهانة. أخلص إلى القول بأنّني لا زلت أومن بأنّ تخطّي المرحلة السكوستيكية، التي أعني بها ضبط تفاصيل العلم ومسائله وليس الانخراط في الجدل قبل استيعاب معطياته ومطالبه، هو من يتسبب في هذه النكبات. كان أحرى أن ينخرط هذا الجيل في عمل بيداغوجي مديد. ولقد تنبه العروي إلى أهمية درس المفاهيم، لكنه اعتبرها حاجة يقدحها سوء الفهم، وليس حاجة تاريخية للثقافة العربية المعاصرة. الاستعجال وغواية الإيمائية.
الفكر بطبيعته غواية، والمشكلة هي غياب الاعتراف. كانت الأندلس تغلي بأعلام استطاعوا أن ينشؤوا سكولاستيكية حقيقة: في الاندلس ثم سرعان ما كانت سببا في نشأة سكولاستيكية أوربية لآباء الكنيسة اللاتين. قام ابن طفيل بتقديم ومدح ابن رشد أمام الحاكم الموحدي أبو يعقوب يوسف، ليكون خلفا له في الرئاسة الفلسفية، وفي تلك الأجواء السكولاستيكية ازدهر الفكر في العدوتين، لكننا اليوم، كأحفاد ودعاة أحيانا لإحياء الرشدية، تنقصنا فضيلة الاعتراف، والأمانة العلمية.
في هذا الإطار أتمنّى من أي باحث لبيب أن يقوم بقراءة مقارنة بين كتابين يحملان العنوان نفسه: أحدهما لعبد الله العروي والآخر لألكسندر دي اونتريف، وذلك حرصا على الأمانة العلمية وتعزيزا للنزاهة المعرفية، إنّ جانبا من العجرفة المفهومية تخفي مشاعر غير طبيعية إزاء السلطة التي مارسها الفكر الغربي. هكذا أصبحت الحداثة تحمل معها ضريبة مزدوجة: ضريبة تأخرنا التاريخي ، وضريبة في ذمّتنا للمثقف الذي يلعب دور حارس البذرقة، الصفة التي نعت بها أبو حامد الغزالي علم الكلام ووظيفة المتكلمين.
وهذا لا يعني أنّ أعمال العروي غير ذات أهمية أو أنها مجرد تناص أو دون ذلك لنصوص غربية وافرة في المجال، بل هي ملاحظة تخص على الأقل كتاب مفهوم الدولة. وهذا في سياق محاولة التخلّص من أي ضريبة جديدة يحملها خطاب حداثة العبيد بحثا عن حداثة السادة. لقد تجاوز المشهد العربي والمغربي كل أشكال الوصاية التي تسببت في هذا النمط من العلاقة بين النخبة والمجتمع. علاقة مسكونة بملازمات شتّى هي هي نفسها شكلت عاملا من عوامل الإعاقة. وقد أكون مخطئا لا محالة في هذه الملاحظة، لكن أذكّر بأنّ العروي حالة فارقة في الثقافة العربية المعاصرة، ولا يمكن أن تجاوزه..
كاتب ومفكر مغربي *