28 يونيو 2021
علي بن مسعود المعشني*
إيران ليست دولة عادية ولم تكن كذلك منذ عهد بعيد، فهي دولة تجر خلفها حضارة عظيمة وتاريخًا عظيمًا، تاريخ يموج بالأضداد والانكسارات والانتصارات والتمدد والانحسار، فقد كانت إيران- وما زالت- تمارس سُنن التاريخ وأحكام الجغرافيا باحترافية عالية جدًا تُحسب لها لا عليها.
لم تشقَ إيران بتاريخها وجغرافيتها عبر تاريخها وأطوارها بقدر توظيفها لهما في إضفاء القوة والحيوية على الدولة فيها، لهذا يجد المُتابع والقارئ لتاريخ إيران توفر مخزون فائض القوة دائمًا لديها لتوظيفه في جغرافية جوارها الحيوي لحماية واستقرار وسلامة جغرافية الدولة الإيرانية من المؤامرات والحروب.
من يحكم إيران عادة لابُد أن يكون واعيًا بالتاريخ الإيراني بشموليته وحيويته وامتداداته، ليتمكن- لاحقًا- من رسم سياسات حاضر الدولة ويضيف لبنات تاريخية إلى ذلك الصرح التاريخي الموروث. الثورة والجمهورية حالة خاصة جدًا في إيران في تقاليد الحكم وموروثه التاريخي، ورغم انحراف الدولة في عهدهما شكليًا عن التقاليد والموروث إلا أنهما متناغمان إلى حد التطابق مع السياق التاريخي لإيران الجغرافيا والتاريخ وهنا تكمن العبقرية والقوة.
عبقرية الثورة في إيران أنها لم تُحدث قطيعة مع العمق التاريخي للدولة؛ بل تصالحت معه وبنت سياسات مخالفة، لكنها تستنطق التاريخ والجغرافيا بمفاهيم أعمق، وتوظف إيران كل طاقاتها التوظيف الحقيقي وتضعها على المسار الطبيعي والصحيح. الثورة في إيران اختلفت مع سياسات الشاه، ولكنها لم تنقلب أو تلغي عهد الشاه من السياق التاريخي لإيران، كما أنها عرفت وحددت منذ بداياتها الأولى من هم مع الثورة ومن هم ليسوا معها وليسوا خصوم لها ومن هم ضدها وخصوم لها.
إيران الثورة والجمهورية بلغت اليوم سن الرشد ورجاحة العقل واكتمال النضج (42) عامًا، وتخطَّت سنوات الضجيج والقلق والمراهقة الثورية وتجاوزت الحاجة إلى تصدير الثورة وبلغت مرحلة تصدير النموذج الجمهوري بالمحاكاة والتقليد لا بالإكراه وتصدير الآيديولوجيا، بعد أن أصبحت إيران اليوم مرتكز السياسات والصراع ومفتاح الحرب والسلم في المنطقة، هذا الواقع الذي كان في أجندات الكبار منذ بزوغ فجر الثورة وغائبًا عن أعين الصغار أصبح اليوم واقعًا يُرى بالعين المجردة دون الحاجة إلى بصارة أو تحليل.
شكلت إيران فيما مضى درة المصالح الغربية وعلى رأسهم أمريكا وكما كانت الهند للتاج البريطاني، والفرق بين الأمريكي والبريطاني في إدارة المصالح كالفرق بين المشرق والمغرب، فالبريطاني يتمتع بالصبر والخبث في تنفيذ مخططاته واستراتيجياته، بينما الأمريكي يعتمد على ثقافة “الفاست فود” في التعامل مع مصالحه وحلفائه وأساليب الحفاظ عليهم، لهذا فتت الإنجليزي درة التاج وهي الهند قبل رحيله منها إلى قطع متناثرة تتمثل في باكستان وبنجلاديش وجزء من أفغانستان، وأبقى على حتمية الصراع الجغرافي متمثلًا في كشمير، والديني بين المُسلمين والهندوس؛ ليضمن بقاءه كخصم وحكم معًا، بينما الأمريكي- والذي لا يُفكر بل يجرب حتى يفشل كما وصفه تشرشل- استخدم مع إيران الثورة- لاستردادها كحليف- كل الأساليب الاستفزازية والتقليدية وبعقلية الأثر الرجعي والتي تعبر عن جهل سياسي مطبق للأمريكان بالعقائد السياسية للثورة والجمهورية في إيران، وبالتالي خسروا إيران جميعها بكل أطيافها السياسية ومكوناتها الدينية والقومية بعد أن كانت مساحتهم كبيرة جدًا لخلق إيران الثورة نصف عدو أو ربع صديق.
أهدر الأمريكان بتعاليهم وغطرستهم فرصًا تاريخية للتقارب مع إيران الثورة واحتوائها؛ لأنهم يستخدمون ذات السياسات والخطاب والعروض والمغريات والأدوات التي يستخدمونها مع من يسمونهم حلفاء لهم في المنطقة، وهي في النهاية مجرد أدوات تبعية ودرجة من درجات الاستعباد وشكل من أشكال الاستعمار الجديد؛ حيث لم يستوعب الأمريكان- ولغاية اليوم- حيوية إيران ولا مصالحها ولا حجم مساحة مناورتها ولا كونها مكونًا سياسيًا “مُعذبًا ومُثقلًا” بحسابات التاريخ والحضارة والجغرافيا، ولم يستوعبوا أن إيران لم تُستنبت في مختبرات جامعاتهم كالفطر والزراعات المائية والزراعة بدون تربة؛ فهي دولة ليست وليدة مختبرات بل كيان سياسي ضارب بجذوره في عمق التاريخ، وبالتالي لا يمكن أن يقبل بأن يكون أقل من حليف وبندية تامة.
مع وصول الرئيس المُنتخب إبراهيم رئيسي إلى سُدة الحكم في إيران، يمكن القول إن جراحات أمريكا ستتعاظم، وإن الفُتات الذي كان يلوح به البعض لأمريكا سيستبدله رئيسي بقبضة تحدٍ تعكس إصراره- كرجل ثورة وأمن وحرس وقضاء وقانون- على بناء ثورة وجمهورية ثانية تقلب صفحة العقود الماضية من عمر إيران الثورة وتدخلها في نادي الكبار بقوة وثبات.
لا شك أنَّ رئيسي رجل دولة من الطراز الرفيع ويمتلك من الحكمة والمرونة والعقلانية الكثير، لكنه في المقابل كرجل قانون وقضاء لا يترك المجال لخطواته وقضاياه للطعن أو الاستئناف، كما إن الرجل يُمثل وجدان شريحة واسعة من الشعب الإيراني من واقع سيرته العملية والكاريزما الشخصية التي يمتلكها، وقد تجلى ذلك بوضوح في الحجم الكبير لعدد الأصوات التي كسبها، وهذا ما سيدعمه لتحقيق مشروعه في الحكم لصون الثورة والجمهورية الثانية وإكسابهما المزيد من الحيوية والواقعية.
قبل اللقاء.. من يتعامل مع أمريكا كمن يتاجر في الفحم، ليس له من تجارته سوى سواد الوجه والكفين. (الجنرال/ محمد ضياء الحق).
وبالشكر تدوم النعم..
-
*كاتب وديبلوماسي سابق