في عملية تعيد إلى الاذهان عملية قتل رفيق الحريري في لبنان في العام 2005، «نفذت» أو أعلن عن تنفيذ 3 طائرات مسيّرة هجوماً على منزل رئيس الوزراء العراقي في مرحلة حرجة يمرّ فيها العراق إثر الانتخابات النيابية الأخيرة التي أفضت إلى نتائج رفضها قسم كبير من الهيئات والأحزاب السياسية العراقية التي «اتهمت المفوضية العليا للانتخابات وخلفها حكومة مصطفى الكاظمي، بتزوير الانتخابات والعبث بأصوات الناخبين والخروج بنتائج وأكثريات لا تتناسب مع الإرادة الشعبية العراقية الحقيقية».
لقد سعرت الانتخابات تلك، الصراع الداخلي في العراق، ودفعته إلى مواطن باتت تثير القلق والخشية على الأمن والسلم الأهلي والاستقرار العام، صراع كما بات واضحاً ناشب بين تيارين رئيسين يواكبهما فيه قوى أخرى تتردّد في نصرة أي من التيارين المتصارعين المشكل أولهما من الأحزاب والقوى التي ترفع «شعار العراق أولاً» وتنسق ظاهراً أو خفية مع قوى إقليمية ودولية من أجل العمل بسياسة عراقية ذاتية خاصة تتيح للدولة العمل والتنسيق مع قوى دولية بقيادة أميركية ومع قوى إقليمية تتشكل من دول خليجية بقيادة سعودية بشكل خاص.
أما التيار الثاني فيختلف عن الأول في أهدافه السياسية والاستراتيجية كما وفي فهمه لمسألة مصادر القوة الدفاعية عن العراق، وهو في ذلك يتمسك عسكرياً بثنائية القوى المسلحة تحت قيادة رئيس الوزراء، ثنائية تؤكد شرعية الحشد الشعبي إلى جانب الجيش العراقي، وتتمسك باستراتيجية التحرير التام وإخراج جميع القوات الأجنبية من العراق وعلى رأسها قوات أميركا وحلفائها خروج يكون تنفيذا للقرار الصادر عن مجلس النواب العراقي الذي اتخذ في العام الماضي، كما أن في استراتيجية هذا التيار السعي ليكون العراق جزءاً من محور مقاومة الاحتلالات الأجنبية ومكافحة الإرهاب في المنطقة، المحور الذي تنتظم فيه إيران وسورية دولتا الجوار العراقي شرقاً وغرباً.
قد تبلور هذان التياران بصورة خاصة في العام 2019 عندما ضغط التيار الأول مع قوى أخرى في الشارع وأسقط حكومة عادل عبد المهدي في خريف ذاك العام، سقوط أعقبه اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني بطائرة أميركية مسيّرة تباهى الرئيس الأميركي ترامب بأنه هو من أرسلها لتنفذ الجريمة على أبواب مطار بغداد، وهو الاغتيال الذي أجّج الصراع الداخلي في العراق الذي انفجر في الشارع بشكل دراماتيكي في العام الماضي أفضى إلى وصول مصطفى الكاظمي إلى منصب رئاسة الوزراء، مترافقاً مع توافق على إجراء انتخابات مبكرة تعيد إنتاج السلطة في العراق على ضوء المتغيّرات المحلية والإقليمية المؤثرة في العراق.
بيد أن الانتخابات التي أجريت في الشهر الماضي لم تحسم المسألة كما تمنى المخلصون للعراق، بخاصة بعد أن رفض التيار الثاني نتائجها وأصرّ على إعادة الفرز بشكل يدوي يبعد شبهة الخطأ غير القصدي أو التزوير المقصود، لكن المفوضية العليا للانتخابات لم تستجب للطلبات تلك بأكثر من 25 في المئة من حجم الطعون المقدمة ما أغضب الفريق الثاني ودفعه إلى الشارع، وأنتج بيئة صدام بين المتظاهرين السلميين والقوات الأمنية الرسمية صدام وقع بنتيجته قتلى وجرحى بشكل فاجأ الجميع، بخاصة بعض قادة الفريق الثاني الذين حملوا رئيس الوزراء مسؤولية الدماء التي سالت.
في ظل هذا المشهد المأسوي أعلن عن «محاولة اغتيال رئيس الوزراء بطائرة مسيّرة» أغارت على منزله في المنطقة الخضراء الرفيعة التحصين والأمن في بغداد، محاولة تبيّن أنها فشلت ونجا الكاظمي من خطرها وهنا انهالت الأسئلة والمخاوف والتوقعات، وكما في قتل رفيق الحريري في لبنان في العام 2005، تكرر السلوك في العراق من حيث كانت المسارعة إلى اتهام قوى التيار الثاني الذي يحتضن الحشد الشعبي وسلاحه، اتهامه بتدبير وتنفيذ العملية، اتهام استبق أي تحقيق ولم يستند إلى أي دليل أو برهان. أما الفريق الثاني فقد بادر للتنصل من الجريمة ساخراً ممن يتهمه بها واصفاً الفعل بالخفة والبساطة وتنفيذه بالغباء.
لقد حصلت «محاولة الاغتيال» التي أعلن عنها من قبل الجهات الأمنية الرسمية في لحظة حرجة من التشنج وانعدام الثقة بين الدولة وقوى الفريق الثاني الذي يحتضن الحشد الشعبي ـ القوة التي شكلت لمواجهة إرهاب داعش واستمرت قائمة على سلاحها بعد أن عالجت خطر داعش مع إسباغ الصفة الرسمية عنها بوضعها تحت قيادة رئيس الوزراء، ما سهّل عملية اتهام هذا الحشد أو بعض فصائل التيار الثاني بعملية الاغتيال، لكن نسي من أطلق الاتهام أن هذه العملية بمجرد حصولها قد تحقق مكاسب لخصوم هذا التيار وتفقد الحشد وحاضنيه الكثير من أوراقهم بخاصة أنها قد:
ـ تحجب واقعة إطلاق نار على المدنيين المتظاهرين ومسؤولية من أمر ونفذ ذلك.
ـ تدفع إلى التسليم بنتائج الانتخابات والعمل بما أعلن منها والسير قدماً في إعادة تشكيل السلطة على أساسها بانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب وتشكيل الحكومة، وهنا يكون الفريق الأول الذي يبدو أنه وفقاً للنتائج المعلنة هو صاحب الحظوة في امتلاك السلطة.
ـ تعزز حظوظ مصطفى الكاظمي في العودة إلى رئاسة الحكومة خلافاً لما يريد التيار الثاني.
ـ تفتح الطريق أمام حلّ الحشد الشعبي وفقاً لما أعلنه بعض الفائزين في الانتخابات.
ـ تبعد العراق عن جيرانه في محور المقاومة وتدفعه للتمايز عن سورية وإيران.
وأننا نعتقد أن بعضاً أو كل ما ذكر أعلاه لا بد أنه كان قائماً في ذهن المخطط لعملية الاغتيال، وتبقى المسألة الأهم والأخطر مما تقدّم وهو ما يخشى مما يعرف عن أميركا وما تعتمده من استراتيجيات في البلد الذي تجبر على الخروج منه، فأميركا في احتلالها وخروجها تكون كالفيل في غرفة الزجاج يكسر عند الدخول ويحطم عند المكوث كيفما تحرك ولا يسلم منه الزجاج عند الخروج،
فأميركا التي أخرجت من العراق في العام 2011 بعد 8 سنوات من احتلال تدميري له عادت إليه في العام 2014 بذريعة محاربة داعش التنظيم الإرهابي الذي ولد بقرار واحتضان أميركي، وتواجه أميركا اليوم أكثرية عراقية ساحقة تضغط لخروجها مجدداً منه، ولا تتمكن أميركا من البقاء في العراق إلا في إحدى حالين، إما وصول التيار الأول إلى السلطة بعد التسليم بنتائج الانتخابات على رغم الطعون بها ووسمها بالتزوير أو دفع البلاد إلى الفوضى عبر فتنة تقود إلى حرب أهلية تحجب الوجود الأميركي وتشغل العراق بنفسه فيدمر بعضه بعضاً. وإذا عرفنا المستفيد من الجريمة سهل علينا معرفة مرتكبها، وليس صدفة أن يسارع العاملون بتنسيق مع أميركا للقول بأنّ الطائرات المسيّرة قدمت إلى الهدف من الجنوب الشرقي لبغداد حيث لا تغطية للرادارات الأميركية، في تبرير يضحك الثكلى.
لقد كشف الإعلان عن محاولة اغتيال الكاظمي وما تبعه، أن المسألة أبعد من قتل شخص بات وجوده في السلطة في أيامه الأخيرة، وأكد أن ما يستهدف العراق خطير جداً يتمثل في خطر فتنة وحرب أهلية وفوضى تشغل العراقيين عن احتلال الأجنبي وتفتت الدولة وتفاقم الوضع في المنطقة سوءاً يحجب إنجازات محور المقاومة في مواجهة الحروب التي استهدفته، من هنا تبدو أهمية المسارعة العراقية إلى إجراء تحقيق سريع وجدي وشفاف ومعمّق لكشف حقيقة محاولة الاغتيال وتحديد الجهة أو الجهات التي تقف وراءها لقطع الطريق على الفتنة والفوضى، تحقيق لا تشارك به أميركا طبعاً.
وبانتظار نتائج التحقيق يجب أن يكون العراق والإقليم في أقصى جاهزية للتصدي للخطر ذاك. وصحيح أن ما يجري في العراق هو في الأصل والبدء شأن عراقي داخلي لكنه بأثره وأبعاده يمتدّ إلى الإقليم بخاصة إلى دول الجوار ومنها دول محور المقاومة، من هنا تكون المسؤولية في إطفاء الحريق العراقي الذي يخشى منه مسؤولية عراقية وطنية ومسؤولية عربية وإقليمية من دون تردّد.