22-آذار-2023
د.حسن أحمد حسن
غصت وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية الخاصة بالصحف والأخبار ومراكز الدراسات الإستراتيجية بسيل غير مسبوق من المقالات ووجهات النظر والقراءات المكرسة للحديث عن الاتفاق الإيراني ـ السعودي الذي أعلن عنه من بكين بتاريخ 10/3/2023م وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي منذ لحظة الإعلان عن الاتفاق إلى ما يشبه الخليج الذي تصب فيه أنهار وروافد وسواقٍ متعددة لكل منها لون ورائحة وشكل مختلف إلى حد التناقض أحياناً، فهناك من رأى أن إعلان الاتفاق سيسرع العدوان الأمريكي ـ الإسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية، وذهب بعضهم إلى رفع سقوف الانتقام التي قد تقدم عليها واشنطن من الرياض إلى مستويات لا تستبعد جرف المملكة السعودية إلى أتون نار ملتهبة تغير تركيبتها القائمة، في حين رأى آخرون أن الإعلان عن الاتفاق من الصين يعني نهاية نظام الأحادية القطبية رسمياً، وانحسار الفعالية الأمريكية عن المنطقة التي كانت عبر عقود أحد الملاعب الإستراتيجية الأساسية للإدارات الأمريكية المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية، وذهب بعض أنصار نظرية المؤامرة من كلا الطرفين المتصارعين إلى طرح تساؤلات تتضمن التشكيك في أن تلتزم السعودية بما تم الإعلان عنه من اتفاق، ومنهم من شكك بالتزام الجانب الإيراني، وما هي الخطوات التي يجب اعتمادها في حال حصل ذلك، في حين ذهب كتَّاب آخرون إلى أن الأمر يعني بداية ناجحة لفكفكة العقد المستعصية في بقية ملفات المنطقة الساخنة، وحتمية إيجاد حلول قريبة لجميعها بدءاً باليمن ومروراً بلبنان وسورية والعراق والقضية الفلسطينية، وليس هذا وحسب، بل إن بعض لتحليلات جنحت باتجاه الزوال القريب للكيان الإسرائيلي.
حقيقة أن لكل وجهة نظر مما ذكر ما يدعمها من القرائن الدالة، وهذا يضع الكتَّاب والمفكرين والمحللين أمام مسؤولية مركبة، فهي مسؤولية أخلاقية وإنسانية ووطنية وشخصية بآن معاً، وأهم ما في الأمر أن يكون الكاتب مقتنعاً بصحة ما يذهب إليه من تحليلات واستنتاجات وسيناريوهات محتملة وتوقعات، وبعدها يمكن أن يعرض رؤيته التي يكوّنها لإقناع الآخرين بصحتها أو جدواها، وانطلاقاً من هذا سأورد بعض النقاط التي قد تكون تساعد على فهم حقيقة اللوحة المتشكلة بصورة بانورامية شاملة، ومنها:
• خروج السياسة الصينية عن الصورة النمطية المعروفة بالهدوء وعدم الاحتكاك المباشر إلى درجة تم توصيفها على امتداد عقود بسياسة” المرأة الحامل” التي تسير بين جموع كثيفة هائجة، فتحيط بطنها بكلتا يديها وتسير بحذر فائق لأن ما يهمها أن تمضي أشهر الحمل وتضع جنينها بسلام، وكان من المتوقع أن يكون موعد الولادة وفق ما صدر من دراسات إستراتيجية عام 2034م. أو على الأقل بعد انقضاء العشرية الثالثة من هذا القرن، وفجأة وبدون سابق إنذار يخرج المارد الصيني الاقتصادي من قمقمه الدبلوماسي المتضمن تلقائياً فاعلية جيوبولتيكية تحمل في تكوينه لقدرة على تجوز الإقليمي إلى الدولي، والأهم من ذلك أن مركز الانطلاق تبلور في منطقة تسيطر واشنطن على المجال الحيوي فيها بشكل مباشر، وبلا منافس.
• النفوذ الأمريكي في المنطقة بعامة وداخل مفاصل صنع القرار السعودي بخاصة يدفع لاستبعاد احتمال خروج القرار السعودي بالمطلق على الإرادة الأمريكية، فالقواعد الأمريكية المنتشرة على الجغرافيا السعودية، وتدخل واشنطن في كل شاردة وواردة يمكّنها مفاصل صنع القرار الأمريكي من ضبط إيقاع من يفكر بـ “الزعل أو الحرد” والخروج عن الهامش المحدد له، وإلزامه على العودة مكرهاً إلى بيت الطاعة، وتحديد الركن الذي يسمح له التحرك في فنائه.
• من جهة مقابلة يتضح للجميع أن الهيبة الأمريكية تتآكل إقليمياً ودولياً، وأن إحكام القبضة الأمريكية على الجميع يتراخى، والقدرة على التحكم بتطور الأحداث وتداعياتها في انحسار متدرج ومتدحرج، والقرائن الدالة على اقتراب أفول عصر الأحادية القطبية تزداد ويتعاظم تبلورها أفقياً وعمودياً، وهذا يجعل من الممكن أن يجنح متخذ القرار السعودي للتفكير جدياً بمغادرة السفينة الأمريكية التي يبدو أنها تغرق، لكن ما تزال تحتفظ بجبروت عسكري واقتصادي يفرض على الأتباع والمنضوين تحت العباءة الأمريكية جميعاً خشية قبطانها والخوف من القائمين على تحديد مسارها وفق إستراتيجية قد لا تظهر معالمها إلا بالقدر الذي تسمح به مفاصل صنع القرار الأمريكي.
• من المسلم به أن الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال تحتفظ بروافع القوى العظمى أو ما يسمى الإمبراطوريات المهيمنة، ومن المتعارف عليه في منطلقات التحليل الاستراتيجي أن مثل هذه الإمبراطوريات تكون أكثر خطورة وعدوانية في زمن الأفول والانحسار عما كانت عليه في زمن التمدد والانتشار، ولا يستطيع أي طرف أن يبعد هذا الأمر عن طاولة حساباته قبل الإقدام على اتخاذ أي قرار استراتيجي.
• مهما بلغ مستوى تأثير اللوبي الصهيوني في الداخل الأمريكي يبقى محكوماً بثنائية التابع والمتبوع، والكيان الإسرائيلي بكليته سيرورة وصيرورة يبقى تابعاً وشرطياً لحراسة المصالح الأمريكية بخاصة والأطلسية بعامة في المنطقة وليس العكس، والمناكفة التي تبديها حكومة اليمين المتزمت بزعامة نتنياهو لبايدن وإدارته لا يمكن إلا أن تنعكس سلباً على الداخل الإسرائيلي الذي يعيش انقساماً غير مسبوق إلى درجة حذر فيها رئيس الكيان “هرتسوغ” وغيره من مسؤولي النسق الأول في “إسرائيل” من خطر وجودي يهدد مصير “دولتهم” جراء الانقسام الحاد الذي يعصف بالكيان من الداخل، وهذا يزيد من إمكانية التفكير بالهروب إلى الأمام وتصدير الأزمة الداخلية بحماقة يمكن أن يتم ارتكابها وتخرج الأمور بتداعياتها عن السيطرة.
• بالتكامل مع الفقرة السابقة لا يخفي قادة محور المقاومة الإعداد والاستعداد للمعركة الكبرى التي قد تكون قريبة، وهذا ما أشار إليه بتاريخ 8/3/2023م. سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الذي وجهه للخبراء والمحللين السياسيين في نهاية مؤتمرهم الأول الذي عقد في لبنان، وقد تشكل أية حماقة إسرائيلية الشرارة التي تشعل المنطقة برمتها في توقيت لا ينسجم وأجندة العمل الأمريكية.
• الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية عظمى لها أولوياتها التي قد لا تعجب بقية الأتباع والحلفاء المحسوبين على البوصلة الأمريكية، وهذا لا يقلق شاغل البيت الأبيض وإدارته، لأن المصالح العليا الإستراتيجية الأمريكية هي الأهم، وكل ما تبقى تفاصيل لخدمة تلك المصالح، ومن الواضح لكل ذي بصيرة أن الاهتمام الأمريكي اليوم منصبٌ على إغراق روسيا في أوكرانيا إن استطاعت، ومحاولة توسيع دائرة الاشتباك لإطالة أمد الصراع في أوربا الشرقية أطول وقت ممكن، لأن من شأن ذلك أن يزيد فرص انبطاح أوربا بكليتها أمم الهيمنة الأمريكية أكثر فأكثر، وإذعانها التام لمشيئة واشنطن، وإشعال أي بؤرة توتر أخرى في الوقت الحالي سيعيق دورة اتخاذ القرار الأمريكي من العمل بأريحية لتنفيذ أجندتها التي تستهدف روسيا وأوربا والقرار الدولي بكليته.
• فشل جميع المحاولات الرامية لاختلاق اقتتال طائفي في المنطقة “سني ـ شيعي” بفضل التعاطي المسؤول من أطراف محور المقاومة والتعامل الموضوعي مع الأوراق التي يتم التلويح بها وتفكيك حواملها ورقة إثر الأخرى، مع الالتزام العلني بعدم الانجرار إلى الحرب الطائفية التي يحاولون إشعال أوارها على الدوام، ومع ذلك تحولت إيران إلى قوة إقليمية صاعدة وعلى علاقة جيدة مع كل من يرفض الإذعان للمشيئة الصهيو أمريكية، وكان بالمقابل ثلاث دول وازنة يمكن أن تلعب أي منها دور القطب الإقليمي المكافئ لإيران:(السعودية ـ مصر ـ تركيا) لكن تطور تداعيات الربيع المزعوم الذي اعتمد كحصان طروادة لتمزيق دول المنطقة لم يفلح في تحقيق النتائج المرجوة، فتحطمت جحافل الإرهاب التكفيري المسلح على الجغرافيا السورية، وتعثر المشروع الإخونجي في مصر التي خرجت من حلبة السباق، وبقي مشروع الإخوان المسلمين متقدماً في تركيا لكنه تضعضع بعد سقوطه في مصر، وغدت تركيا أردوغان متذبذبة في مواقفها مع تميزها بكفاءة عالية بالرقص على الحبال المتعددة، وهذا ما أفلحت إيران في البناء عليه فمتَّنت علاقاتها مع تركيا إلى درجة اهتزت فيها الثقة بين تركيا والأطلسي، الأمر الذي أفقد تركيا إمكانية التحول إلى قوة ندية في مواجهة إيران، وبالتالي بقيت السعودية المرشح الوحيد لكن مع غياب التكافؤ بالقدرات العسكرية منها على وجه التحديد، وهذا يعني تحولها إلى دريئة وحيدة مرشحة لتلقي الضربات الأولى الأشد إيلاماً في أية مواجهة مفتوحة مباشرة، مع فقدان الطمأنينة والثقة بمصداقية المواقف الأمريكية، وبالتالي الخوف من المجهول.
• تزامن كل ذلك مع ارتفاع الصوت الروسي وأخذ زمام المبادرة الميدانية على الجبهة الأوكرانية، وتقدم الصين بوتائر متسارعة تفوق القدرة الاقتصادية الأمريكية على المنافسة، وتوحي بحتمية انتهاء عصر الأحادية القطبية، إضافة إلى تعثر غير مسبوق في داخل الكيان الإسرائيلي الذي أعاد الانتخابات خمس مرات في غضون قرابة العامين، وازدياد المقاومة الفلسطينية حضوراً وفاعلية ودخول عامل جديد في المواجهة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي وهو عرب أراضي 48.
• وسط هذه الأجواء الملبدة والمتشابكة التي لا يمكن معها ضمان نتيجة أية حرب قد تفكر واشنطن بإشعالها يصبح العمل للخروج من احتمال التدحرج نحو الهاوية يحتل المرتبة الأولى، وفي ضوء هذا يمكن فهم توقيت الإعلان عن الاتفاق السعودي ـ الإيراني الذي قد يكون رأى النور بغض طرف أمريكي، وليس برضا أمريكي، لكنه شبه إلزامي لضيق الخيارات الممكنة وفرزها إلى السيئ والأسوأ، وانتفاء السيناريوهات الأخرى المضمونة، وهذا يعني إمكانية العودة الأمريكية مجدداً إلى الدفاتر القديمة كالتاجر المفلس والتفكير باعتماد سياسة الاحتواء المؤقت خشية إقدام نتنياهو على محاولة الانتحار وإشعال المنطقة، إذ من المستبعد أن تقدم أي حكومة إسرائيلية على حماقة بهذا الحجم إلا بضمان موافقة أمريكية مسبقة تتضمن السكوت على الأقل، وبالإعلان عن الاتفاق رسمياً توضع كل الحسابات السابقة على الرف.
استنتاجات:
ما تقدم ذكره يساعد على تكوين صورة قابلة للفهم، لكنها تبقى محكومة بالتداعيات التي قد تطرأ في أي محطة من المحطات القادمة، وهذا لا يغير من أهمية تبلور مجموعة معطيات بعضها يرقى إلى مستوى الحقائق القائمة على أرض الواقع، ومنها:
ـ الإعلان عن رعاية الصين للاتفاق السعودي الإيراني يعني انتقال المنافسة الصينية من الجانب الاقتصادي إلى الجانب الدبلوماسي والسياسي، وقد تمتد لتصل إلى بقية الجوانب الأمنية والعسكرية إقليمياً ودولياً.
ـ الاتفاق محطة إستراتيجية مهمة في العلاقات الدولية، وهي نقطة انعطاف رئيسة في تاريخ توازن القوى إقليمياً ودولياً، وتصلح أن تكون الأرضية المناسبة للعمل المشترك، وتوحيد الجهود الهادفة لإعلان أفول الأحادية القطبية.
ـ الصفعة التي تلقاها الكيان الإسرائيلي قد تدفعه لارتكاب حماقات غير محسوبة، وقد يرى بعض أصحاب العقول التحليلية التي تستعجل تخليص المنطقة من شرور هذا الكيان النشاز أنه من المفيد تشجيعه للإقدام على مقامرة متوقعة قد تعني الشروع بالانتحار في هذه المرحلة الحرجة التي يعيشها داخلياً وإقليمياً ودولياً.
ـ بدء سورية باستعادة فاعلية دورها المحوري، والانفتاح من جديد على دمشق يوفر فرصة نادرة من المفيد استثمارها بالشكل الأمثل لمراكمة أوراق قوة إضافية لصالح سورية بخاصة والمقاومة بعامة، وهذا الأمر يبعد بعض الشيء شبح الحرب الكبرى، و قد يكون أحد أسباب تأخر اشتعال شرارتها، مع الإشارة إلى تعدد المصادر الأخرى المؤهلة لتكون الزناد المطلوب.
ـ بغض النظر عن النتائج الإيجابية الكبيرة التي قد تترتب على الاتفاق، لكن لا يجوز إسقاط أن يكون تم بعلم واشنطن التي تعاملت مع الأمر من مبدأ “اتفاق الضرورة” فجميع السيناريوهات الأخرى الممكنة والمحتملة أكثر كارثية على واشنطن وحلفائها، وهذا يعني أن حقيقة موقف واشنطن قد يكون خطوة إلى الوراء، وقد يكون تحركاً في المكان يمنة أو يسرة للاحتفاظ ببعض الهيبة أمام نفسها وليس أمام الآخرين، ولضمان ضبط إيقاع الخروج على الطاعة مع مرور الوقت، لأن المؤشرات على إمكانية حدوث ذلك تزداد بتسارعات قد تفقد الإدارة الأمريكية في لحظة ما إمكانية التحكم بالتدعيات .
ـ من المهم البناء على البيئة التي وفرها الإعلان عن الاتفاق، وهذا هو الوقت الأنسب لتحرك القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً، ولا شك أن الإعلان الرسمي عن تكوين رؤى مشتركة روسية صينية من شأنه أن يسهم بسحب ما تبقى من بساط من تحت أرجل اليانكي الأمريكي، وتزداد هذه الإمكانية وتتعاظم في حال تبلور توجه عام لدى منظمة شنغهاي و تجمع بركس بهدف هندسة مواقف محددة ومشتركة يمكن لواشنطن ابتلاع مرارتها، وفي الوقت نفسه تسدل الستار إلى غير رجعة على الأحادية القطبية التي لم تجلب لعالم بكليته إلا المزيد من الحروب والاقتتال والتوترات والاضطرابات لتضمن بقاء واشنطن متفردة بالقرار الدولي.
كلمة أخيرة:
بينما كنت أكتب الجمل الأخيرة من هذا المقال خطر على ذهني تساؤلات أظن من حقي وواجبي كمواطن سوري أن أطرحها على كل من يقرأ هذا التحليل، ومنها: ماذا لو لم تصمد سورية بدعم من أشقائها وحلفائها الحقيقيين في مواجهة جحافل الإرهاب التكفيري المسلح والمدعوم من قوى فاعلة إقليمياً ودولياً، وأية معادلات كانت تحكم المنطقة والعالم لو استطاع رعاة الإرهاب وأعاصير الصقيع العربي أن يجتاحوا بمشروعهم الشيطاني سورية كما اجتاحوا غيرها من دول؟ وهل كنا سنسمع عن ترك الباب موارباً لو أن الناتو استطاع أن يفرض شروطه على روسيا في أوربا الشرقية؟ وماذا لو لم تستطع إيران التمسك بمواقفها والدفاع عن حقها المشروع في امتلاك تقانة الطاقة النووية، وأن تحجز مقعدها المتقدم في سوق الصناعة العسكرية الثقيلة، وبخاصة في مجالي القدرة الصاروخية والطيران المسير؟ وهل كان الواقع كما هو عليه اليوم لو أن روسيا تأخرت أكثر في تنفيذ عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا لوقف تمدد الناتو وزحفه واقترابه من حدودها؟ وأخيراً ماذا عن الصعود الصيني غير المسبوق اقتصادياً مع بوادر التمدد باتجاه القضايا السياسية والأمنية؟.
تساؤلات أتركه مفتوحة ليضع كل متابع الأجوبة التي تنسجم وقناعاته الذاتية.
*خبير عسكري ومختص في علم الجيوبولتيك