13-نيسان-2023
تحظى القدرات العسكرية المدرّعة والجوية، بالقسم الأكبر من الاهتمام في ما يتعلّق بأخبار التطورات الميدانية التي تشهدها ميادين القتال في شرق وجنوب أوكرانيا، وهي قدرات-وإن كانت تحظى بأهمية خاصة، فرضتها طبيعة ميدان القتال واعتبارات أخرى-إلا أنّ هذا التركيز جعل الأضواء تخفت عن قدرات عسكرية أخرى لا تقلّ أهمية عن هذه القدرات، كانت لها أدوار مهمة في التاريخ العسكري بشكل عام، وفي المعارك الجارية منذ أكثر من عام بين الجيشين الروسي والأوكراني.
من ضمن هذه القدرات، الوسائط الخاصة بـ “الحرب الإلكترونية”، والتي تعمل بشكل أساسي، على رصد الموجات اللاسلكية المعادية، والتشويش عليها وإعاقتها. وهي مهمة تعرّضت لمستويات كبيرة من التطوير والتحديث خلال العقود الأخيرة، وكانت المجريات الميدانية في أوكرانيا مثال آخر وهام على أهمية هذه القدرات في الحروب الحديثة، خاصة أنه تمّ استخدامها من كلا طرفي القتال، بمستويات ودرجات متعددة، رغم أن هذا الاستخدام ظلّ في مجمله خارج التغطية الإعلامية والصحافية بشكل شبه كامل.
الإمبراطورية الروسية.. بداية ظهور الحرب الإلكترونية
كان للإمبراطورية الروسية، قصب السبق في مجال الحرب الإلكترونية بشكل عام، حيث كانت أول من اعتمد قوات متخصصة في الحرب الإلكترونية، وذلك عام 1904، تأسيساً على دراسات استراتيجية بدأ عدد من كبار قادتها العسكريين في إعدادها منذ أوائل عام 1902، انتهت إلى إعداد دراسة موحّدة تتناول بشكل عامّ-تتوافق مع ما توفّر من تقنيات في ذلك التوقيت-الأهمية الاستراتيجية للحرب الإلكترونية. ومنذ ذلك التوقيت، شكّلت الحرب الإلكترونية إحدى الركائز الأساسية للقوة العسكرية لروسيا، بشكل لا تزال انعكاساته ماثلة للعيان حتى الآن.
لهذا لم يكن غريباً أن يكون أوّل استخدام لسلاح “الحرب الإلكترونية” في الحروب التقليدية هو من نصيب الجيش الروسي، الذي استخدمت قواته البحرية في الخامس عشر من نيسان/أبريل 1904، للمرة الأولى هذا السلاح ضد القوات البحرية للإمبراطورية اليابانية، خلال حصار الأخيرة ميناء “أرثر” في منشوريا، والذي كان تحت السيادة الروسية في ذلك التوقيت، ضمن المعارك التي خاضها الجانبان خلال الحرب التي دارت بينهما بين عامي 1904 و1905.
المفارقة كانت أن استخدام هذا السلاح-والذي تمثّل في التشويش على الاتصالات اللاسلكية بين السفن اليابانية-قد تمّ عن طريق الصدفة، نتيجة لكثافة رسائل التلغراف المرسلة من المحطات الروسية الموجودة داخل الميناء نحو السفن الحربية الروسية الموجودة حوله. فاستفادت موسكو من هذه التجربة لاحقاً خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الحرب الإلكترونية بمثابة القدرة القتالية الوحيدة التي تمتعت القوات الروسية فيها بمزايا نوعية عن بقية الجيوش المشاركة في هذه الحرب، من خلال الكشف السلبي عن الإرسال اللاسلكي المعادي، وتنفيذ عمليات تشويش بدائية على هذا الإرسال.
التميّز الروسي في هذا المضمار جعل أنظار القوى الدولية الأخرى تلتفت إلى أهمية هذا السلاح، وهو ما ساهم في خضوع التقنيات الخاصة بالحرب الإلكترونية إلى تحديثات جذرية ظهرت آثارها خلال الحرب العالمية الثانية، خاصة في ما يتعلق بالقدرة على التشويش على البث المعادي عبر عدة تردّدات في آن، ولم يعد المتاح فقط هو التشويش على القدرات اللاسلكية للجيوش الأخرى، بل أصبح من الممكن اعتراض هذه القدرات والتنصّت عليها والاستفادة ممّا تبثّه من معلومات.
من أمثلة ذلك تشويش القوات البريطانية على الإشارات اللاسلكية التي استخدمتها المقاتلات الألمانية لتحديد المواضع الصحيحة لتنفيذ عمليات القصف الجوي في الأراضي البريطانية، في حين شوشت طائرات ألمانية متخصصة في الحرب الإلكترونية على نظام الملاحة اللاسلكي البريطاني، الذي كانت القاذفات البريطانية تستخدمه بمساعدة محطات أرضية.
شملت مروحة استخدام الحرب الإلكترونية خلال معارك الحرب العالمية الثانية أنماطاً أخرى لم تكن مسبوقة، مثل بثّ طائرات ألمانية متخصّصة لموجات كهرومغناطيسية تسمح بتفجير الألغام البحرية حال مرور هذه الطائرات فوق أماكنها، وكذا استخدام القاذفات البريطانية والأميركية عواكس معدنية تم نشرها بكثافة خلف هذه القاذفات أثناء تحليقها، ما تسبّب في ارتباك الرادارات الخاصة بالدفاعات الجوية الألمانية، التي ظهرت هذه العواكس على شاشتها وكأنها أهداف جوية محلّقة، خاصة وأنّ إطلاق هذه العواكس كان يتزامن مع استخدام لأجهزة متخصّصة بالتشويش على الموجات اللاسلكية ذات التردّد العالي “VHF”، التي كانت تستخدمها محطات التحكّم الأرضي الألمانية لتوجيه المقاتلات الاعتراضية نحو قاذفات الحلفاء المغيرة.
الحرب الإلكترونية ما بعد الحرب العالمية الثانية
وعلى الرغم من الوقت المبكر الذي تمّ فيه إنشاء أول وحدة عسكرية نظامية روسية متخصصة بالحرب الإلكترونية، وذلك في تشرين الأول/نوفمبر 1918، بدأ دمج محدّدات التوجيه اللاسلكي في الجيش الأحمر والقوات البحرية في العام التالي، وكذا إدماج أوّل وحدة متخصصة في التشويش اللاسلكي ضمن تشكيلات الجيش الأحمر أواخر عام 1942، إلا أن استخدام القوات الروسية للحرب الإلكترونية خلال معارك الحرب العالمية الثانية كان محدوداً جداً مقارنة بالقوات الألمانية أو البريطانية أو الأميركية.
حفّز استخدام أطراف دولية عديدة وسائط الحرب الإلكترونية بشكل مكثّف ومتعدّد الاتجاهات، مثل الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل”، الجيش السوفياتي كي يتوسّع في تجهيز وتأسيس وحدات متخصصة في الحرب الإلكترونية داخل تشكيلاته، خاصة أن استخدام القوى الغربية لهذه التقنية، سواء خلال الحرب في كوريا أو فيتنام، كان ضد أطراف مدعومة من قبل السوفيات.
بين عامي 1954 و1959، شكّل الجيش السوفياتي سلسلة من الكتائب الجديدة الخاصة بالإعاقة والتشويش على الموجات اللاسلكية، وتحديد مواقع بث هذه الموجات، وهو ما ساهم بشكل كبير في رفع مستوى انخراط هذه القدرات في التشكيلات القتالية السوفياتية.
لكن كانت مرحلة التطوّر الأكبر والأهم في القدرات السوفياتية الخاصة بالحرب الإلكترونية، هي الحقبة بين عامي 1967 و1977، حين أطلقت قيادة الجيش الأحمر-اعتماداً على دروس الحرب في كوريا وفيتنام-برنامجاً بحثياً وتصنيعياً موسّعاً حول الحرب الإلكترونية، استهدف تحقيق تقدّم جوهري على المستوى النظري والعملي في ما يتعلق بالمنظومات التسليحية الخاصة بها، وتأسيس مسار مستدام لتطوير هذه المنظومات، شكّل أساساً تمّ البناء عليه لإنتاج كل وسائط الحرب الإلكترونية السوفياتية والروسية، والتي ما زال بعضها في الخدمة حتى الآن.
هذا المسار المستدام اشتمل على إعادة تنظيم هيكلي داخل الجيش السوفياتي، بحيث تم إدخال وحدات تكتيكية سريعة الحركة للحرب الإلكترونية داخل الوحدات المقاتلة، وكذا إطلاق سلسلة من التدريبات العسكرية المتخصصة في فنون الحرب الإلكترونية، في المناطق العسكرية السوفياتية كافة، ومن أبرزها التدريب العسكري السنوي “Efrir”.
مع ذلك، ورغم رصد موسكو قدرات مالية ولوجستية هائلة لتحقيق هذا الغرض، إلا أن الفجوة التكنولوجية بين منظومات الحرب الإلكترونية الخاصة بها والمنظومات الغربية، ظلت كبيرة، نظراً لتوسّع القوى الغربية في ابتكار الإجراءات المضادة النشطة مثل الشراك الإلكترونية الخداعية، وكذا استغلال تقدّمها التكنولوجي في توسيع نطاق التردّدات اللاسلكية التي يمكن اعتراضها والتشويش عليها.
هذا اتضح خلال عدة نزاعات عسكرية مثل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والتدخّل السوفياتي في أفغانستان بين عامي 1979 و1989، وهذا النزاع الأخير كان نقطة تحوّل أساسية في النظرة الحديثة للجيش الروسي إلى الحرب الإلكترونية، حيث أثّرت الفجوة التكنولوجية بين القدرات السوفياتية والغربية سلباً في قدرة أنظمة التشويش والإنذار المثبتة على المروحيات والطائرات القتالية السوفياتية، في التعامل مع التهديدات التي مثّلتها صواريخ “ستينغر” الأميركية المضادة للطائرات، ناهيك عن تعذّر استخدام وسائط التشويش اللاسلكي السوفياتية بشكل فعّال في أفغانستان، نظراً لطبيعة التضاريس هناك.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دخلت القوات الروسية الخاصة بمجال الحرب الإلكترونية، مثلها في ذلك مثل بقية القدرات العسكرية الموروثة عن الجيش السوفياتي، في حالة من الجمود، بشكل لم يوفّر للجيش الروسي فرصة استخدام قدراته الخاصة بالحرب الإلكترونية، إلا على نطاق محدود خلال الوجود الروسي في الشيشان في تسعينيات القرن الماضي.
خلال هذه الفترة، راقبت المؤسسة العسكرية الروسية بنظرة فاحصة الاستخدام المتكرّر لأنواع متعدّدة من وسائط الحرب الإلكترونية الغربية، خلال عدة نزاعات عسكرية، بين عامي 1991 و2003، سواء في أفغانستان أو البلقان أو العراق، ووصلت إلى خلاصة مفادها أنّه بات من الضروري على موسكو رفع مستوى قدراتها في مجال الحرب الإلكترونية بشكل حاد وسريع.
عودة الروح للبرنامج الروسي الخاص بالحرب الإلكترونية
نقطة انطلاق المسار التنفيذي لهذه الخلاصة، كانت في آب/أغسطس2009، حين دخلت القوات الروسية في نزاع عسكري محدود مع جورجيا حول إقليمي “أوسيتيا الجنوبية” و”أبخازيا”، وتضمّنت هذه المواجهة استخداماً روسياً لمنظومات الحرب الإلكترونية للتشويش على الاتصالات الجوية الجورجية ولحماية الوحدات الروسية من مخاطر العبوات الناسفة المتحكّم بها عن طريق الموجات اللاسلكية.
دروس هذا الاستخدام، وما طرأ بشكل عام عن هذه المواجهة، كان سبباً رئيسياً في شروع موسكو في العام نفسه في مجموعة من الإصلاحات الجذرية في وحداتها العسكرية، تضمّنت دمج وحدات الحرب الإلكترونية في الألوية القتالية كافة، سواء كانت ألوية مشاة أو دبابات أو مشاة ميكانيكية أو حتى وحدات القوات الخاصة والقوات المحمولة جواً.
هذه الخطوة مثّلت الانطلاقة الحديثة لوحدات الحرب الإلكترونية الروسية، التي بدأت في الانخراط الميداني لاحقاً في عدة ميادين قتالية، منها الميدان السوري، ومحيط الحدود مع أوكرانيا، وكذا في بعض نقاط التماس مع حلف الناتو، سواء في القطب الشمالي أو إقليم “كالينغراد” أو البحر المتوسط. علاوة على ذلك، تم إيلاء اهتمام خاص لأبحاث الحرب الإلكترونية، عبر تأسيس لجنة علمية عسكرية دائمة لقوات الحرب الإلكترونية الروسية في تشرين الأول/أكتوبر2015، ثم تأسيس المعهد العلمي للحرب الإلكترونية في مدينة “فورونيج” عام 2016.
هذه التطورات ترافقت مع تأسيس تجمّع “KRET” للشركات العاملة في مجال تقنيات الحرب الإلكترونية، وهو تجمّع يقع ضمن عملاق التصنيع العسكري الروسي “روستيخ”، ويتضمّن أكثر من 100 شركة، تختص في تطوير وتصنيع القدرات الإلكترونية الراديوية العسكرية المتخصصة، وإنتاج أنظمة أرضية وجوية وبحرية للتشويش على الاتصالات والموجات الرادارية.
بحلول عام 2020، تمكّنت وحدات الحرب الإلكترونية الروسية، من تحديث أكثر من 60 بالمئة من معداتها، وأدخلت خلال العام التالي أكثر من 1000 جهاز إلكتروني و19 منظومة جديدة إلى تسليحها، ناهيك عن إجراء أكثر من 200 تدريب تكتيكي خاص، لمحاكاة العمليات الإلكترونية الدفاعية والهجومية، اعتماداً على ما تمّ رصده من دروس وفعاليات خاصة بهذا الصدد خلال العمليات في سوريا وخلال النزاع بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم “ناغورنو كارباخ”.
وكان من أهمها-بحسب تصريحات قائد قوات الحرب الإلكترونية الروسية، يوري لاستوشكين، في نيسان/أبريل 2020، ضرورة شروع موسكو في تطوير وسائط مسيّرة عن بعد لتنفيذ عمليات الإعاقة والتشويش واعتراض الموجات اللاسلكية المعادية، مع إعطاء أولوية لتطوير القدرات الخاصة بالتشويش على الطائرات من دون طيار، وهو ما ظهر بشكل واضح خلال العملية العسكرية الروسية الجارية حالياً في أوكرانيا.
بدأت وحدات الجيش الروسي المنتشرة على الحدود الأوكرانية في الاستخدام المكثّف لمجموعة من أنظمة الحرب الإلكترونية، بالتزامن مع عملية ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والتي تلتها سنوات طويلة من المعارك بين الجيش الأوكراني والوحدات التابعة لإقليمي دونيتسك ولوغانسك شرقيّ البلاد، وهو ما مثّل فرصة مهمة لوحدات الحرب الإلكترونية الروسية، كي تطبّق عملياً ما عكفت على تطويره والبحث فيه من تقنيات ومنظومات منذ عام 2009، تركّزت على تغطية 3 جوانب أساسية.
الجانب الأول هو الاستشعار والرصد الدقيق، والثاني هو توفير الحماية من منظومات الحرب الإلكترونية المعادية، والثالث هو تنفيذ الهجمات الإلكترونية، بما في ذلك التشويش متعدّد الاتجاهات، وتحديد المواقع المعادية، وتعطيل الأجهزة اللاسلكية.
استخدمت الوحدات الروسية خلال هذه الفترة التي سبقت بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا عدة منظومات للتشويش الإلكتروني، تركّزت مهامها على التشويش بشكل مستمر على الاتصالات الأوكرانية، سواء كانت الاتصالات الخاصة بخطوط الهاتف الخليوي، أو الموجات عالية التردّد الخاصة بالاتصالات العسكرية أو موجات الاتصالات المرتبطة بالأقمار الصناعية، أو موجات تغطية الرادارات الأرضية والجوية، إضافة إلى التشويش على موجات أنظمة تحديد المواقع العالمية -خاصة نظام “جي بي إس”– بهدف إعاقة تحليق الطائرات من دون طيار.
لأجل تحقيق هذه الأهداف استخدمت القوات الروسية منظومات “Leer-3” الخاصة بالتشويش على الموجات اللاسلكية المتوسطة والبعيدة المدى، والتي من خلال دمج عملها مع طائرات “أورلان-10” المسيّرة، حقّقت النجاح الأبرز لمنظومات الحرب الإلكترونية الروسية في فترة ما قبل بدء العملية الخاصة في أوكرانيا، حيث لم يتمّ شلّ شبكات الاتصالات الأوكرانية-سواء الخليوية أو اللاسلكية-فحسب، بل تمّ استخدام شبكات الخليوي الأوكرانية في بث دعاية مناهضة لكييف. أهمية هذه المنظومة شملت أيضاً قدرتها على رصد مواضع بث الموجات اللاسلكية المعادية، وبالتالي توفير أحداثيات هذه المواضع لوحدات المدفعية كي تستهدفها.
وتضاف إلى هذه المنظومة المهمة منظومات أخرى تم استخدامها خلال هذه الفترة، ودخلت ضمن الوحدات الروسية التي شرعت في تنفيذ العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، مثل منظومة “Tirada-2″، المتخصصة في التشويش على الاتصالات الفضائية، ومنظومة “Sinitsa” التي تختص بـ تعطيل إمكانية تحديد الهدف بدقة من جانب الطيران المعادي باستخدام أنظمة تحديد المواقع العالمية، وكذا منع نقل البيانات من طائرات الاستطلاع. استخدمت هذه المنظومة بشكل مكثف، إضافة إلى منظومة مناظرة لكنها أقل منها في المدى، وهي منظومة “كراسوخا”، التي استخدمتها القوات الروسية أيضاً بنجاح في سوريا.
الحرب الإلكترونية في العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا
مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تحرّكت وحدات الحرب الإلكترونية الروسية بمعية الوحدات الأخرى إلى داخل الأراضي الأوكرانية، خلال المرحلة الأولى من العملية التي كانت تشمل التقدّم من جنوب بيلاروسيا نحو شمال العاصمة كييف.
بشكل عام دفعت القوات الروسية في المحاور الأساسية للتقدّم 5 ألوية مستقلة للحرب الإلكترونية، أضيفت إليها في المراحل اللاحقة ما يقرب من 30 سرية حرب إلكترونية دخلت ضمن الوحدات البرية، ونحو 10 أفواج للمروحيات المزوّدة بمنظومات الإعاقة والتشويش، و16 سرية حرب إلكترونية تم إدماجها ضمن القوات المحمولة جواً والقوات البحرية المشاركة في العملية الخاصة.
دفعت الوحدات الروسية المتقدمة نحو كييف بعدد من منظومات التشويش على الأقمار الصناعية، خاصة منظومتي “كراسوخا” و”Sinitsa”، إلى جانب منظومات أخرى للتشويش على الطائرات المعادية من دون طيار، مثل منظومات “Zhitel”، ومنظومات التشويش على الاتصالات اللاسلكية، مثل منظومة “Borisoglebsk-2″، إلى جانب مجمع التشويش الإلكتروني “تيرادا”، المتخصص في التشويش على الأقمار الصناعية، والذي تسبّب بشكل كبير في تعطّل وقتي لأقمار “ستارلينك” الفضائية.
بشكل مجمل ساهم استخدام هذه المنظومات مجتمعة خلال المرحلة الأولى من المعارك في معاناة الجيش الأوكراني بشدة من عدم وجود قنوات اتصال مستقرة، مما تسبّب في تأخّر تبادل المعلومات بين وحداته. لكن رغم هذا النجاح للوحدات الروسية الخاصة بالحرب الإلكترونية في المرحلة الأولى للحرب، إلا أن بعض المعضلات طرأت نتيجة طبيعة التقدّم في الجبهة الشمالية نحو كييف.
وكان من بينها تأثّر الاتصالات الروسية نفسها بعمليات التشويش المكثّفة التي نفّذتها وحدات الحرب الإلكترونية التابعة لها، بشكل دفعها إلى اللجوء للحلول نفسها التي لجأت إليها الوحدات الأوكرانية، ألا وهي استخدام خطوط الهاتف الخليوي، التي بالطبع كانت أقل أماناً وأكثر عرضة للاعتراض. يضاف إلى ذلك أنّ الجيش الروسي قد خسر خلال هذه المرحلة نحو عشر منظومات للحرب الإلكترونية، نتيجة للعمليات المدفعية التي نفّذتها القوات الأوكرانية، مستخدمة في ذلك الطائرات من دون طيار لتحديد مواضع هذه المنظومات.
يضاف إلى ذلك استخدام القوات الأوكرانية لبعض منظومات الرصد اللاسلكي محلية الصنع، التي مكّنتهم من تحديد مواضع الإرسال الخاصة بمنظومات الحرب الإلكترونية الروسية المتقدّمة شمال كييف، ما أسفر عن إعطاب 10 منظومات منها، من بينها منظومة واحدة على الأقل من نوع “كراسوخا-4″، تم العثور لاحقاً على أجزاء مهمة منها سليمة من جانب القوات الأوكرانية.
نتائج المرحلة الأولى للمعارك في أوكرانيا، تسبّبت في تغيير جذري في ذهنية استخدام الحرب الإلكترونية من جانب القوات الروسية، التي اتضح لها أن استخدام هذه المنظومات من على أراضٍ معادية أو غير مؤمّنة قد يتسبّب في خسارة منظومات باهظة الثمن من الصعب تعويضها في المدى المنظور. لذا عادت إلى تطبيق الطرق التي كانت متبعة في مرحلة ما قبل عام 2022، وساعدها في ذلك تركّز المعارك في شرق وجنوب البلاد، بشكل يجعل من اليسير تمركز وحدات الحرب الإلكترونية – ولا سيما بعيدة المدى-في مناطق مؤمّنة ضمن السيطرة الروسية.
إلى جانب ذلك، استخدم كلا الطرفين بشكل مكثف منظومات التشويش المخصصة للتعامل مع الطائرات من دون طيار، سواء كانت هذه المنظومات محمولة أو مثبتة على منصات، إلى جانب استخدام كلا الجانبين–ولا سيما الجانب الروسي-للمنظومات المخصصة لاستكشاف مواقع البث اللاسلكي المعادية، ومن ثم تقديم إحداثيات هذه المناطق إلى القوات المدفعية والقوات الجوية.
ومن أمثلة هذه المنظومات منظومة “موسكفا-1″، التي تم البدء في إنتاجها عام 2015، ويصل مداها إلى 400 كيلومتر. استمرت عمليات التشويش على منظومة تحديد المواقع العالمية من جانب الجيش الروسي، خاصة باستخدام منظومة “Pole-21″، لكن كانت هذه العمليات مركّزة بشكل أساسي على المواضع التي قد يتم استهدافها بالذخائر الجوية الموجّهة.
إذاً خلاصة القول إن استخدام منظومات الحرب الإلكترونية في الميدان الأوكراني حمل دروساً عديدة، خاصة في ما يتعلّق بدور هذه المنظومات خلال المعارك التي تتطلّب تحرّكاً سريعاً على الأرض، أو تلك التي تمّت ضمن بيئة جوية معادية.
لكن الأكيد أن الدروس المستقاة من هذه المعارك، أوضحت بجلاء أهمية سلاح الحرب الإلكترونية في الحروب الحديثة، وأهمية مواكبة التحديات التي تطرأ عن التقدّم التكنولوجي، وهو ما واجهته القوات الروسية خلال محاولتها التشويش على أجهزة الاتصالات المتقدمة التي تزوّدت بها القوات الأوكرانية خلال المراحل اللاحقة للمعارك، مثل منظومة “هاريس” الأميركية، وأجهزة “SINCGARS” للاتصالات اللاسلكية، التي تقوم بتعديل ترددات الاتصالات التي تستخدمها بشكل مستمر، ما يجعل من الصعب اعتراض الاتصالات الصادرة منها.
المصدر:الميادين