13-نيسان-2023
“الأغيار” مصطلح ديني يهودي يُطلقه اليهود على غير اليهود، وهو المرادف العربي للكلمة العبرية “جوييم”، صيغة الجمع للكلمة العبرية “جوي” التي تتبدى في معناها النزعة المتطرفة في التمييز الحادّ والقاطع بين اليهود “كشعب مُختار” أو “كشعب مقدَّس” يحِلّ فيه الإله من جهة، والشعوب الأخرى التي تقع خارج دائرة القداسة من جهةٍ أخرى.
ساهم حاخامات اليهود في تعميق هذه النزعة، فأصبح الزواج المُختلَط، أي زواج اليهود من “الأغيار”، غير مُعترَف به في الشريعة اليهودية، وظل الحظر يمتد ويتسع حتى طال مجرد تناول الطعام مع “الأغيار” أو الأخذ بشهادتهم في المحاكم الشرعية اليهودية؛ لأنهم “كاذبون بطبيعتهم”. ثم، تحوَّل هذا الرفض إلى عدوانية واضحة في التلمود الذي يدعو بشكلٍ صريح إلى قتل الغريب.
والواقع أن هذا التقسيم الاستعلائي إلى يهودٍ يقفون داخل دائرة القداسة، وآخرين “أغيار” يقفون خارجها، حَوَّلَ كل البشر إلى أشرار مدنَّسين يستحيل بناء علاقة معهم، لذا وجب على اليهود إقامة جُدرانٍ مرتفعة (مادية ومعنوية) تفصل بينهم وبين من هم خارج دائرة القداسة.
ينطلق المشروع الاستيطاني الصهيوني كذلك من هذا التقسيم الحاد، فالصهيونية هدفت إلى إنشاء “دولة يهودية” لا تضم أي “أغيار”، وهو ما تُعبّر عنه يومياً مؤسسات “دولة إسرائيل” ونُظمها وقوانينها، وليس آخرها قانون القومية العنصري الذي ينطلق من هذا التصور.
في الواقع، ينبغي للمرء ألا يتفاجأ من اتجاهات التطرف وتفشي كراهية الآخر والخطاب العنصري في الجمهور الإسرائيلي، فعملية تفكك “القيم الديمقراطية واحترام سيادة القانون” التي ظلت “إسرائيل” تتغنى بها لم تحدث في ليلة وضحاها، بل ظلت أسيرة آليات الإخفاء والإنكار لسنوات طويلة حتى وجدت مُتنفسها وتبدّت بهذه الحدّية، ولا يمكننا تجاهل أن قيادة الجمهور الإسرائيلي شاركت في بنائها وتصاعُدها، لا سيما في الآونة الأخيرة مع اعتلاء اليمين القومي المتطرف الحكم.
وفي انسيابٍ هادئ ساهم التستر والتماثل القائم بين اليسار واليمين، بشكل فعّال، في انتقال هذه “الغيرية” من العداء للعرب إلى العداء لليهود “أنصار العرب”، لأن أولئك الذين يتحمّلون العنف والتحريض على العنف والعنصرية ضد العرب، عليهم أن يتحملوا ويقبلوا أيضاً العنف والتحريض على العنف ضد اليهود بما في ذلك التحريض على إراقة الدماء والقتل.
والواقع أننا نسمع يومياً عن مظاهر الكراهية والعنصرية العنيفة تجاه الأفراد والجماعات في الفضاء اليهودي العام، وليس في سياق الصراع العربي -الإسرائيلي فحسب، وما يبدو في ظاهره “مجتمع أخلاقي ديمقراطي تعددي”، هو في حقيقته مجتمعٌ عنصري مليء بمظاهر الكراهية، ويتعدى فعلياً على الحقوق الفردية والكرامة الإنسانية ويسيء إلى هذه القيم في الممارسة العملية.
بتنا اليوم نشهد مظاهر العنصرية في جميع مجالات الحياة في الشارع الإسرائيلي، في وسائل الإعلام، في الأماكن العامة وحتى في كنيست الاحتلال. تشمل العنصرية الإسرائيلية إسناد الدونية إلى أفراد ومجموعات مختلفة بناءً على خصائصها العامة كالإثنية، والتوجه الجنسي، والدين، ونمط الحياة، والجنس وغيرها، وباتت العبارات والأفعال التي تَنسِبُ الدونية إلى مجموعات من العرب، النساء، الإثيوبيين، اليهود الشرقيين، اليهود اليساريين تعج في الفضاء الإسرائيلي وتزرع دوائر الكراهية والانقسام والخوف والعنف.
بمرور الوقت، توسع تعريف مصطلح “العنصرية” داخل المجتمع الإسرائيلي وتنامى ليطال فئاتٍ أوسع بسمومه، إذ بات تعريف هذا المصطلح لا يؤكد الشعور بتفوّق الأفراد والجماعات على خلفية عرقية بالمعنى الضيّق للمفهوم الذي يتعلق بالخصائص البيولوجية فحسب، بل “أي فكرة” تستند إلى تفوّق الأفراد أو الجماعات في المجتمع على المجموعات الأخرى على أساسٍ ثقافي واجتماعي أو سياسي.
وهذا ما نشهده حالياً في سلوك القوى السياسية الدينية القومية في “إسرائيل” التي تعمل على نشر كراهية الآخر بهدف خدمة الخوارزمية الحاكمة لليمين القومي من خلال تضخيم سردية “التعاون بين الأعداء في الداخل والأعداء في الخارج”، وبهذه الطريقة تخلق القومية اليهودية الريبة والعداوة والانقسام بين مختلف قطاعات “المجتمع الإسرائيلي”، وتهدد حتى بتحويل الشركاء اليهود إلى أعداء.
أظهرت عملية اغتيال رئيس وزراء “إسرائيل” الأسبق إسحاق رابين على يد إيغال عامير الإمكانات التدميرية والقاتلة للتعصب الديني حينما يقترن بالقومية في المجتمع الإسرائيلي، وهي نظرةٌ متطرفة لم تختفِ أو تتراجع منذ اغتيال رابين إلى اليوم، بل تعززت وأصبحت أكثر انتشاراً وإيذاءً.
فمثلما احتاج قاتلٌ سياسي مثل إيغال عامير إلى أيديولوجية قوية وإلى جمهور يراه “رسولاً له”، وأجواء عامة تضمن مستويات مختلفة من الدعم للفعل، يتعالى اليوم في المجتمع الإسرائيلي مَديحُ بن غفير وسموتريتش لدعوتهما إلى تشريع قانون الإعدام للأسرى الفلسطينيين، ومحو بلدة حوارة الفلسطينية من الوجود، بل واعتبارهما كل من يعارض نهجهما من اليهود “فوضوياً مناصراً للإرهاب”.
لذلك، فإن النظر إلى “القتل السياسي” على أنه عمل استثنائي “مجنون” هو نوع من التعامي عن مكامن الخطر الحقيقي الداخلي الذي عصف، وما زال، بـ “إسرائيل” إلى اليوم.
إن الجمع بين التطرف الديني والقومي، الذي تُنسبُ كثير من جذوره إلى التقاليد اليهودية، يُنكر القيم الإنسانية، ويشوّه جذور “الديمقراطية الإسرائيلية” المُدّعاة ويقوّضها، ويؤدي هذا الخليط من التطرف الديني والقومي إلى المنطق الكامن وراء هذا “التآكل” الداخلي الجاري في “إسرائيل”، وهذه هي التربة الخصبة التي نما وينمو فيها بن غفير وسموتريتش وأتباعهما.
يشكل سلوك اليمين الإسرائيلي القومي المتطرف وإجراءاته الحالية دليلاً آخر على خطورة النهج “الذاتي المُطلق”، الخالي من التشكيك، والذي يبني تعريف الخصم السياسي على أنه “خائن وعدو”، لذلك، وفقاً لهذا النهج فإنه حتى أولئك الذين كرّسوا حياتهم كلها لخدمةً “إسرائيل” وأمنها هم هدفٌ شرعي للتخويف والتخوين وربما القتل.
يتسم الخطاب العام في “إسرائيل” اليوم بقطبية حادة غير عادية، فكل طرفٍ يرى في موقف الطرف الآخر خطيئة وخطراً وجودياً. وقد عمل اليمين المتطرف، في السنوات الأخيرة، وبطرق مختلفة، على إسكات مواقف “الآخر” من خلال حسم الخلاف بالسيطرة على كامل مساحة الخطاب الشرعي، وإخراج الخصم السياسي من عالم الشرعية عن طريق التخويف والتخوين، وما سلسلة القوانين العنصرية التي جرى تشريعها، ومحاولة السيطرة على المحكمة العليا والجهاز القضائي الإسرائيلي إلا مظهرٌ من مظاهر هذا الاتجاه المتنامي.
إنه اتجاه يعطي الحق في معاملة الآخرين، بمن فيهم مواطنو “الدولة اليهود”، كعدو أساسي وأبدي ويزرع اليأس والخوف والعداوة التي ستقود حتماً إلى استمرار الصراع، بما يقوّض الصورة الزائفة “للهوية الإسرائيلية المشتركة” بل “والعيش المشترك”.
من المؤكد أن جرائم الكراهية والعنصرية هذه لا تضر بالفلسطينيين فحسب، بل تضر بـ”الدولة” نفسها وبالمجتمع الإسرائيلي ككل، فمثل هذه الأحداث تزيد من الانقسام وتُحرّض على “الدولة” وتشكل وقوداً للعناصر المتطرفة التي تغذي الصدع بين قطاعات المجتمع المختلفة.
إن الصعوبة التي تخلقها ظواهر الكراهية والنظرة “الغيرية” للآخر ليست فقط صعوبة أيديولوجية أو نظرية، صدام بين الأخلاق والتقاليد، بل هي صعوبةٌ اجتماعية تتعلق بحياة اليهود اليومية الفعلية، وكيفية تعايشهم معاً في “دولة إسرائيل” اليوم.
إن الصراع الدائر بسبب التعديلات القضائية وما رافقه من موجة كراهية وعنصرية وقد وصل إلى مستوى غير مسبوق، خلال الأحداث الأخيرة، بدعم من القيادة السياسية، لن يقود إلى التوصل إلى تسوية ما بين الأطراف المتنازعة التي قد تكون وصلت إلى نقطة اللاعودة، وليس مؤكداً أنه بالإمكان إعادة العجلة إلى الوراء مرةً أخرى، فالأصوات الصاخبة هذه الأيام تكاد تُطيح النسيج الحساس والهش للمجتمع الإسرائيلي، وربما مستقبل “دولة إسرائيل” ككل.
المصدر: الميادين