تعيش المنطقة تناقضات وتحدّيات متعدّدة ومركبة تلزم كلّ عاقل على أخذها بالحسبان وإبقائها على طاولة التشريح في أية قراءة استشرافية للمستقبل القريب منه والمتوسط كحدّ أدنى، فوضع تلك التحديات على الرف يعني الغرق في عسل قد يكون غير صافٍ ولا تحمد عقباه. وهذا لا يقلل قط من عظمة ما تمّ إنجازه حتى تاريخه، إلا أنّ هذه الإنجازات على أهميتها لا تلغي وجود تحديات نوعية تتطلب التعامل معها بكثير من الجدية والمسؤولية لتحويل ما أمكن منها إلى فرص قابلة للبناء عليها والاستثمار بها، وإنْ تعذّر ذلك فمن المهمّ الوقوف بصدق وشفافية أمام الذات والعمل بكلّ السبل لضمان عدم تحوّلها إلى أخطار وتهديدات.
الميزة الأهمّ التي تزيد خطورة التحديات القائمة أنها متعدّدة المستويات وتتوزع على دوائر متداخلة، بل متشابكة في المدخلات والمخرجات، ويمكن التمييز بين ثلاث دوائر أساسية: داخلية وإقليمية ودولية، وسيتمّ تخصيص هذه الدراسة للدائرة الداخلية التي تمسّ بشكل مباشر هذا الطرف أو ذاك من أطراف المقاومة دون غيره: إيران ـ العراق ـ سورية ـ لبنان ـ فلسطين ـ اليمن…، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى أهمّ تلك التحديات بما يلي:
ـ في إيران: تزداد خطورة التدخل الصهيو ـ أميركي لتوتير الأوضاع مع كلّ من أفغانستان وأذربيجان، فضلاً عن استمرار الحصار والعقوبات الأميركية التي لم تنجح عبر عقود في كبح جماح التقدم الإيراني، إضافة إلى استمرار الاشتغال على الداخل الإيراني والنفخ في القربة المثقوبة لتأجيج الشارع، وزيادة زخم تجنيد العملاء والمأجورين، وما قد يسبّبه أولئك من ألم وأوجاع بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى الرغم من القفزة النوعية التي حققتها إيران في مجال الصناعات العسكرية الثقيلة واكتفائها الذاتي من كلّ ما له علاقة بالسلاح والذخيرة، إلا أنّ تحدي المواجهة المفتوحة مع الكيان الإسرائيلي المدعوم من واشنطن وحلفها يبقى أبرز التحديات التي تواجه الأمن القومي الإيراني.
ـ في العراق: استمرار الوجود العسكري الأميركي الداعم لبقايا تنظيم داعش والاستثمار بها ضدّ العراق وسورية بآن معاً، ومحاولة التدخل الاستفزازي في الشؤون الداخلية للعراق تحت عناوين كاذبة وبذرائع واهية، وتشجيع حكومة كردستان على تحويل جزء من الجغرافيا العراقية إلى أوكار للموساد الصهيوني للتجسس والتآمر على العراق وغيره، واعتماده منطلقاً لعدد من العمليات التخريبية التي تستهدف إيران، فضلاً عن أنّ استمرار الواقع القائم لا يخلو من أخطار انفصالية وتقسيمية تستهدف بنية الدولة العراقية بكليتها.
ـ في سورية: تداعيات الحرب المركبة المفروضة على الدولة السورية منذ آذار 2011 تزيد من خطورة التحديات القائمة كماً ونوعاً، حيث التحدي الأكبر ممثلاً بالاحتلالين الأميركي والتركي، إضافة إلى التحدي الذي تشكله النزعة الانفصالية لدى قسد المدعومة أميركياً، وتحدي بقايا الإرهاب التكفيري المسلح سواء أكان قاعدي التوجه «داعش وجبهة النصرة» أم ذا مرجعية جهادية محقونة بجينات الإخوان المسلمين الإرهابية التي تمّ تجميعها في إدلب وغيرها من جغرافيا سورية محتلة والكلمة العليا فيها للأتراك، وما يزيد معاناة السوريين جميعاً وجود معظم الثروات السورية «النفط ـ الغاز ـ الحبوب» إلخ… خارج سيطرة الدولة، وهناك تحدّي إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وزيادة وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية التي تستهدف البنية التحتية «مطارات وموانئ، إضافة إلى مواقع أخرى عسكرية ومدنية»، وكلّ تحدٍ من التحديات المذكورة يحمل في طياته إمكانية التحوّل إلى فرصة أو خطر بآنٍ معاً، وتحصين الأمن الوطني السوري مرهون بشق الطريق باتجاه الفرص، وقطعها أمام الأخطار والتهديدات، وهذا يتطلب الكثير من الجهد والإمكانيات التي لن يكون تأمينها سهل المنال.
ـ لبنان: خصوصية الوضع اللبناني تزيد من صعوبة التحديات القائمة وتعقيداتها، فلبنان الذي كان يعتمد على قاعدة «قوة لبنان في ضعفه» هو اليوم أمام مقاربة أخرى، فقد ثبتَّت مقاومته، أنّ قوته في ثلاثيته الذهبية «المقاومة والشعب والجيش»، ولكن هذه الثلاثية لا تروق لمن لا يريد الخير للبنان واللبنانيين، وهذا يفسّر الاستعصاء المزمن في غالبية مفاصل السياسة الداخلية التي تعاني بالأساس من تداعيات تعدّد المؤثرات الخارجية، واستباحة الساحة الداخلية لنشاط العديد من أجهزة الاستخبارات الأجنبية، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية الحادة وتدني سعر صرف الليرة اللبنانية، وتأثر بقية جوانب الحياة اليومية بهذا الوضع المعقد سياسياً واقتصادياً، ويبقى التحدّي الأكبر استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من أرضه، والأطماع اللامحدودة في ثرواته، ومصادرة قراره السيادي المستقلّ، وعلى الرغم من تآكل قوة الردع الإسرائيلي تجاه لبنان بفضل قوة المقاومة وجهوزيتها الدائمة، إلا أنّ مجموع التحديات المذكورة يتطلب المزيد من العمل الجاد والمسؤول والهادف في ظروف أقلّ ما يُقال عنها إنها معقدة وغير ملائمة.
فلسطين: تنصل العدو الإسرائيلي من كلّ تعهّداته التي قطعها أو قد يقطعها تجاه حقوق الشعب الفلسطيني تحوّل التحدي القائم إلى تهديد وجودي، فضلاً عن التحديات الجوهرية والكبيرة الأخرى، فمفرزات اتفاق أوسلو وما أعقبه من تفاهمات يلخصها التنسيق الأمني المشترك بين السلطة الفلسطينية والعدو الغاصب، وهذا بحدّ ذاته يشكل تحدياً حقيقياً يواجه المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن واقع التشظي القائم في الداخل الفلسطيني بين سلطة حماس في غزة والسلطة في الضفة الغربية، وهذا الانقسام يشكل أحد أهمّ التحديات ونقاط الضعف في عوامل القوة الذاتية الفلسطينية، إضافة إلى التقدّم التكنولوجي الكبير لدى سلطات الاحتلال وتعاظم قدرتها على مراقبة ومتابعة أية نشاطات لأيّ فصيل مقاوم، الأمر الذي يرفع نسبة خطورة هذا التحدي وتحوّله إلى خطر وتهديد يتبلور باستهداف قادة المقاومة في جميع مناطق الوجود الفلسطيني، وفوق هذا وذاك فرض الحصار الخانق على قطاع غزة والتضييق على الفلسطينيين في الضفة وأراضي 48 وسياسة تهديم البيوت والاعتقال التعسّفي وكثير غير ذلك، ومع ذلك استطاعت المقاومة أن تكسر ما كانت تتفاخر به سلطات الاحتلال من قدرة ردعية وتثبت قواعد اشتباك جديدة تبلورت بوضوح خلال معارك «سيف القدس» عام2021، وعملية «ثأر الأحرار» منذ أسابيع قليلة، وهذا يؤكد أهمية امتلاك إرادة الصمود والمواجهة، وهي أعلى بكثير من المعدلات المتعارف عليه لدى جميع أطراف محور المقاومة، الأمر الذي يؤكد جدوى العمل لتحويل ما أمكن من تلك التحديات الخطيرة إلى فرص.
ـ اليمن: قد تكون التحديات التي يواجهها اليمن هي الأصعب والأعقد لأسباب متعددة ذاتية وموضوعية تتوزع على الكثير من العناوين الفرعية، ومع ذلك ما تزال المقاومة في اليمن صامدة وتحقق الإنجازات، وتثبت أنها عصية على الترويض أو التنازل عن الثوابت والحقوق بغضّ النظر عن الخسائر الفادحة التي تمنى بها، بالإضافة إلى فرض حصار بحري وجوي لم ينجح في إضعاف جذوة التحدي والمقاومة المشروعة عند اليمنيين، لكن يبقى الواقع القائم يغص بالكثير من التحديات التي تشكل خطراً وتهديداً للأمن الوطني اليمني.
دوافع التفاؤل وعوامله الأساسية
قد يقول قائل: هل يُعقل بعد توضيح كلّ التحديات المذكورة سابقاً أن يستقيم الحديث عن تفاؤل حذر أو غير حذر؟ والجواب بثقة كبيرة: نعم لأنّ دوافع التفاؤل وعوامله كثيرة ونوعية، ويمكن بتكثيف شديد ذكر أهم تلك العوامل، ومنها:
ـ فشل سياسة الحصار وجميع العقوبات الأميركية المفروضة على إيران منذ عقود، ويمكن نمذجة هذا الأمر وسحبه على بقية أطراف محور المقاومة.
ـ المستوى المتقدّم الذي بلغته إيران في التصنيع الحربي الثقيل: غواصات ـ صواريخ ـ طائرات حربية ومُسيّرة ـ منظومات دفاع جوي إلخ…
ـ الإنجازات الكبيرة التي حققها محور المقاومة في مواجهة جحافل الإرهاب التكفيري المسلح المدعوم من أطراف وقوى عظمى إقليمياً ودولياً، وتحرير الجغرافيا العراقية ومعظم الجغرافيا السورية من تلك المجاميع الإرهابية المسلحة.
ـ إرغام العدو الإسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 وترسيخ هذا النصر بكسر شوكة ذاك الكيان المارق في حرب تموز وآب 2006.
ـ الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في كلّ جولات المواجهة السابقة وفرض قواعد اشتباك جديدة صالحة للبناء عليها والاستثمار بها.
ـ فرض قاعدة «وحدة الساحات، وتواصل الجبهات» التي لا يستطيع المحور المعادي إسقاطها من حساباته.
ـ تراخي القبضة الأميركية التي كانت ممسكة بمفاصل صنع القرار الدولي، وتراجع نفوذها ودورها إقليمياً ودولياً.
ـ زيادة الأصدقاء الأقوياء لمحور المقاومة، والسعي الجاد لإسقاط نظام الأحادية القطبية الذي لم يجلب للعالم إلا المزيد من الويلات والكوارث والقتل والدمار.
ـ كلّ ما تشهده الساحتان الإقليمية والدولية من تبدّل في التموضع والاصطفاف، والتوجّه نحو نظام عالمي متعدّد الأقطاب ما كان له أن يتبلور على ما هو عليه لولا صمود محور المقاومة وتضحياته، وما أنجزه في تقليم أنياب ومخالب الوحش الصهيو ـ أميركي ومَن معه، ومن حقّ كلّ أطراف هذا المحور أن يحجزوا المكانة التي تليق بعظمة ما قدّموه في أي نظام عالمي جديد، ولهذا كان التركيز في العنوان على مصطلح «التفاؤل الحذر» لتجنب السقوط في أخطار الركون إلى الاطمئنان والتراخي والاعتداد بالذات يقيناً ببلوغ النصر الحتمي، في حين أنّ معطيات الوقع تؤكد وجود تحديات جدية وكبيرة وإزالتها تتطلب استمرار العمل ومضاعفة الجهود بعزيمة أقوى وتصميم أشدّ على إتمام ما تبقى من فصول ملحمة النصر القادم والقريب، إن شاء الله
*خبير عسكري سوري -مختص في علم الحيوبولتيك