11 حزيران 2023
محمد فرج
يُرجع عدد من الباحثين مصطلح “السلام البارد” إلى السياسي المصري المعروف بطرس غالي، على اعتبار أن اتفاقية التطبيع المصرية مع الاحتلال كانت أكثر من هدنة وأقل من “سلام إيجابي”.
تأتي العملية البطولية للجندي المصري محمد صلاح، لتشعل مجموعة من الحقائق في “صحراء التطبيع البارد”، ومنها:
1. المعارضة الشعبية الواسعة في مصر، التي تؤكدها أغلب استطلاعات الرأي، كبّلت حركة التيارات المتحمسة للتطبيع في الدولة المصرية من الذهاب أبعد من صيغة “التطبيع البارد”، وهو ما تستمر الدراسات الإسرائيلية في لوم مصر عليه، ويتمثل ذلك في:
(أ) إلى اللحظة، يحتاج المصريون إلى إذن أمني خاص للسفر إلى أراضي فلسطين المحتلة؛ فعلى الرغم من وجود سفارة للاحتلال في القاهرة، فإنَّ هذا الإجراء الأمني ما زال حاضراً، وهو ما يمكن إرجاعه إلى 3 أسباب؛ أولاً: القلق الأمني الدفين في نسيج مؤسسات الدولة المصرية من التجسس الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن العمل، ثانياً: الحرج من الأوساط الشعبية المناهضة للتطبيع، ثالثاً: محاولة تخفيف الاحتقان لدى الكوادر المصرية العاملة في المؤسسات ذات الصلة.
(ب) على الرغم من توقيع اتفاقية التطبيع، فإنَّ الجمعيات الأهلية والمدنية في المجتمع المصري ما زالت تعزل المطبعين وتعاقبهم في روابط الكتاب وتجمعات المثقفين والمبادرات السياسية، ولم تجرؤ أي جهة في مصر على تغيير هذا العُرف أو الاقتراب منه.
(ت) ترى “إسرائيل” أنَّ مصر رفضت تأسيس “قطاع خاص للتطبيع”، وتلومها لأنها احتكرت إجراءات التطبيع ضمن حدود “التطبيع البارد”؛ فالتبادل التجاري بقي محصوراً في فئة معينة من التجار، ولم يتوسّع، ولم يكن ممكناً الانفتاح السياسي الشخصي على “إسرائيل”، ومن ذلك ما تم من إسقاط لعضوية البرلمان عن توفيق عكاشة عام 2016، بعد استضافته السفير الإسرائيلي آنذاك حاييم كورين.
يُقال عادة إنّ التطبيع مع مصر تمكّن من مؤسسات الدولة، ولكنه لم يحظَ بالقبول الشعبي، وربما الأصح أن نقول إنه، إضافة إلى عجزه في الأوساط الشعبية، لم يتمكن من المؤسسات الرسمية بالكامل، وعجز عن التغلغل في وعي كوادر هذه المؤسسات. والآن، تأتي العملية البطولية للجندي في مؤسسة الجيش، محمد صلاح، لتكريس هذا المبدأ.
2. راهنت “إسرائيل” خلال العقود الماضية على لبرلة المجتمعات العربية، الأمر الذي يعني تهيئتها لقبول المثلية الجنسية في الحزمة نفسها مع القبول بالتطبيع. ينبع ذلك من الفرضية القائلة إن جرعة الليبرالية العالية التي ترفض التقاليد والدين وأي محدّدات سلوكية تقبل التطبيع، ويمكن القول إن هذا المشروع فشل اليوم بجناحيه الاثنين؛ اللبرلة المطلقة والتطبيع؛ فلا لقاءات سفراء الولايات المتحدة لتأسيس جمعيات تدعم المثلية في الدول العربية نجحت، ولا التطبيع نجح.
من هنا، كانت تيارات في “إسرائيل” تراهن أثناء موجة “الربيع العربي” على صعود فئة من الشباب الملبرل المستعد للقبول بالتطبيع، ولكنها اكتشفت بعدها أنها تراهن على فئة مفتتة ومحصورة وغير منظمة، لتجد نفسها اليوم أمام صورة شاب عشريني من محافظة القليوبية شرق النيل، تشبّع بالعداء للاحتلال والتضامن مع غزة.
تجد “إسرائيل” نفسها مأزومة في مصر بين خيارين؛ إما التشجيع على خيارات بديلة من الكتلة البيروقراطية والعسكرية، وتالياً احتمال ولادة خيار يتبنى فسخ اتفاقية التطبيع، وربما الحماسة لخيار الحرب، وإما الاستمرار مع الكتلة التي لا تفضّل الذهاب أبعد من حدود التطبيع البارد، حفاظاً على السلم الأهلي داخل مجتمع يرفض التطبيع.
3. ترصد منظمة “IMPACT” الإسرائيلية المناهج الدراسية في الدول العربية، في إطار سعيها لاستشراف وعي الأجيال القادمة. أصدرت هذه المنظمة تقريراً في شهر نيسان/أبريل من العام الجاري عن المناهج المصرية، وحلّلت 271 كتاباً مدرسياً من المستويات المختلفة.
وفي جوهر عمل هذه المنظمة أنها تحاول الاطمئنان مثلاً إلى شطب قصائد المقاومة من مناهج اللغة العربية، والاطمئنان إلى محتوى المناهج الدينية (كيف تعرّف كتب الدين الإسلامي الجهاد؟ هل تقول كتب الدين المسيحي إن اليهود صلبوا المسيح؟ كيف تعرّف كتب التاريخ الاستعمار؟ وماذا تقول عن تاريخ اليهود في مصر؟ هل تورد أي شيء عن الهولوكوست؟ هل تتحدث كتب العلوم الاجتماعية عن توتر العلاقات مع إيران وتركيا؟).
ومع أن هذه المنظمة تخلص في تقريرها إلى وجود “تحسن بطيء” في مناهج الصفوف 1-5، وعدم “التحسن” في الصفوف 6-12، إلا أنها تجد نفسها أمام شاب تشرّب الرواية الخاصة عن تاريخ الاحتلال من المجتمع.
الحقائق التي أشعلها الجندي المصري هي أن الدولة لا تمتلك خيارات أبعد من حدود التطبيع البارد بسبب الرفض الشعبي المتين، وأن الانتظار الإسرائيلي لجيل شاب ملبرل هو عملية لا يمكن الرهان عليه، وأن تغيير المناهج، الذي تقوده الهيئات المانحة مثل “USAID” بالتنسيق مع الاحتلال (على خطورته وضرورة مواجهته)، لم يمنع محمد صلاح ومصريين آخرين من الخروج عن النص الهشّ.
الميادين