ظهر الطيران الحربي الإسرائيلي مضطرباً خلال تحليقه في سماء جنين بعد دقائق قليلة من انفجار العبوات الناسفة في مدرعاته وآلياته العسكرية. أخذ هذا الطيران يطلق بالونات حرارية تارة، وإشارات ضوئية تارة أخرى، إلى أن بدأ يطلق صواريخه باتجاه الأرض للمرة الأولى منذ 20 عاماً. حدث هذا الأمر في الضفة الغربية، وهي الأرض التي يستبيحها المحتل الإسرائيلي منذ انتفاضة الأقصى، وخصوصاً بعد معركة جنين عام 2002.
ما الذي استجد في ميدان جنين، وهي التي أطلق “جيش” الاحتلال ومنظومته الأمنية حملة “كاسر الأمواج” ضدها، فاعتقل وقتل وجرح الآلاف طوال عامين؟ كيف أفلتت جنين أمام هذا الكم الهائل من البطش والتوحش، وهي المدينة الصغيرة بمخيمها وريفها المحدود المساحة والسكان، والتي تمثل خاصرة رخوة بين جمع من معسكراته المحيطة بها كالسوار في المعصم، حتى تطلّب دحول طيران الأباتشي ليقصف، ثم طيران “أف 16” لتوفير الدعم؟!
وصلت طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية على عجلة لنقل الإصابات التي تتابعت في صفوف القوات الخاصة من وحدة “اليسام”، سواء في مدرعة النمر حديثة التصنيع أو في آلياته وجرافاته العسكرية. وقد تراوح مجموعها بين 7 و10 بين تفسيخ وإعطاب جزئي.
وهنا، لم يكن مأزق سلاح الطيران الذي هرع وحملت بعض طائراته الجنود المصابين، وكانوا خمسة، ثم ستة، ثم سبعة، وتردد أن قائداً كبيراً في “جيش” الاحتلال كان يقود قوات “جيشه” على الأرض من تلك الطائرة التي بادرت إلى إطلاق صاروخها.
تناقض “الجيش” الإسرائيلي في تحديد طبيعة الهدف الذي استهدفه سلاح الطيران في جنين، وفي السبب الذي دفعه إلى مخالفة المألوف؛ تارة زعم أنه استهدف جمعاً من المسلحين، وتارة أرضاً مفتوحة، وتارة أخرى أعلن أنه أطلق صاروخه ليساعد 5 آليات تحلّقت حول مدرعة النمر المدمرة، وقد وقعت جميعها في كمين الكتيبة، ولم تعد تقوى على الحراك. وفي النهاية، وبعد زمن من المعركة التي استمرت 8 ساعات، اضطر إلى الاعتراف بأن طلقات المخيم أصابت ذيل مروحية طائرة الأباتشي، فأخذت تدافع عن نفسها.
في كل الأحوال، وجد سلاح الجو الإسرائيلي نفسه وسط معركة لم يحدد ميدانها مسبقاً، بمعنى أن زمام المبادرة سقط وسط ضجيج العبوات وأزيز الرصاص، ليتحول التوغل الإسرائيلي إلى عملية إنقاذ مضنية استمرت 8 ساعات، وأين؟ في ضاحية من ضواحي مدينة جنين المكشوفة عسكرياً، ولكنها مطرزة بأنياب جيل ما بعد الإلهام، الذي أريد له أن يكون كيّاً للوعي في ملحمة جنين 2002، فتطلب دخول سلاح الجوّ، في وقت اعترف “الجيش” أن كامل لواء “عوز” للوحدات الخاصة دخل على خط المعركة بوحداته الأساسية: “إيجوز” من هيئة الأركان، و”يمام” من حرس الحدود، و”يسام” من فرقة المظليين، وقوات النخبة “الدوفدوفان”، و”ماجلان” المتخصصة للعمل خلف خطوط العدوّ.
إذاً، تم استقدام سلاح الجو بداية لتنظيم عملية إنقاذ الإصابات، ثم تطلب الأمر مساندة القوات على الأرض لحماية الجنود العالقين وسط زحمة النار، ليتطور دور الطيران في حماية التعزيزات، وقد فقدت الثقة بتحصيناتها وهي تجد الآليات تترنح أمام زحمة التفجيرات، حتى وجدت هذه الطائرات نفسها في حالة استهداف مباشر، ما اضطرها إلى إطلاق صاروخ أو أكثر، قبل أن تفرّ من سماء المعركة. وسواء أمكن هذه الطلقات أن تؤثر في جسم الطائرة أو ذيل مروحيتها أو لم يكن بإمكانها ذلك، فإنها أحدثت اضطراباً في فاعليتها القتالية، وحدّت وظيفتها التي استُقدمت لأجلها.
ولعل البيان المشترك للناطق باسم “الجيش” والمتحدثة باسم سلاح الجو الإسرائيلي يعكس مستوى الأثر الجسيم الذي علق في هيبة “الجيش”، بما فيه سلاح الجو، ومدى التوتر الذي صاحب إصدار هذا البيان، وخصوصاً عند الإشارة في ختامه إلى أن إطلاق النار ما زال مستمراً، بما يخالف ما اعتاده سلاح الجوّ وقدرته على إسكات مصادر نيران العدوّ، بحسب ما تواترت عليه بياناته عقب عملياته الهجومية.
أتى ذلك في وقت شطح المراسل العسكري لإذاعة “الجيش” الإسرائيلي دورون كدوش عند محاولة تبريره اضطراب طائرات الأباتشي، وخصوصاً مع إطلاقها البالونات الحرارية، بقوله إنها رصدت صواريخ مضادة للطائرات من طراز “ستريلا” أو “سام 7” قد تكون مهربة من الأردن، بحسب وصفه، في إشارة إلى الأثر الذي تركته حادثة مفرق مجدو واللغم الذي قالوا إنه هُرب من لبنان حتى وصل على مسافة 10 كم من جنين.
وكان زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش، وهو وزير مالية ونصف وزير حرب، قد دعا إلى التوقف عن العمليات الجراحية، التي يقصد بها العمليات المحدودة والخاطفة، والتوجه نحو عملية واسعة ضد جنين وشمال الضفة.
وقد رأى أن استخدام سلاح الجوّ على نطاق واسع مؤشر على تحوّل العملية من جراحية إلى جذرية، بما يلقي الضوء على مدى تأكّل قوة الردع الإسرائيلية في ميدان جنين، فهل يمكن بالفعل لسلاح الطيران أن يحدث نقلة نوعية في جَسْر ما عجزت عنه القوات الخاصة وقوات “جفعاتي” طوال سنتين مضتا من المواجهة؟
يعكس التركيز على سلاح الجوّ من الناحية العملياتية مستوى عميقاً من اليأس والإحباط في القدرة على تغيير الواقع على الأرض، ليستعاض عنه بالهجمات الثأرية من الجو أو لنقل إنها ضربات موجعة، ولكنها تحتاج إلى قوة برية لفرض الوقائع على الأرض.
ولعل ذلك ما دفع سموتريتش إلى الدعوة إلى إشراك سلاح المدرعات على نطاق واسع، متجاهلاً أن مركز الفشل الطارئ في جنين تمثل في عجز مدرعة النمر المحدّثة عن تحمل عبوة ناسفة مصنعة محلياً، بحسب ما استقر عليه رأي “الجيش” الإسرائيلي، رغم أنه في البداية ألمح إلى أنها عبوة غير مألوفة في ميدان المواجهة في جنين.
قديماً، قال وايزمن إنه يطمح إلى “سلام عربي إسرائيلي” تحلّق فوقه طائرة حربية إسرائيلية على الدوام، في إشارة ضمنية على قدرة الطيران الإسرائيلي على فرض الاستسلام العربي، ولكن لم يدرِ وايزمن، وهو أب سلاح الجو الذي شهد قبل موته بعض أمنيته تتحقق، وظلال أوسلو تمتد في الضفة عبر جنين بعد أريحا، أنَّ الطيران الحربي الإسرائيلي وقف اليوم عاجزاً في سماء جنين، رغم عقود من جهود الضابط الأميركي دايتون في محاولة تطويع شبابها.
الميادين