29 تموز 2023
عبد الملك سكرية*
لم يكن اللقاء مصادفة، كان مخططاً له أن يكون في مبنى جريدة “السفير”، داخل المقهى، الذي افتتحته عائلة الجريدة منذ نحو عام، حتى يبقى بعض من مشروع “السفير” الثقافي. التقينا أنا والدكتور عبد الملك سكرية، وهو واحد من الأصدقاء الذين عايشوا الفنان الشهيد ناجي العلي في بيروت، ولحقه إلى لندن، فقد كان وجود ناجي هناك أحد أسباب اختيار سكرية لهذه المدينة، إضافة إلى إكمال دراساته العليا في جراحة الفم هناك.
بدأ اللقاء مع الدكتور سكرية، بحديث جانبي، بطبيعة الحال، تناول فلسطين وشؤونها الراهنة، وغالباً كل حديث عن فلسطين، لا بد أن يعود قليلاً في التاريخ، فقد انتمى سكرية إلى حركة “فتح” صغيراً، فقاتل في صفوفها في جبال عينطورة، حيث استشهد المصور الفلسطيني هاني جوهرية. واستمر مع حركة “فتح” ردحاً من الزمن. ولعل ما يلفت النظر في تجربة سكرية، أنه لم يعمل في اختصاصه الطبي، وصب جهده ووقته منذ ثمانينيات القرن الماضي لقضية فلسطين، وهو اليوم يتولى منصب رئيس الجمعية الوطنية لمقاومة التطبيع، كما أنه عضو في حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان، وأمين سر “الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين”.
وقادنا الحديث إلى ناجي العلي، “معرفتي به في جريدة السفير. كنت من متابعيه، ومنبهر ومندهش ومحب ومفتون بما يقدمه ناجي، وهو كان قد سمع عني من أصدقاء مشتركين، وعما أقوله أمامهم وعن شغفي برسوماته في الجريدة، فكان اللقاء حميمياً وعاطفياً، وكأننا نعرف بعضنا منذ سنوات طويلة. وبنى هذا اللقاء الأول صداقة استمرت حتى الثانية الأخيرة من حياته في أحد مشافي لندن.”
لم يخرج سكرية خاوي اليدين، ففي ذلك اللقاء الأول “أهداني كتابه الذي كانت تطبعه جريدة السفير، وكتب في الإهداء ‘الأشجار تموت واقفة'”.
في لندن
انتقل سكرية من لبنان إلى بريطانيا، فوصل إلى لندن في مطلع سنة 1987 لإكمال دراساته العليا، “وبعد وصولي مباشرة، اشتريت جريدة القبس، لأخذ العنوان ورقم الهاتف. وشاءت الصدف أن يرد عليّ شخص، يسألني من يريده؟ أجبته: عبد الملك سكرية. وكان ترحاباً كبيراً لن أنساه، كان صوت ناجي. سألني أين أنا؟ فأجبته في فندق فلهم في شارع فلهم. فطلب مني الانتظار قليلاً وسيأتي، وهكذا عدنا إلى لقاءات مستمرة.”
لم يكن ناجي وحده في لندن، فبإلاضافة إلى عائلته، كان حوله حشد من الأصدقاء، منهم الشاعر أحمد مطر، “كنا نلتقي دورياً، الجلسات المطولة جرت في لندن، كانت كثيرة، أحياناً برفقة أحمد مطر، وعادل سمارة، وضياء العزاوي، وأذكر أنه في آخر الجلسات الكبيرة، وكانت في منزله، اجتمع حشد من المثقفين العرب المعارضين والمقيمين في لندن، أتذكرها اليوم، كأنها البارحة. يبدو أنها كانت جلسة وداعٍ غير مرتبة، حدثت قبل أسبوع تقريباً من اغتياله. طبخنا معاً، وجهزنا للجلسة معاً، كانت النقاشات في هذه الجلسة وغيرها تغلب عليها النقاشات السياسية عن آخر التطورات والأحداث. وكان يحضر في تلك السهرات صحافي فلسطيني اسمه الياس نصر الله، كان سكنه قريب من سكني، وفي كثير من المرات كان ناجي يمازحه، بأن يطلب منه إيصالي إلى بيتي بعد اللقاء.”
لم يكن ناجي العلي مجاملاً لأحد، ولا حتى مسايراً في الآراء، فالأمور لديه مبدئية، وليس مسموحاً الحياد عنها، وهذا ما يظهر تماماً في رسوماته، وكذلك في كلام سكرية: “لن آتي بجديد، إن تحدثت عن مواقفه المبدئية من بعض مواقف منظمة التحرير، التي كان يواجه قادتها بلا حساب، ويمكن لمس تلك المواقف في العديد من رسوماته الكاريكاتورية. وأذكر أنه في إحدى السهرات، حضرت إعلامية كانت تعمل في إحدى الصحف الخليجية، في ذلك اليوم تحدث قائلاً أن معظم الحضور يعمل في صحف تموّل من النفط، بما فيها القبس الكويتية التي كان يعمل فيها، وبالتالي هناك بعض المواقف الملتبسة. رفضت الصحافية الحاضرة بيننا هذا الكلام النقدي، فقال لها، أنتِ الآن لا تكتبين مقالة للجريدة، أنت ِبيننا، فكوني كما تحبين أن تكوني، عبّري عن مواقفك، لا مواقف الجريدة.”
ذكي وسريع البديهة
لم يدرس ناجي العلي الفن، وعمل في بداية حياته في البناء، واستخدم “في مطلع حياته الفنية، حين لم يكن يملك ثمن أنابيب ألوان، رسم سلسلة من الأعمال تصوِّر حياة المخيم باستعمال منتج نفطي غليظ يشبه الإسفلت المعروف شعبياً بالزفت الذي حصل عليه من منشآت البناء حيث كان يعمل.”[i] تلك البدايات، لم تكن بدايته وحده، فناجي المولود في قرية الشجرة قرب طبرية في سنة 1937، وتهجر منها إلى لبنان ليقيم بمخيم عين الحلوة ويصير لاجئاً، عانى كما عانى آلاف الفلسطينيين في الداخل والشتات في تلك المرحلة. لكن موهبته التي التقط ألمعيتها غسان كنفاني، أسعفته ليكون واحداً من أعلام فن الكاريكاتور في العالم، ويبدو أن بدايات مأسوية، قادرة على تأسيس فهم أعمق وأدق لأحداث الحياة. وناجي كان: “لماحاً، وحاد الذكاء، كان يلتقط من السطور الأولى في المقالات، الفكرة والحدث، فيبني تصوره ويرسم. واللافت أن مواقفه كانت صائبة. كان صاحب بصيرة، وكان قادراً على فهم جذور المؤامرة، وطبيعة الأنظمة، وطبيعة الفصائل الفلسطينية. وكانت لديه معايير للتقييم، لم يكن لأحد أن يتجاوز منتصف مؤشره، لأن كما كان يقول بإن الجميع لديه أكثر مما يقدمه. لم يكن يعترف بالانحناء، لم أعرف رجلاً حاداً وواثقاً بفكرته ومبدئه مثله، منذ تعرفت على رسوماته في أوائل السبعينيات، وحتى قابلته شخصياً واقتربت منه، كانت أفكاره ومفاهيمه ورسوماته كتجلٍ لها، قائمة على فكرة أن فلسطين لا تقبل المساومة، لذلك كان فنه موجهاً إلى الناس العاديين، بسبب معركة الوعي، هذه المعركة التي تسمى اليوم الحرب الناعمة، انتبه لها ناجي منذ عقود، وحبره كان جزءاً قوياً منها، ولا شك ساهم بقوة في وعينا الفلسطيني والعربي للمعركة المفتوحة مع الاحتلال. ولعليّ هنا أستطيع بعد هذا العمر، وتلك المعرفة، والواقع الذي نعيشه أن أصف ناجي بريشة يحركها دماغ عبقري.”
ظل مستقلاً
لم يُعرف عن ناجي العلي أنه انتمى إلى أي من التنظيمات الفلسطينية. وليس هناك مراجع تشير إلى السبب، إلاّ إن رسوماته قد تعطي إجابة، فالفنان الذي انتقد الجميع، لم يكن ليقدر أن يكون حراً لو كان منتمياً على ما يبدو، ومع ذلك فقد كان ابناً لها جميعها طالما طريقها فلسطين، وهذا لم يمنع من أن يكون في أجواء بعض الفصائل الفلسطينية كالجبهة الشعبية: “بدأ حياته في أجواء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان أول من تكلم معه في الانتماء التنظيمي صلاح صلاح، ولاحقاً حين التقى غسان كنفاني العبقري، الذي التقط أن هذا الشخص يمتلك موهبة كبيرة.”
تهديدات لم تتوقف
على الرغم من الحرية التي كان يحتاج إليها ويحافظ عليها، وبسببها تنقل من بلد إلى آخر حتى حط في مدينة لندن بعد أن وصله العديد من التهديدات ومحاولات ثنيه عن جرأته، فإنه لم يتوقف.
ناجي وحياته الشخصية
كان لناجي العديد من الأصدقاء، منهم عبد الملك سكرية، والشاعر العراقي أحمد مطر، والشاعر والناقد الفلسطيني محمد الأسعد، وغيرهم، وقد أجمعوا تقريباً أنه كان صديقاً لطيف المعشر وقوي الإرادة وهمه الوحيد فلسطين. تزوج من السيدة دلال النصر التي أحبته للحد الذي جعلها تشغل سيارته قبل أن يستقلّها خشية أن يكون أحدهم قد وضع متفجرة لاغتياله. ربّت معه أربعة أبناء: خالد وأسامة وليال وجودي. وقد يكون من الصحيح اعتبار “حنظلة” ابنه الخامس الذي ظل في العاشرة من عمره، إذ لم تُكتب له العودة إلى فلسطين بعد.
كان اسماً عالمياً، شعبيته الواسعة فلسطينياً وعربياً، ساعدت في أن يكون معروفاً في لندن.. لم تكن لديه صداقات واسعة مع الأجانب إلاّ مع بعض الصحافيين الذين عرفهم في بيروت. وكان بعضهم يلتقونه ليفهموا طبيعة الصراع، وبالنسبة إليه، فإن جدوى هذه اللقاءات كان مدى معرفة هذه الشخصيات عن فلسطين.
استشهاد ناجي العلي
أغلق عينيه في لندن، بعد رصاصة تلقاها يوم الأربعاء في 22 تموز/ يوليو 1987، في شارع ايفيس في حي نايتسبريدج في لندن، وظل في غيبوبة حتى استشهد في يوم السبت 29 آب/أغسطس 1987. في البداية أدخل إلى مستشفى “سان ستيفنس” لكن نظراً إلى خطورة حالته، نُقل إلى غرفة العناية المركزة في مستشفى “شيرينغ كروس”.
يذكر الدكتور عبد الملك سكرية، ذلك اليوم، يتكلم ويتوقف، لا تسعفه الكلمات، وبعض الدموع وجدت طريقها إلى عينيه: “عشت يومها حالة غضب شديدة، وكنت في حينها أتابع دراستي، ويومياً كنت أمرّ لزيارته في المستشفى حتى يوم استشهاده. في ذلك اليوم، سمح لنا الطبيب بالدخول إليه، والحديث معه، علّ الأحاديث تنعش ذاكرته. أنا لم أدخل، أدركت من كلام الطبيب أن ناجي توفي، دخل الشاعر أحمد مطر، وألقى خطاباً أمامه، وطالبه بالنهوض، طلب منه أن ينهض لأن ‘فلسطين تحتاجك، الجماهير تحتاجك، فلا تموت’. في هذا اليوم، أخبرنا الطبيب، أن ناجي قد توفي. أُقيمت له جنازة في لندن، ودفن فيها، وتم تقبّل التعازي في مسجد بمنطقة ريجين بارك، كما تم تقبل التعازي في منزله بلندن الذي اكتظ بالمعزين. وأذكر حينها أن جدلاً دار بشأن دفنه في مخيم عين الحلوة، هناك من أيد وهناك من رفض، كنت من بين المعترضين، وكان رأيي أن ناجي يجب أن يعود إلى فلسطين لا إلى المخيم.”
36 عاماً على اغتيال ناجي العلي، ولم تظهر حقيقة الجهة التي أعدت ونفذت الجريمة، ومع ذلك فإن ملف التحقيق في القضية ما زال مفتوحاً حتى يومنا هذا، وآخر مرة أعيد الكلام فيه كان في سنة 2017، بعد أن أعد تلفزيون “العربي” تحقيقاً صحافياً في حادثة الاغتيال، فأعلنت الشرطة البريطانية صورة المسدس الذي نفذ الاغتيال بواسطته، كما أعلنت أن متخصصين لديها استندوا إلى شهادات شهود العيان، فوضعوا رسماً تقريبياً للقاتل الذي كان يلاحقه في الشارع، ونشروا الصورة، ووضعوا أرقاماً هاتفية لمن لديه معلومات جديدة للإدلاء بها.
ناجي المعلم الذي لم يمت
لعل ناجي العلي كان واحداً من الفنانين القلائل الذين رحلوا، بعد أن تحولوا هم وفنهم إلى مدرسة لأجيال قادمة من الفنانين المنتمين إلى شعوبهم التي تتوق إلى الحرية. كما أن موهبة ناجي الاستثنائية جعلته واحداً من الحاضرين أبداً. يقول الفنان الفلسطيني الراحل كمال بُلاطة عن ناجي العلي وقيمته الفنية: “جاء استشهاده [ناجي العلي] ليبتر أكثر المواهب الفنية الفلسطينية استثنائية في طاقتها الإيصالية على مدى الساحة العربية طيلة ربع قرن من عطاء إبداعي لا نظير له.”[ii]
رئيس الجمعية الوطنية لمقاومة التطبيع، وعضو في حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان، وأمين سر *”الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين”.
المصدر: مركز الداسات الفلسطينية