7 آب 2023
ليلى نقولا
بعيد منتصف الليل، أصدرت السفارة السعودية في لبنان بياناً دعت فيه المواطنين السعوديين إلى الابتعاد عن مناطق التوتر ومغادرة لبنان بسرعة. أثار هذا البيان استغراباً سياسياً وشعبياً وأمنياً بسبب عدم وجود ما يشير إلى حدوث فوضى أمنية، ولأن لا وجود لسعوديين في لبنان خارج طاقم السفارة، بسبب الحظر الذي ما زال سارياً على قدومهم إلى لبنان منذ سنوات.
لا شكّ أن بيان السفارة السعودية يرتبط إلى حد بعيد بالعلاقات السعودية اللبنانية المتوترة منذ مجيء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الحكم في السعودية عام 2015، والذي ارتبط اسمه بسياسة خارجية سعودية متبدّلة، بدأت بسياسة “هجومية”، ثم انتقلت إلى “تصفير المشاكل” ثم إلى “الحياد الإيجابي” الذي يتطلّع من خلاله ولي العهد السعودي إلى أن تفرض السعودية نفسها قائداً إقليمياً لمنطقة ممتدة من الخليج إلى شمال أفريقيا.
ومن ضمن هذه المنطقة، لا شكّ أن السعودية وبسبب نفوذها التاريخي في لبنان تطمح إلى أن تكون أكثر من متفرّج في هذا البلد. وعليه، إنّ محاولة معرفة ما يريده السعوديون من لبنان يرتبط إلى حدٍ بعيد بمسار الأمور التي فرضت تبدّل العلاقات بين الطرفين، وهي على الشكل الآتي:
– تبدّل جوهر وشكل الحكم في السعودية مع وصول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كما تبدّلت السياسة الخارجية، فبدأ ما سماه “عاصفة الحزم” في اليمن، وكثّف الدعم للمجموعات المسلحة السورية. ورداً على تدخّل حزب الله في سوريا، طلبت السعودية في بداية عام 2016 من دول مجلس التعاون الخليجي منع مواطنيها من زيارة لبنان، وألغيت اتفاقية سعودية – فرنسية سابقة لتسليح الجيش اللبناني، ودفعت مجلس التعاون الخليجي إلى اعتبار حزب الله “منظمة إرهابية”.
– عملياً، لم تؤدِ السياسة الخارجية السعودية “الهجومية” إلى نتائج مرضية منذ بداياتها، فتمّ توقيع الاتفاق النووي الإيراني (2015)، وتدخّل الروس عسكرياً في سوريا لدعم الحكومة السورية (2015)، وتمّ تحرير حلب (2016)، وحصلت محاولة الانقلاب في تركيا (2016) التي أفضت إلى دخول الرئيس التركي بمسار أستانة (2017) إلخ. أما في لبنان، فحصلت التسوية الرئاسية (2016) التي أتت بحليف حزب الله ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. وبالرغم من أن السعوديين لم يعارضوا التسوية الرئاسية اللبنانية لكنهم لم يكونوا من الداعمين لها، بالرغم من قيام الرئيس ميشال عون بزيارة الرياض في أول زيارة خارجية له كرئيس للجمهورية.
– في صيف عام 2017، تخلّص لبنان من الخطر الإرهابي في الداخل وعلى الحدود، وذلك عبر تعاون عسكري ومعركتين قام بهما حزب الله والجيش اللبناني ضد جبهة النصرة و”داعش”، وذلك بدعم وغطاء من رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون. وفي تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، تمّ احتجاز رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري في السعودية، وأعلن وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان بأن السعودية: “ستعامل حكومة لبنان كحكومة إعلان حرب بسبب مليشيات حزب الله”.
– كان وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حاسماً في تنامي النزعة الهجومية للسياسة الخارجية السعودية بسبب الدعم المطلق الذي أعطاه لولي العهد السعودي، حيث تمّ احتجاز الرئيس سعد الحريري في الرياض وجرت مطالبته بالاستقالة، وتمّ تكثيف الحملة العسكرية ضد اليمن، وحصل حصار قطر وسواها.
– أما في لبنان، فتبدّلت في تلك الفترة موازين القوى السياسية الداخلية للمرة الأولى منذ عام 2005. لقد بدّلت الانتخابات النيابية اللبنانية التي حصلت عام 2018 اتجاه الغالبية النيابية في لبنان، فحصد حزب الله وحلفاؤه غالبية مقاعد مجلس النواب، وباتوا يسيطرون على رئاسة الجمهورية، ورئاسة مجلس النواب، والغالبية النيابية، في وقت تتهم الرياض سعد الحريري (رئيس الحكومة) بأنه ضعيف وحليف لحزب الله أيضاً.
– وبالفعل، كان عام 2018، مفصلياً في لبنان والمنطقة. خلاله، خرج ترامب منفرداً من الاتفاق النووي الإيراني، وأعلن “سياسة الضغوط القصوى” على إيران وحلفائها في المنطقة، والتي تأثّر بها لبنان، لسببين: وجود حزب الله، واختلال موازين القوى السياسية نتيجة للتسوية الرئاسية، التخلّص من الإرهاب وتأمين الحدود اللبنانية السورية، نجاح لبنان في معركة إخراج الحريري من السعودية، والانتخابات النيابية لعام 2018.
– منذ ذلك الحين، تعاملت السعودية مع لبنان بالتصعيد، حيث تمّ استغلال أي كلمة صدرت من مسؤول أو وزير لتثير أزمة دبلوماسية بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي، منها تصريح جورج قرداحي الذي دفع كلّاً من السعودية والبحرين والكويت والإمارات إلى سحب سفرائها من بيروت، وطلبت البلدان الثلاثة الأولى من نظرائهم في دولها المغادرة.
اليوم، وبالرغم من كلّ الانفتاح السعودي الإيجابي في المنطقة، لا يبدو أن الانفتاح الإيجابي انسحب على لبنان، فماذا الذي تريده السعودية من لبنان لإعادة العلاقات إلى طبيعتها؟
من يريد أن يعرف ما الذي تريده السعودية من لبنان، يجب أن يعود إلى مضمون المبادرة الكويتية التي قادها وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح باسم دول مجلس التعاون الخليجي، في كانون الثاني/يناير 2022، بعد أزمة تصريحات جورج قرداحي، وفيها شروط لعودة العلاقات الخليجية مع لبنان، وحدّدت على الشكل الآتي:
– الالتزام باتفاق الطائف، وقف قوى لبنانية “العدوان اللفظي والعملي ضد الدول العربية وتحديداً الخليجية، والالتزام بسياسة النأي بالنفس” (بحسب النص) القيام بإصلاحات شاملة ومراقبة الحدود، ضمان ألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع استقرار وأمن المنطقة، ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي (1559) و(1701) و(1680) والقرارات الدولية والعربية ذات الصلة إلخ… ولا شكّ أن البنود الأخيرة هي بيت القصيد.
لقد توهّم بعض اللبنانيين بأن التفاهم السعودي الإيراني، سيدفع السعودية إلى القبول بالمبادرة الفرنسية التي تدعو إلى انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية مقابل انتخاب نوّاف سلام رئيساً للحكومة، لكن بمراقبة لمسار التبدّل في السياسة الخارجية السعودية في المنطقة، وانفتاحها على التفاهم مع إيران، وقيامها بإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، نجد أن السعودية لن تقدّم تنازلات جوهرية في سياستها في لبنان.
النظرة الواقعية لمسار الأمور، تفيد بأن السعودية لن تقبل بإعادة العلاقات مع لبنان إلى سابق عهدها، من دون تسوية تكرّس نفوذها السياسي فيه، فيكون لها “رأي إيجابي” في مَن سيتولى منصب رئيس الجمهورية القادم، ولها “الرأي الحاسم” في اختيار رئيس الحكومة الذي سيكون الضامن لتشكيل حكومة لا تكون تابعة لحزب الله (بحسب وجهة النظر السعودية).