11 آب 2023
عريب الرنتاوي
شهد اجتماع “الكابينت” الإسرائيلي الأحد الفائت (6 آب/أغسطس) انقساماً بين تياري اليمين المتطرف واليمين الأكثر تطرفاً في الحكومة والائتلاف الحاكم حول معنى وحدود وجدوى تقديم “تسهيلات” اقتصادية ومالية وأمنية وغيرها للسلطة الفلسطينية.
الاجتماع كان مخصصاً لهذه الغاية، لكن وقوع عملية “تل أبيب” الفدائية قبل ساعات من انعقاده طغى على جدول الأعمال، وأعاق مؤقتاً البحث في عمق مسألة التسهيلات وإقرارها.
الخلاف بهذا المعنى لا يبدو جديداً أو طارئاً، فمنذ تأليف الحكومة ونحن نتابع فصول هذا الجدل الذي فرز الائتلاف إلى تيارين: الأول يقوده نتنياهو وتيار في الليكود، والآخر يقوده رمزا الصهيونية الدينية الأكثر فجاجة: سموتريتش وبن غفير؛ الأول ينطلق من الحاجة الإسرائيلية إلى الإبقاء على السلطة الفلسطينية، والآخر ينطلق من حاجة المشروع الابتلاعي والزحف الاستيطاني إلى دفعها نحو الانهيار والاستعاضة عنها بما يكن تسميته: “الإمارات الفلسطينية غير المتحدة”، أو بتعبير آخر “روابط المدن” التي تستحضر على نحو أوسع تجربة “روابط القرى” في سبعينيات القرن الفائت.
يلتقي التياران حول هدف “أسمى” واحد: منع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للحياة، والحؤول دون قيام الشعب الفلسطيني بممارسة حقه المشروع في تقرير مصيره بنفسه فوق ترابه الوطني، بيد أنهما يتباعدان تحت هذا السقف العريض، وتنشأ بينهما خلافات في “تقدير الموقف واللحظة”، وفي الأثمان التي يتعين على “إسرائيل” دفعها إن أقدمت على سلوك هذا الطريق أو ذاك.
نتنياهو كان واضحاً: لا مجال لدولة فلسطينية بين النهر والبحر، وأولوية حكومته، كما قال، تتجلى في “نزع هذا الحلم من مخيلة الفلسطينيين”، ولم يترك مناسبة إلا وأكد فيها رفضه المنطق الفلسطيني – العربي – الدولي، الناظر إلى “السلطة” بوصفها نواة دولة وخطوة على طريقها.
وقد حدد وظائف السلطة أو أعاد تعريف وظائفها وتلخيصها بثلاث:
الأولى: كونها وكيلاً أمنياً لـ”إسرائيل” تتولى عبر آليات “التنسيق الأمني” ملاحقة المقاومين والناشطين، وتحديداً في مناطق الكثافة السكانية، كالمخيمات وقصبات المدن والبلدات الفلسطينية.
الثانية: كونها جهة منوطاً بها ترجمة ما يمكن تسميته “الترانسفير القانوني” من خلال منحها لأكثر من 5 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة جوازات سفر فلسطينية، لأن “إسرائيل” لا ترغب في ذلك ولا تريده، ولأنه سيصعب عليها، وإن بعد حين، مقاومة الضغوط لتخليص هؤلاء الفلسطينيين من وضعية الـ”stateless”.
والثالثة: تحمل أوزار وأعباء وكلف الخدمات المقدمة للشعب الرازح تحت نير احتلالها، من خدمات صحية وتعليمية وطرق وبنى تحتية وغيرها.
أما الفريق الثاني، الأكثر فاشية ودموية، فينطلق من أولوية “حسم الصراع” واغتنام فرصة فرض الحل الإسرائيلي النهائي من جانب واحد. هذا الفريق لا يتوقف طموحه عند ضم القدس والأغوار والمنطقة (ج)، بل يريد أيضاً بسط “السيادة الإسرائيلية” على الضفة الغربية بأكملها، وهو بهذا المعنى لا يقيم وزناً أو حساباً للسلطة ووظائفها الثلاث التي حددها نتنياهو، بل يفضل التعامل مع “إمارات المدن الفلسطينية المعزولة” كل واحدة على حدة. وبخلاف فريق نتنياهو، فإن هذا التيار يبدو أقل اكتراثاً بردود أفعال المجتمع الدولي والولايات المتحدة وضغوطاتهما.
لم يترك قادة هذا الفريق “فراغاً” في الرواية الإسرائيلية حول مصير أكثر من 5 ملايين فلسطيني بعد قرارات الزحف والضم الاستيطانية؛ فسموتريتش ترك أهل الضفة والقطاع والقدس أمام خيارات ثلاثة:
الأول: التكيف مع الاحتلال والقبول بوضعية “مقيم”، وليس “مواطناً”، والانصياع إلى قوانين الاحتلال والانضباط وفقها.
الثاني: السجن أو القتل لمن يصر على مقاومة الاحتلال ويسعى وراء “التحرير” و”العودة” و”تقرير المصير”.
الثالث: مساعدة من لا يرتضي بالخيارين الأول والثاني في البحث عن بلد ثالث يستضيفه وتهجيره إليها.
ولطالما كان واضحاً أن تيار اليمين الأكثر فاشية لا يكتفي بفرض خياراته العنصرية على الفلسطينيين من أهل الضفة والقطاع، بل يسعى جاهداً لمدها على استقامتها لتطال فلسطينيي 48، سكان البلاد الأصليين، الذين يحتفل العالم بيومهم. وقد كان لسموتريتش ما أراد، حين طلب تجميد ميزانيات التعليم والتطوير للوسط العربي، وقلص ميزانيات الخدمات لفلسطينيي الشطر الشرقي من القدس المحتلة.
سموتريتش يؤمن، كما يبدو، بـ”وحدة الساحات الفلسطينية” على طريقته، فالعقاب لا يستثني جماعة فلسطينية دون أخرى، وعنصريته لا تعترف بالخط الأخضر. ومع ذلك، تجد من بين الفلسطينيين من لا يزال “يسخر” أو “يقلل من شأن” شعار “وحدة الساحات”.
مروحة اللقاء بين التيارين أوسع بكثير من مروحة الخلاف، وأهدافهما المشتركة كافية لافتراض بقاء هذا الائتلاف لردح أطول من الوقت، فكلاهما يضع تهويد القدس وأسرلتها في صدارة أولوياته، بما في ذلك مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وكلاهما على الأقل يتطلع إلى ابتلاع المنطقة (ج) من الضفة الغربية (60% من مساحتها)، وهو مستعد لدفع فاتورة الضم والإلحاق.
وكلاهما يرغب في تفريغ هذه المنطقة الشاسعة من الأرض الفلسطينية المحتلة من سكانها القلائل. لهذا، رأيناهما يدعمان سياسات التهجير القسري لسكان القرى وتجمعات الأطراف ودفعهم إلى الانتقال إلى المنطقتين (أ و ب)، ويتركان المهمة لبن غفير وميليشياته النظامية: حرس الحدود، وغير النظامية: شبيبة التلال وكل من على شاكلتها.
وكلاهما يدعم عنف المستوطنين المنفلت من كل عقال ضد القرى والبلدات الفلسطينية، والأهم من كل هذا وذاك، أنهما متوافقان على تعزيز “البنية التحتية” للضم و”بسط السيادة”، من خلال شبكة معقدة من الطرق والشوارع وسكك الحديد و”المتنزهات والمحميات القومية” والمستوطنات والبؤر الاستيطانية.
يلعب نتنياهو بـ”ورقة” من هم أكثر تطرفاً منه في حكومته، لتفادي الضغوط الأميركية والدولية على حكومته وائتلافه وقطع الطريق على أي “مسار سياسي” ذي مغزى. وقد نجح في دفع الإدارة الأميركية إلى خفض سقف توقعاتها، حتى إن سياستها حيال هذا الملف لم تعد تتخطى حدود “التهدئة” و”ضبط النفس” و”منع الانفجار” و”إجراءات بناء الثقة” و”التسهيلات”، إلى جانب تعزيز مكانة السلطة المالية والاقتصادية، والأهم تعزيز سطوتها الأمنية. وهنا تحضر دائماً خطط الجنرالات الأميركيين، من كيت دايتون إلى مايكل فينزل، حول “الإنسان الفلسطيني الجديد” الذي يرى في “إسرائيل” مشروع حليف، وفي المقاومة مصدراً لكل الشرور.
والمؤسف حقاً أن ثمة في السلطة الفلسطينية من لا يزال يراهن على إمكانية تجديد المسار السياسي، ويعقد آمالاً عراضاً على “التسهيلات”، ويبدي استعداداً للمضي على الطريق ذاتها التي قادت إلى الخراب، ولا يمانع الاصطدام مع شعبه ومقاومته، إن تطلب الأمر ذلك، تارة تحت شعار “المقاومة السلمية”، وأخرى بذريعة سلطة واحدة وسلاح واحد.
ولكن التأمل ملياً في “الجدل الإسرائيلي الداخلي” الذي يتخطى الحكومة إلى مختلف الأطياف والمكونات يظهر حقيقة أن هذا الكيان/المجتمع تخطى “حكاية حل الدولتين” منذ زمن، وأن إجماع “إسرائيل” ينعقد اليوم على رفض فكرة العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة، وأن جُلّ ما يمكن استحصاله عبر هذه المسارات المأزومة والرهانات الخائبة لن يتخطى “الكيان” بمعايير نتنياهو، الذي هو أقل بكثير من دولة على أقل بكثير من نصف مساحة الضفة الغربية، من دون القدس والأغوار والتلال، حتى وإن أطلق عليه بعض الفلسطينيين وصف “الإمبراطورية العظمى”، وليس الدولة المستقلة فقط.
والرهان الذي انتعش مؤخراً في أوساط “بعض السلطة” على ما وصفناه في مقال سابق بـ”صفقة القرن 2″، التي ترافق الحديث عنها مع الأنباء المتواترة عن صفقة تطبيع سعودي – إسرائيلي يعكف على إنجازها جو بايدن وفريقه، لا يخرج عن هذه الحدود الضيقة والمحفوفة بالفشل كذلك، وهو رهان ينبعث من اليأس والعجز، وأحياناً من التواطؤ، وليس من “الوهم”، كما كانت عليه الحال زمن ازدهار الأحلام والرهانات، فكل طفل فلسطيني في نابلس وجنين بات متحرراً من أوهام السلام والحلول الوسط مع هذا الكيان الآخذ في الانزياح يوماً بعد آخر نحو أقبح مستنقعات العنصرية والفاشية.
المصدر: الميادين