يافا… اغتيال مدينة

19 آب 2023

أسماء ناصر أبو عيّاش *

كمن غفا على حلم وصحا على كابوس تلكم هي يافانا .. يافا الكنعانية الجميلة حضارة تربو على الست آلاف سنة فناً وأدباً وجمالاً.. يافا الغفت ساعة نكبة لتصحوَ كصحوة أهل الكهف؛ لا الدار دارٌ ولا الخلّان خلّانُ. ابتلعت ملامحَها أحياءٌ طارئة لا الوجه وجهها ولا الروح.

أسئلة تلح وتقضم العقل والوجدان.. لماذا يافا؟! إنها حاضرة الفن والعمارة.. ملتقى مدنيات حوض المتوسط من مصرية وإغريقية.. عاصمة الثقافة العربية قبل جائحة النكبة، مثلت مركزاً ثقافياً وفنياً استقطب أعلام الفن والأدب.. ولأنها يافا استهدفها الإحتلال الصهيوني فأعمل فيها آلة الإجرام حرقاً وهدماً وطمساً لمعالم وأحياء وهوية. يافا مدينة العشق وبيارات العطر ومركز إشعاع فكري.. يافا هشام شرابي وإبراهيم أبو لغد.. يافا عيسى ويوسف العيسى.. يافا الإبداع الذي ترك بصمته على صفحة الجمال.. يافا محمود الأفغاني شاعراً، مصطفى الدباغ أديباً، عبد الوهاب الكيالي مفكراً وشهيداً، صبري الشريف أول من أطلق مهرجانات بعلبك اللبنانية وأبدع على شرفه الشاعر اللبناني سعيد عقل قصيدته “غنيتُ مكة”.. يافا أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد المطلب والكثير ممن راموا الشهرة فأتوها. أسماء كثيرة انتمت وباهت بهم أم الغريب.

سأحاول في عرضي ليافا تسليط بعض ضوء على البعد الإنساني قبل جائحة النكبة وتمركزها في الوعي الجمعي فلسطينيا وعربياً، واستهدافها من قِبَل الاحتلال بشكل ممنهج ومدروس سواء إبّان الاحتلال البريطاني أو الإحتلال الصهيوني الذي ما زال رابضاً على أرض فلسطين. سأتناول ما كانت عليه يافا وما حل بها لأصل وإياكم إلى واقعها المعاش حالياً في ظل سياسة التطهير العرقي الذي تمارسه حكومة الكيان الغاصب فيها وكل فلسطين، وعرض شهادات حية ليافيين ما زالوا على قيد الوجع. لكن وقبل الولوج إلى سرديات اليافيين، أرى لزاما الحديث ولو بشكل مقتضب عن يافا الزمان والمكان.

تقول الأسطورة أن “نيرموندا” تلك الأميرة الكنعانية تفاخرت بجمالها على حوريات البحر بنات الإله “نيربوس” الذي غضب واشتكى لإله البحر “بوسيدون” فأرسل تنيناً عظيماً يدعى “كراكون” إلى شواطيء يافا أثار به رعب اليافيين فأقدم الملك “كوبيوس” على ربط ابنته “نيرموندا” إلى الصخرة عند الشاطيء قرباناً للتنين مما أثار حمية حبيبها “بيرسيوس” فهب لإنقاذها حاملاً رأس “ميدوزا” التي حولت بعينيها – كما تقول الأسطورة – التنين إلى تمثال حجري لتكَرَّس “نيرموندا” حامية ليافا ورمزاً للمقاومة والفداء. وإذا ما كانت “نيرموندا” رمزاً أسطورياً ليافا فإن في معالمها الحية رمزية بقاء وعطاء.

يافا المملكة الكنعانية المتوسطية بمساحة تقارب 17510 دونماً شكلت قبل الاحتلال رابطا لفلسطين بالعالم كمحطة رئيسة وجسر منه وإليه، ويعتبر ميناؤها الأقدم في المنطقة. تكالب عليها الغازون من فراعنة وأشوريين وبابليين وفرس ورومان وبيزنطيين.

بلغ تعداد سكانها في العام 1947 حوالي 72000 نسمة فيما تتشكل من سبعة أحياء رئيسية هي المنشية، العجمي، البلد القديمة، حي ارشيد، حي النزهة، حي الجبلية وحي اهريش.

لن أدخل في عرضي هذا فيما يرومه الباحث بل إن ما يعنيني في المقام الأول يافا الإنسان بزمكانه؛ أي زمانه ومكانه فهو غايتي.

الساعة: يقف برج الساعة في وسط مدينة يافا المحتلة، متى سكتت دقات ساعة يافا؟ يقول الراوي، والراوي يافي ذو ذاكرة وقّادة وركن حي من أركان مدينتة والتي أطلق بها صرخة حياة قبل ما يقارب التسعين سنة، وما زال على قيد وجعه يرومها في أحلامه في مدينة البيرة المحتلة حيث يقيم – يقول أبو الناجي أن دقات ساعة يافا ظلت تشنّف السمع وتزهي القلب حتى جاء يوم سكتت .. نعم سكتت الساعة ولم تعد رنات جرسها تداعب فضاء يافا.. سكتت الساعة في أحد أيام العام 1941 حينما سرق الاستعمار البريطاني الجرس وثبته على ساعة “بيج بن” في وسط لندن!

قد يشكك البعض بصحة الرواية، من يعرف ديدن الاستعمار وتغوله وتعمده على مر الأزمان والأماكن في السرقة والاستلاب، يُخضع هذه الرواية للتفكر والبحث!

السرايا: لعل أدق ما يوصف به مآل يافا هو اغتيال مدينة .. نعم؛ اغتيلت المدينة مرات بفعل استلاب وطمس هويتها ومرات بمجازر اقترفتها عصابات شتيرن وإيتسل وليحي والهاغانا الصهيونية، وفي هدم أحيائها وحصارها كما في حي المنشية واستهداف أبنائها غيلة كما في تفجير مبنى السرايا في الرابع من كانون ثاني 1948 ما أدى إلى استشهاد سبعين من خيرة شبابها. بنيت السرايا في عام 1810 إبان حكم الوالي العثماني أبو نبوت لتكون مقراً له، واستوردت أعمدتها من قلعة قيسارية الرومانية.

حي العجمي: ترجع تسمية المكان كما جاء في الأثر للصحابي إبراهيم العجمي ويقع في الجهة الجنوبية لمدينة يافا ويتميز بقيمته التاريخية والعمرانية، وقد استهدفه الإحتلال إما بالتضييق على أهله وإما بالإهمال.. يعيش في حي العجمي عائلات يافا العريقة فيما احتل بيوت المهجرين منها يهود صهاينة. حدثني عمر السكسك وهو أحد أعلام مدينة يافا والعاصبين على جرحه بعصابة القلب قال أنه وعشية جائحة النكبة اضطر أحد أصحاب البقالات إلى إغلاق حانوته ريثما تهدأ الأوضاع.. أغلق دكانه على ما تحتويه من مواد بل وحتى على درج كان يودع فيه ريع بيعه وغادر.. وحينما سقطت يافا كانت هذه الدكان من ضمن ما احتل في المدينة، اقتحمها أحد الصهاينة واستلبها وأصبح هو صاحبها بكل ما تحتويه من أرفف ومواد وحتى درج النقود. قامت سلطات الإحتلال الصهيوني بعد سقوط مدينة يافا بتجميع أهل المدينة في حي العجمي وأحاطوه بالأسلاك الشائكة ومنعت الخروج منه إلا بتصريح من الحكم العسكري واستمر الحال حتى العام 1952.

المنشية: ” بابا .. ما في بيافا حي إسمه المنشية!” بهذه الكلمات أوقعتُ صاعقةً على سمعه وهو يوجهني عبر الهاتف المحمول من بيته في مدينة الزرقاء في الأردن. نعم لقد تم هدم الحي وتسويته بالأرض خلال فترة قياسية بعد سقوط يافا واحتلالها. هذا الحي سجل ملاحم بطولة ومقاومة استمرت في مجابهة قوات الاحتلال عالية التدريب والتسليح حتى تم القضاء على الحي بساكنيه. لم أجد من معالم حي المنشية غير جامع حسن بيك حيث توجهت للقائم عليه وإمامه في صيف العام 1997 الشيخ نبيل سيف أسأله عن المنشية فأشار بيده وجال بنظره في المدى أمامنا وقال هنا كان حي المنشية وقد أضحى مكانه بنايات شاهقة لا تنتمي للمكان لا عمارة ولا عبقاً ولا تاريخاً! إزيل الحي تماما وألحق بـ “تل أبيب”!

أما تل أبيب فقد كانت مساحتها لا تتجاوز الثلاثين دونما من أعمال مدينة يافا وقد أقيمت كحيٍّ استيطاني وتم إعطاؤها إسم تل أبيب عام 1910 وهو مستوحى من التوراة كإسم لقرية في بابل إسمها تل أبوبي أي تل الطوفان.

من تراه أصدق من رجل جاور التسعين من عمره.. عركته أيامه واقتصت منه سنون عمره. العم سعد الدين زينب أو أبو سعدو كما يحلو لأهل يافا أن يكنّوه. بعد اتصال به جاء حاملاً خمس لفائف خط عليها أسماء من عملوا في ميناء يافا قبل جائحة النكبة ريّسين عمال وحمالين وغيرهم.

– يابا .. حدثني عن يافا يوم احتلالها .. بادرته.

ارتسمت على وجهه ملامح لم أسبر معالمها وهو يقص حكايته.. لكأني بعثت طفله الذي كان عليه يوم استلاب يافاه.

(إيش أحكيلك يابا!! فتحنا عنينا بين يوم وليلة والّا صاحب الدكان صار يهودي وأصحاب المطاعم والمقاهي كمان صاروا يهود.. أكبر سطو مسلح في التاريخ! أخذوا كل شي ع الجاهز أخدوا دولة كاملة!كان عمري 13 سنة .. أخدوا دكاكين وفرن دار المدهون ودار مرعي ودار عرفة.. أخذوا فرن المكاوي ودار الأدغم ودار جعران وكتير.. شو أعد!!

هرب الناس ع البحر يسألهم أبوي لوين يقولوا ع بيروت يقولهم هيّ بيروت بلدكم؟ هون بلدكم.. يقولوا كلها جمعتين زمان وبنرجع. قال انا مش طالع من يافا بس خافت امي وقالت نطلع كنا 12 ولد حلف عليها يمين طلاق بالتلاتة ما بتطلع. إحنا انولدنا هون وبنظل هون. بعد يومين تلاته أجت مصفحة ونزل منها جنود ونادوا: “يا أهل العجمي تطلعوش.. منع تجول”.طلع جورج سلامة أخو رؤوف طخوه واستشهد. ظلينا بالحصار ومنع التجول سنة ونص وبعدين راحت باقي البلاد.)

*كاتبة فلسطينية

عن Amal

شاهد أيضاً

إسرائيل وجيشها يقاتلان على “جبهة أخرى”: الهواتف الذكية بين أيدي الجنود في قطاع غزة!

21 شباط 2024 سليم سلامة تشكل شبكات التواصل الاجتماعي، منذ زمن، جبهة إضافية أخرى من …