27 آب 2023
حسن لافي
تتنامى عمليات المقاومة الفلسطينية التي سجلت هذا العام ارتفاعاً في عدد القتلى الإسرائيليين وصل إلى 35 قتيلاً حتى الآن في رقم هو الأعلى منذ عام 2005، الأمر الذي سبب حالة من فقدان الأمن لدى المستوطنين، وخصوصاً في الضفة الغربية، دفعت بعض الأصوات الإسرائيلية إلى المطالبة بإعادة تقييم الاستراتيجية الإسرائيلية في تعاملها مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لقد قتلت “إسرائيل” اتفاق أوسلو كمدخل لحل الدولتين، وذهبت إلى اتجاهات أخرى لها علاقة بإدارة الصراع، وليس حله، بما سماه بنيامين نتنياهو “عقيدة اللاحل” مع الفلسطيني، ظناً منه أنه قادر بذلك على القفز عن القضية الفلسطينية تجاه مسارات متعددة، مثل التطبيع مع العرب، بعيداً من بوابة القضية الفلسطينية، ولكن من خلال بوابات أخرى لها علاقة بالتحالفات السياسية والاقتصادية في الإقليم، ومجدداً سعى الإسرائيلي لفرض مسار الاقتصاد في مقابل الأمن، بعيداً من أن أي حقوق وطنية كشعب وقضية فلسطينية.
تزايد وتيرة المقاومة الفلسطينية ودخول الضفة الغربية على خط المواجهة كجبهة قتال حقيقية ضد الاحتلال جعل الإسرائيلي يقتنع مجدداً بأن الأمن والقوة العسكرية لن يمنحاه الأمن الشخصي، فعاد البعض الإسرائيلي يتحدث عن أهمية إيجاد حل استراتيجي مع الفلسطينيين على غرار اتفاق أوسلو للتسوية.
على سبيل المثال لا الحصر، قال الباحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي والمختص بالشأن الفلسطيني ميخائيل ميلتشن في تعليقه على عملية الخليل الفدائية على شاشة القناة 12 الإسرائيلية: “ما دامت إسرائيل تستخدم استراتيجية “وضع البلاستر”، من دون أن تكون هناك استراتيجية شاملة وحقيقية، فلن يكون هناك إلا سبيلان أمامها؛ إما أن تتدحرج الأمور إلى ما يسمى حل الدولة الواحدة، وإما أن نضع عازلاً بيننا وبين الفلسطينيين”.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ ميلتشن وغيره ممن بدأوا بالمناداة بإيجاد حلول سياسية للقضية الفلسطينية، يرون أن ذلك لا يتأتى إلا من خلال مشروع سياسي يقتنع الفلسطيني بأنه سيمنحه قدراً كافياً من حقوقه الوطنية والإنسانية تجعله يتخلى عن نضاله العسكري ضد الاحتلال، ولو لفترة زمنية محددة.
ومن الجدير بالإشارة أنَّ تلك الأصوات الإسرائيلية تنطلق من إدراكها أنه في ظل عدم وجود حل للقضية الفلسطينية إسرائيلياً، ومع تنامي الكفاح المسلح والعمل الثوري الفلسطيني، وخصوصاً في الضفة الغربية، سيكون هناك تداخل بين الإشكالات الداخلية الإسرائيلية التي بدأت تحت عنوان التعديلات القضائية وتطورت لتصل إلى صراع محتدم صهيونياً على هوية “إسرائيل” كـ”دولة” وكمشروع صهيوني، وكيفية التعامل الأمثل مع الصراع الفلسطيني، في ظل زيادة وتيرة العمليات الفدائية.
وهنا، ثمة فرصة فلسطينية لتتحول القضية الفلسطينية مرة أخرى إلى أحد عناصر الخلاف بين الفريقين الإسرائيليين المتناحرين، والتي باتت تؤثر في حياتهم اليومية واقتصادهم وأمنهم الشخصي. وبالتالي، يتم كسر حالة الإجماع الإسرائيلي التي تولدت خلال العقود الماضية على الإبقاء على استراتيجية إدارة الصراع مع الفلسطيني من دون أي حل استراتيجي.
هذه الأصوات الإسرائيلية الجديدة لا تنطلق من قناعات أخلاقية أو إنسانية، بل تنطلق من حرص عميق على ما يسمى “الحفاظ على إسرائيل دولة يهودية بعيداً من فكرة الدولة الواحدة”، التي تلعب الديموغرافيا بها لمصلحة الفلسطيني، وبالتالي تفقد “إسرائيل” يهوديتها، وبعيداً أيضاً من دولة الأبارتهيد والفصل العنصري التي تسقط قناع الديمقراطية عن “إسرائيل”، وبالتالي تفقد شرعيتها أمام المجتمع الدولي، لكن هذه الأصوات لا يسمع صداها داخل “إسرائيل” بالشَّكل الذي يمكن أن يقال عنه إنه مؤثر، سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي.
وبالتالي، لا تخرج “إسرائيل” من أزمتها الاستراتيجية المعقدة؛ فبالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي، ما زالت عمليات الانزياح تجاه اليمين القومي والديني الفاشي هي الأقوى سياسياً ومجتمعياً، وتتمحور قواه في تيارين رئيسيين:
أولاً، التيار الاستيطاني الديني، وهو الأقل عدداً، ولكنه الأخطر أيديولوجياً، وهو يعتبر أنَّ الاستيطان في الضفة الغربية والسعي لضمها هو مشروعه المركزي، وكل ما يطمح له هو أن يستثمر تلك الحالة الأمنية المضطربة إسرائيلياً في تكريس مشروعه الاستيطاني في الضفة الغربية، إذ نشر المراسل العسكري للقناة 12 الإسرائيلية نيير دفوري أن وزير الحرب يؤاف غالنت تحدث إلى رؤساء مجالس المستوطنات في الضفة الغربية، وأكد مسؤوليته الملزمة لتقديم كل الدعم لتعزيز الاستيطان في الضفة.
لذلك، بات واضحاً أن مهاجمة قادة المستوطنين لـ”الجيش” الإسرائيلي في ضوء العمليات الفدائية الفلسطينية تهدف إلى إخضاعه لتقديم صفقة بينه وبينهم من أجل زيادة وتيرة الاستيطان، وهذا ما تحدث عنه وزير المالية الإسرائيلية ورئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سيموتريتش بصراحة في اجتماع الكابينت الأخير، عندما قال “إن المشروع المركزي هو الاستيطان في الضفة”.
ثانياً، التيار اليميني العلماني الذي يدمج بين الفاشية وتقديسه القوة العسكرتارية، والذي يعتقد أنَّ القوة تستطيع حلّ كلّ الإشكاليات. وما لم يحل بالقوة، فيحل بمزيد من القوة، وتجده يدعو دوماً إلى تنفيذ المزيد من العمليات العسكرية لمواجهة تنامي ظاهرة المقاومة.
لكنَّ المعضلة لدى هذا التيار العسكرتاري أن يتجاهل أنه استخدم كل أدوات والأساليب القوة الغاشمة على مدار العامين الماضيين، من اغتيالات وحروب على غزة واعتقالات وعمليات واسعة النطاق في الضفة الغربية، مثل عملية “البيت والحديقة” في مخيم جنين، ولكن كل ذلك لم يوقف زخم الفعل النضالي الفلسطيني المتزايد عددياً، والمتسع جغرافياً، وحتى تصريحات نتنياهو عن ملاحقة منفذي العمليات ومرسليهم ومموليهم لم تأتِ بجديد، فهذا جزء من عمل الأمن الإسرائيلي اليومي.
ولكن إذا كان هذه المرة يفكر في تنفيذ عمليات اغتيال للقيادات الفلسطينية في الخارج، وإن استطاع نتنياهو التغلب على معضلة الجغرافيا وحساسيتها في تنفيذ عملية الاغتيال، فهل يغير ذلك شيئاً من الوضع الأمني في الضفة الغربية؟
بالتأكيد، الإجابة هي لا، وهي لن تمنح نتنياهو ولا حكومته إلا القليل من الشعبية الجماهيرية، وسرعان ما تعود “إسرائيل” إلى الدوران في حلقة مفرغة مع أول عملية فدائية جديدة.
في ظل فشل “إسرائيل” في امتلاك استراتيجية متكاملة وشاملة لإدارة التحديات الأمنية، وأخطرها في الملف الفلسطيني، وفي ظل الصراعات الداخلية الإسرائيلية – الإسرائيلية، وتنامي الفعل المقاومة الفلسطيني، تسير “إسرائيل” تجاه الحتمية التاريخية القائلة إن الاحتلال إلى زوال، لأنّ الباطل يتأكّل من جوفه.