2 أيلول 2023
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
زلزال عنيف هزّ الساحل الشرقي لليابان يوم 11 آذار/مارس 2011، بلغت قوته 9 درجات على مقياس ريختر، تلاه موجات تسونامي ضخمة دمّرت 3 مفاعلات في محطة فوكوشيما داييتشي النووية. أودت الحادثة بحياة نحو 18 ألف شخص، وانهار في إثرها الجدار الإسمنتي الخارجي للمفاعل “نتيجة انفجار الهيدروجين الناجم عن انخفاض مستوى مياه التبريد”، بحسب التصريحات الرسمية اليابانية.
وأخطرت اليابان العالم مؤخراً بنياتها تصريف “المياه المُعالجة” في المحيط الهاديء. نحو مليون طن من المياه الملوثة بالإشعاع، على 3 دفعات، تمتد لنحو 3 عقود، ستصرف في المحيط، مستندة إلى إجراءات تم الاتفاق عليها مع الوكالة الدولية للطاقة النووية التي “ستدرس عناصر الأمان الرئيسية” في الخطة المعدة.
وستضطلع الوكالة الدولية أيضاً بمراقبة المصادر والبيئة ورصدها للتيقن من البيانات التي تنشرها اليابان وضمان تطابقها مع معايير الأمان الصادرة عنها.
توقيت إعلان اليابان، بالتزامن مع الذكرى ألـ 78 لمأساة هيروشيما، واكبه تنامي تحذيرات دولية متعددة بشأن القلق من انزلاق الحرب الدائرة في أوكرانيا إلى دخول السلاح النووي مسرح العمليات، وما قد ينطوي عليه من دمار شامل للحضارة البشرية.
وجدّدت الأمم المتحدة، على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريش، تحذيراتها من أهوال الطاقة النووية، إذ قال في رسالة أمام نصب السلام التذكاري في هيروشيما: “شبح الحرب النووية الذي كان يلوح في الأفق خلال الحرب الباردة قد ظهر من جديد. وتهدد بعض الدول، بشكل متهور، باستخدام أدوات الإبادة هذه من جديد”.
ارتفع منسوب الجدل الدولي والإدانة أيضاَ لإعلان اليابان وتداعيات إطلاق المياه المشعّة على الثروة السمكية في المحيط الهادئ بالدرجة الأولى، وما ينطوي عليها من انتشار الإشعاعات في المياه الدولية الأخرى. أكبر خطورة ، كما يصفها المختصون، تكمن في توفر عنصر التريتيوم بعد إجراءات المعالجة.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت تقييمها للمسألة المثارة، فحواها “أن المياه سيكون لها تأثير إشعاعي ضئيل في الإنسان والبيئة. وتبرر اليابان إجراءاتها بحاجتها إلى المساحة الجغرافية التي تشغلها الخزانات الحالية لبناء منشآت جديدة لإخراج المحطة من الخدمة بأمان، لكنها، وبالتوافق مع الوكالة الدولية، غير قادرة على إزالة جميع العناصر المشعة قبل ضخها عبر الأنابيب إلى المحيط.
علمياً، التريتيوم الذي يعرف أيضا بالهيدروجين الثقيل، هو نظير مشعّ للهيدروجين “ونظير مستقل لا يتحلل”، تحتوي نواته على بروتون وإثنين من النيوترونات، وتبلغ وزن كتلته 3 أضعاف وزن الهيدروجين العادي “المستقر”. ويستخدم في استخراج الطاقة النووية بواسطة الاندماج النووي.
تكمن أخطار التعامل معه في عدم توفر وسائل تقنية لإزالته من المياه الملوّثة حالياَ وخطر تسربه. يتفكك التريتيوم عن طريق انبعاث جسيمات بيتا، بعمر نصف يبلغ 12.3 سنة، أي لا يتبقى سوى نصف كمية من التريتيوم بعد انقضاء 12.3 سنة بسبب الاضمحلال الإشعاعي.
لا تجمع الأوساط العلمية والمختصة بدراسات النواة على رأي موحّد بهذا الشأن. بعض علماء الجيولوجيا يؤكد: “نظرياً، يمكنك شرب هذه المياه”، نظراً إلى معالجتها عند تخزينها وتخفيف تركيزها عبر مزجها بمياه المحيط قبل اطلاقها.
الأستاذة الجامعية إميلي هاموند والخبيرة في قانون الطاقة والبيئة في جامعة جورج واشنطن تؤكّد: ” التحدي الذي نواجهه مع النويدات المشعة (مثل التريتيوم) هو أنها تطرح سؤالاً لا يستطيع العلم الإجابة عليه بشكل كامل: عند التعرض لمستويات منخفضة للغاية منه، ما الحد الذي يمكن اعتباره “آمناً”؟
مختبر البحث والتطوير التابع لسلاح البحرية الأميركية U.S. Naval Research أصدر بياناً في كانون الأول/ ديسمبر 2022، أكّد فيه “عدم اقتناعه” بالبيانات اليابانية المتداولة (موقع شبكة “بي بي سي”، 22 آب/أغسطس 2023).
ربما العامل الأخطر في جهود اليابان لمعالجة المياه المشعّة وتصريفها هو أن “النتائج والاستنتاجات التي يخلص إليها استعراض الوكالة ليست ملزمة قانوناً للحكومة اليابانية، لكنها ستساعد على تزويد المجتمع الدولي بالمعلومات ودعم الهدف العام المتمثِّل في تعزيز الشفافية”.
كما أن “معايير الأمان الصادرة عن الوكالة توضع بالتشاور مع جميع الدول الأعضاء في الوكالة، وتجسِّد توافقاً دوليًّا في الآراء حول ما يشكِّل مستوى عالياً من الأمان لحماية الناس والبيئة من الآثار الضارة للإشعاعات المؤيِّنة”. (موقع الوكالة الدولية للطاقة النووية).
تباين تصريحات مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة النووية، كما ذكرنا أعلاه، لا تبعث على الارتياح بل تعزّز الاتهامات ضدها بأن قراراتها “مسيّسة”، و”تحابي السياسة الأميركية” في المجمل العام، وتنحاز ضد الدول والمجتمعات غير النووية.
على الرغم من عدم تطابق إعلان اليابان تصريف المياه الملوّثة مع هول الأسلحة النووية، فإن الولايات المتحدة “تخشى” من تطور تقنية “الذكاء الاصطناعي” إلى شن هجمات نووية “بصورة مستقلة”.
وطالب عدد من أعضاء الكونغرس بإدخال تعديل إلى قرار تفويض الحرب يشترط على البنتاغون بلورة إجراءات من شأنها إيلاء أولوية قرار إطلاق الأسلحة النووية إلى تدخل من العنصر البشري (نشرة “ميليتاري تايمز – Military Times، 4 آب/أغسطس 2023).
الترسانة النووية الأميركية التي تأتي في المرتبة الثانية بعد روسيا تضم “أكثر من 5 آلاف قنبلة نووية، بينها نحو 1700 رأس نووي في وضع الإطلاق الاستراتيجي على متن صواريخ باليستية عابرة للقارات وقاذفات ثقيلة”، بلغت ذروتها عام 1968 بامتلاك أكثر من 31 ألف رأس نووي (بيانات “اتحاد العلماء الأميركيين”، 31 آذار/مارس 2023).
في هذا الشأن، لفت مركز أبحاث أميركي مرموق الأنظار إلى “خطر وقوع صراع نووي غير متعمّد بين الولايات المتحدة وروسيا ؛ صراع يبدأ حين يخطئ أحد البلدين في تأويل ما حدث على أنه مؤشر استفزاز أو هجوم نووي” (دراسة بعنوان “الإنذارات الكاذبة، أخطار حقيقية؟”، موقع مؤسسة “راند”، 2016).
حديثاً، جددت واشنطن، ومعها طوكيو ودول أخرى، تحذيراتها من تنامي القدرات النووية الصينية، واعتبار الأمر تهديداً يستدعي التعامل معه، مع العلم ان كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية “تتمتعان بحماية المظلة النووية الأميركية” كمصدر حماية لهما يعززانه بوجود عدة قواعد عسكرية أميركية في أراضيهما.
موافقة واشنطن الضمنية حليفتها اليابان لتصريف المياه الملوّثة إشعاعياَ تأتي في سياق استراتيجيتها العليا لـ “محاصرة” الصين واحتوائها ، والإضرار باقتصادها بكل السبل. ويمكن اعتباره امتداداً لسياسة “العقوبات الاقتصادية” الأميركية ضد مناوئيها وخصومها الدوليين.