3 أيلول 2023
زياد غصن
في تتبع أثر الحروب على الدول والمجتمعات، غالباً ما يتم التركيز على ثلاثة أنواع من التأثيرات أو النتائج المباشرة أو غير المباشرة لهذه الحرب. وهذه التأثيرات هي: التأثيرات السياسية والجغرافية، التأثيرات الاقتصادية بمختلف قطاعاتها، والتأثيرات الاجتماعية.
لكن، نادراً ما يتم إجراء تحليل بنيوي للتأثيرات الاجتماعية يعبّر عنه بمجموعة من النسب والمؤشرات الدالة على طبيعة التحولات الحاصلة في الحياة الاجتماعية للسكان في هذه الدولة أو تلك. إذ، رغم الاعتراف مثلاً بارتفاع نسب الجريمة وحدوث تغييرات في سلوكيات الأفراد وعاداتهم وروابطهم الاجتماعية وما إلى ذلك من انعكاسات اجتماعية للحروب، فإن ذلك لا يتم تحليل أثره التراكمي مدعماً بالبيانات والمؤشرات الإحصائية المستخلصة من المسوح والدراسات الميدانية.
في الحالة السورية، يمكن تقسيم التأثيرات والانعكاسات الاجتماعية التي تسببت بها الحرب إلى مرحلتين: الأولى، تشمل فترة المعارك والمواجهات العسكرية، وتبدأ هذه المرحلة منذ العام 2012 ولغاية تقريباً العام 2018. أما المرحلة الثانية والممتدة منذ نهاية العام 2019 ولا تزال مستمرة إلى الآن، فيمكن وسمها بمرحلة الحرب الاقتصادية.
مصائب الحروب
مع دخول البلاد في أتون حرب واسعة النطاق منذ منتصف العام 2012، وما ترتب على ذلك من أعمال عنف وتهجير واسعين، محاولة فرض سلوكيات وأنماط جديدة من التفكير والسلوك في بعض المناطق، فضلاً عن انهيار كبير في الأوضاع الاقتصادية وحدوث عمليات نهب للموارد والممتلكات العامة والخاصة، أخذت تداعيات كل ذلك تظهر تدريجياً في الحياة الاجتماعية للسوريين، وتتعمق أكثر مع مرور الزمن، وذلك من خلال:
-ارتفاع في عدد الجرائم ذات البعدين السياسي والجنائي، إذ زادت بشكل واضح عمليات القتل والتصفية الجسدية للخصوم والمستهدفين بأعمال السرقة والنهب، وكذلك زادت بشكل كبير عمليات تزوير الوثائق والمستندات بغية الاستيلاء على ممتلكات الغير. ولا ننسى بالطبع عمليات الاعتداء والتحرش والاغتصاب وما إلى ذلك.
-ظهور أنواع جديدة من الجرائم على الساحة السورية كعمليات الخطف والتعذيب لقاء طلب فدية، والمتاجرة بالأعضاء البشرية وتجارة الرقيق الأبيض والسطو على الثروات الوطنية والمتاجرة بها وقطع الطرقات… الخ.
-انخراط نسبة لا يستهان بها من السكان في أعمال اقتصادية غير مشروعة مقابل مكاسب مادية. فمع انحسار حضور مؤسسات الدولة عن مناطق واسعة من البلاد خلال السنوات الأولى من عمر الحرب، تشكلت مراكز قوى محلية عملت على استثمار كل ما هو متاح لتدعيم نفوذها وحضورها، فكان أن أشرفت على عمليات التهريب الواسعة وتجنيد الأشخاص ضمن مجموعات مسلحة وغير ذلك. وفي مناطق سيطرة الدولة، ظهرت فئة تحاول استثمار الظروف واستغلالها لمراكمة ثروات كبيرة على حساب المواطنين العاديين.
-تعرض العلاقات الاجتماعية بين السكان لضرر هائل نتيجة إما لما تسببت به ظاهرتا النزوح والهجرة من حدوث تباعد اجتماعي كبير بين الأسر، أو بفعل المواقف السياسية والخلافات الاجتماعية التي زاد عددها بوضوح خلال سنوات الحرب، أو حتى بسبب ضغط الأوضاع الأمنية والاقتصادية.
-ظهور مرجعيات جديدة على مستوى المحليات، وتحوّلها إلى مراكز قوى اجتماعية تتحكم بحياة الأفراد ومعيشتهم ومستقبل علاقاتهم ومناطقهم وممتلكاتهم (المحاكم الشرعية-المجالس العسكرية-أثرياء الحرب-المتنفذون….).
هذا الأثر الاجتماعي، والذي قد يبدو مفهوماً لنا قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الباحث المهتم بدراسة حجم ذلك الأثر بشكل علمي قابل للقياس بمؤشرات إحصائية، ولهذا عمل الباحثون المنفذون لمسح السكان لعام 2014، في بادرة هي الأولى من نوعها، على محاولة قياس أثر الحرب على ما يسمّى بـ”مؤشر رأس المال الاجتماعي”.
والذي عُرّف من جانبهم بأنه “ما تم تراكمه في مجتمع ما، أفراداً وجماعات ومؤسسات من قيم وروابط وشبكات اجتماعية مبنية على الثقة المتبادلة بين أفراده وجماعاته، ومؤثرة ومتأثرة بالمؤسسات المجتمعية الناظمة للحياة العامة التي تسهل التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع، ويرسخ رأس المال الاجتماعي أسس التماسك والاندماج الاجتماعي، ويعمل بشكل حثيث لخلق الإنسان الحر والواعي والمنتج والقادر على خدمة الصالح العام”. وتم قياسه من خلال ثلاثة مكونات رئيسية هي: العلاقات والشبكات الاجتماعية، الثقة المجتمعية، القيم والتوجهات المشتركة.
وحسب ما خلص إليه مسح السكان لعام 2014، فقد أظهرت النتائج تراجعاً في رأس المال الاجتماعي بنسبة 30% مقارنة بفترة ما قبل الحرب. وقد كان الانخفاض الأكبر في المحافظات التي شهدت تدهوراً في أوضاعها الأمنية كالرقة، التي تراجع فيها المؤشر بنحو 80%، الحسكة 52%، وإدلب47%. أما المحافظات الأقل تراجعاً في المؤشر فهي المحافظات التي بقيت نوعاً ما آمنة بعيدة عن المعارك والمواجهات العسكرية كمحافظة طرطوس التي انخفض فيها المؤشر بنسبة 5%فقط، فيما سجلت دمشق أقل من 10%.
ومن بين المؤشرات الفرعية التي جرى قياسها في ذلك المسح ما يسمّى بـ”مؤشر الثقة بين الأفراد”، والذي سجل خلال السنوات الأربع الأولى من عمر الحرب تراجعاً بنسبة 31%. ويقصد بهذا المؤشر الثقة المجتمعية الناتجة من قلة عدد الدعاوى القضائية مثلاً، قلة عمليات الغش والاحتيال، الميل نحو إنجاز شراكات اقتصادية، والاقتراض بين الأفراد وغير ذلك.
أما المؤشر الآخر الهام فهو “الشعور بالأمان”، ومن أهم مظاهره التنقل بحرية، عدم التعرض للقتل أو الاعتداء أو السرقة.. إلخ، وبحسب المسح المذكور، فقد سجل هذا المؤشر تراجعاً بنسبة 59%. أيضاً هناك مؤشر يرصد مدى توافق أفراد المجتمع المحلي على رؤية موحدة لمنطقتهم أو مجتمعهم المحلي، ونسبة التراجع في هذا المؤشر كانت بحدود 36%. وهي نسبة قريبة جداً من نسبة تراجع المؤشر الآخر، والمتعلق بتوافق أفراد المجتمع على رؤية لمستقبل البلاد، والبالغة نحو 35%.
إذاً، بموجب هذه المؤشرات، بات يمكن مثلاً قياس واقع الثقة بين أفراد المجتمع وتأثره بتداعيات الحرب، أو مدى توافقهم على رؤى محددة لمستقبل مناطقهم والبلاد، وهو ما يسهل على البرامج والمشروعات الحكومية والأهلية والمدنية المهمة تحديد أولويات الخطوات المطلوبة.
تدهور آخر
كان من المفترض بعد انحسار المعارك العسكرية، وتمكن الدولة من بسط سيطرتها على مساحة واسعة من البلاد، وتحديداً بين عامي 2017و2019، أن تشهد مكونات رأس المال الاجتماعي السابق ذكرها تحسناً ملحوظاً، مدعوماً ببعض المتغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية كتراجع نسب النازحين داخلياً وعودة بعضهم إلى مناطق سكنهم، اندحار الفكر المتشدد والمتطرف، عودة مؤسسات الشرطة والأمن إلى عملها في العديد من المناطق التي كانت خارجة عن السيطرة، نشاط العمل التطوعي وتعدد مجالات مساهمته.
لكن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بدءاً من منتصف العام 2019 بفعل مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، وإهمال الشق الاجتماعي في المشروعات الحكومية أسهما في حدوث انتكاسة جديدة على بعض مكونات رأس المال الاجتماعي تجلى بعض ملامحها في النقاط الآتية:
-تضرر ثقة الأفراد بالمؤسسات الحكومية والمجتمعية نتيجة فشلها في تلبية طموحاتهم واحتياجاتهم المعيشية وعدم وفائها بوعودها لجهة تحسين الوضع المعيشي ووقف تدهور الأوضاع الاقتصادية. وهذا الأمر ظهر في حالات عديدة كالإقبال المتدني مثلاً على المشاركة في انتخابات الإدارة المحلية.
-تضرر العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وعدم قدرتهم على التواصل المستمر بسبب تكاليف النقل المرتفعة والأوضاع المعيشية الصعبة لمعظم الأسر، شيوع حالة من عدم الثقة أو لنقل الحذر بين الأفراد لا سيما في القضايا المالية، وغير ذلك.
-تعرض مكانة المرأة في المجتمع إلى تشويه كبير تمثل في استغلال الأوضاع المعيشية لتشغيل المرأة في مهن غير لائقة وبأجر متدن وتعرضها للتحرش، إضافة إلى اضطرار البعض منهن إلى السفر للبحث عن فرصة عمل بغية المساهمة في إعالة أسرهن.
-تراجع إمكانيات الوحدات الإدارية والمؤسسات وانتشار الفساد في بعضها ما أثر على مشاركة الأفراد في نقاش واتخاذ القرار حيال المشروعات الخدمية والتنموية المراد تنفيذها في هذه البلدة أو تلك المنطقة.
-زيادة أعداد الجرائم، لا سيما جرائم السرقات وعمليات الاحتيال والتزوير، ما قلل من شعور الأفراد بالأمان على حياتهم وممتلكاتهم ومستقبل بلادهم.
-اضطرار العديد من أصحاب رؤوس الأموال والاستثمارات إلى الهجرة والاستثمار في دول أخرى لأسباب مرتبطة ببيئة العمل والسطوة المتزايدة لأثرياء الحرب، وغياب مستلزمات الاستثمار الأساسية من حوامل طاقة ومواد أولية واستقرار اقتصادي. الأمر الذي أثر على الإيمان بمستقبل البلاد وفرص خروجها من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها، وتالياً على تعاون الأفراد والمجموعات مع بعضها البعض في تكوين شراكات وتأسيس مشروعات مشتركة.
كل ما سبق يعزز فرضية أن مؤشر رأس المال الاجتماعي شهد خلال السنوات الثلاث الأخيرة مزيداً من التراجع، الذي لا يمكن قياسه إلا من خلال مسح جديد يرصد المتغيرات التي طرأت عليه، والعوامل الأكثر تأثيراً فيه ودرجة تأثر كل منطقة جغرافية به ليصار إلى وضع سياسات وبرامج حكومية تعالج هذا التراجع من بوابة “تدعيم الجبهة الداخلية” وذلك من خلال العمل على البنود الآتية:
-العمل على تعزيز الأمان وسلطة القانون والقضاء.
-تشجيع المؤسسات والوحدات الإدارية والجمعيات على مشاركة الناس في أنشطتها واختيار مشروعاتها.
-إعادة الاعتبار لوسائل الإعلام الوطنية التقليدية لتكون منبراً للحوار والنقاش حول القضايا الوطنية الرئيسية.
-توسيع دائرة النقاش والمشاركة في إقرار التشريعات والسياسات والبرامج الوطنية.
-دعم مشاركة المرأة مجتمعياً وبما يتجاوز إجراء “الكوتا” المخصصة.
-إطلاق مشروعات تنموية محلية يتم التوافق عليها بين سكان المحليات.
-تطوير التعليم وخدمات الصحة، لاسيما في المناطق التي شهدت حضوراً لتنظيمات متشددة.
المصدر: الميادين