مقالات مشابهة
ذهبت مواقف معظم الدول الغربية بعيداً في تأييدها للعدوان الإسرائيلي على غزة لدرجة منعها أي تظاهرات معارضة لذلك العدوان، وترويجها لشائعات هدفها تقليب الرأي العام العالمي على المقاومة الوطنية الفلسطينية. وهذا للأسف كان طبيعياً في ظل عجز الأنظمة العربية عن اتخاذ قرارات وإجراءات سياسية واقتصادية بحقّ تلك الدول. لا بل إن بعض الأنظمة ساوت في بياناتها ومواقفها بين فعل العدوان المستمر منذ ما قبل النكبة، وبين حق الشعب الفلسطيني في المقاومة والمطالبة بحقوقه.
والمصالح الاقتصادية واحدة من أوراق الضغط الاستراتيجية التي تمتلكها الدول العربية، والتي أثبتت جدواها وفعاليتها في حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، لكن العقود الخمسة التالية لتلك الحرب شهدت فيها المنطقة تغيّرات كثيرة حدّت بشكل كبير من قدرة بعض الدول العربية على استثمار ما لديها من أوراق ضغط خدمة لقضاياها القومية، وتعزيزاً لمكانتها على الساحة الدولية.
فالحظر النفطي بات بحكم المستحيل مع تثبيت الولايات المتحدة الأميركية سيطرتها على منابع النفط وتجارته، لكن ماذا عن استثمارات الدول الغربية في المنطقة العربية؟ أليست بذلك الحجم الذي يجعل حكومات تلك الدول تتخوّف من تأثّرها من جرّاء تبنيها مواقف متطرفة في تأييدها للكيان الصهيوني؟
في تقرير “مناخ الاستثمار العربي للعام 2023″، والصادر مؤخراً عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، يمكن التوقّف عند مجموعة من الأرقام والبيانات الإحصائية الهامة المتعلقة بمشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر، والتي تحمل دلالات ومؤشرات هامة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، خاصة في هذه المرحلة التي يتعرّض فيها الشعب العربي الفلسطيني لحرب إبادة.
“الغرب أولاً”
تظهر بيانات التقرير، والمستندة أساساً على قاعدة بيانات مؤسسة “الفاينانشيال تايمز”، تصدّر الولايات المتحدة الأميركية لقائمة الدول الأجنبية العشر الأولى المستثمرة في الدول العربية خلال العام 2022 بنحو 271 مشروعاً، تلتها المملكة المتحدة بنحو 214 مشروعاً، فالهند ثالثة بنحو 168 مشروعاً، فيما جاءت فرنساً خامسة بنحو 82 مشروعاً، وألمانيا سابعة بنحو 46 مشروعاً. وكما يعلم الجميع فإن واشنطن ولندن أرسلتا سفناً حربية إلى البحر المتوسط دعماً للعدوان على غزة.
أما لجهة الدول العشر الأولى من حيث التكاليف الاستثمارية الموظفة في مشروعاتها، فقد جاءت المملكة المتحدة في المرتبة الثالثة بنحو 21.3 مليار دولار، ثم الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الرابعة بنحو 20.7 مليار دولار، فرنسا خامسة بنحو 20.7 مليار دولار، إيطاليا سادسة بنحو 12.9 مليار دولار، أستراليا سابعة بنحو 12.5 مليار دولار، ولوكسمبورغ تاسعة بنحو 10.2 مليارات دولار.
أي أن مجموع التكاليف الاستثمارية لمشروعات 6 دول غربية في المنطقة العربية تجاوزت قيمتها في العام الماضي ما يزيد على 98.5 مليار دولار.
تتضح أكثر ملامح الإمساك الغربي بالفرص الاستثمارية العربية مع استعراض قائمة الكتل الدولية الأكثر استثماراً في المنطقة العربية، والتي أشارت إلى تصدّر دول أوروبا الغربية القائمة بأكثر من 572 مشروعاً وبتكاليف استثمارية تزيد على 80.9 مليار دولار، تلتها دول آسيا والمحيط الهندي بنحو 370 مشروعاً وبتكاليف استثمارية قدرها 48.7 مليار دولار، فدول أميركا الشمالية ثالثة بنحو 275 مشروعاً وبتكاليف استثمارية تقدّر بأكثر من 21 مليار دولار، ورابعاً جاءت دول “الشرق الأوسط” بنحو 230 مشروعاً تكلفتها الاستثمارية تصل إلى 47.5 مليار دولار.
وبناء على ما تمّ استعراضه من بيانات ومؤشرات إحصائية، فإنه يمكن استنتاج بعض الملاحظات منها:
-استحواذ دول أميركا الشمالية وأوروبا الغربية على أكثر من 53.6% من إجمالي عدد المشاريع الاستثمارية التي استقبلتها الدول العربية في العام 2022، والبالغ عددها نحو 1617 مشروعاً، كما أن دول هاتين الكتلتين الدوليتين شكّلت تكاليف مشاريعها الاستثمارية أكثر من 50% من إجمالي التكاليف الاستثمارية المقدّرة بأكثر من 200 مليار دولار. وهذا يعكس قوة ورقة الاستثمارات الأجنبية التي يمكن لبعض الدول العربية أن تستثمرها فيما لو أرادت اتخاذ مواقف عملية لوقف العدوان على غزة.
– وحتى الهند التي جاءت في المرتبة الثانية من حيث التكاليف الاستثمارية لمشروعاتها في الدول العربية، والمقدّرة بنحو 28.9 مليار دولار، فإن حكومتها أعربت منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى” عن تضامنها الكامل مع “إسرائيل” ووصفت سلوك المقاومة بـ “الأعمال الإرهابية”. فهل الحكومات العربية تخاف أيضاً من الهند؟ وما الذي يمنعها من تجميد تلك المشروعات ريثما تعدّل نيودلهي من مواقفها السياسية تجاه القضية الفلسطينية؟
ماذا عن الاستثمارات الإسرائيلية؟
لا يبدو أن هناك، على المديّين القريب أو المتوسط، تغييرات نوعية قد تطرأ على مستقبل الاستثمارات الأجنبية في المنطقة، فإلى جانب جنسية تلك الاستثمارات المسيطرة، فإن الدول العربية الخمس المستقبلة لتلك الاستثمارات إما لديها اتفاقيات “سلام” مع “إسرائيل” ودخلت في مسار التطبيع الاقتصادي، أو أنها لا تزال خارج هذا السياق رغم ما تردّد سابقاً عن جهود أميركية لضم السعودية إلى دائرة الدول المطبّعة.
وبحسب البيانات الاقتصادية فإنه لا تزال 5 دول عربية تستحوذ على ما يقرب من 92% من عدد المشاريع الاستثمارية الأجنبية، وعلى نحو 88% من تكاليفها الاستثمارية، فقد تصدّرت الإمارات قائمة الدول العربية المستقبلة للاستثمارات الأجنبية عام 2022 بنحو 923 مشروعاً، تلتها السعودية بنحو 217 مشروعاً، فمصر بنحو 148 مشروعاً، قطر رابعة بنحو 135 مشروعاً، والمغرب خامسة بنحو 71 مشروعاً. لكن من حيث التكاليف الاستثمارية فإن الصدارة هي من نصيب مصر التي استقبلت مشروعات تتجاوز تكاليفها 107 مليارات دولار، ثم قطر بنحو 29.8 مليار دولار، فالمغرب ثالثة بنحو 15.3 مليار دولار.
وبالنسبة إلى المدن العربية المستقبلة للمشاريع الاستثمارية الأجنبية في العام المذكور، تأتي دبي في المرتبة الأولى من حيث عدد المشاريع البالغة نحو 776 مشروعاً، فالدوحة ثانية بنحو 117 مشروعاً، الرياض ثالثة بنحو 99 مشروعاً، أبو ظبي رابعة بنحو 98 مشروعاً، ثم جاءت القاهرة في المرتبة الخامسة بنحو 46 مشروعاً.
أما لجهة قيمة التكاليف الاستثمارية فكانت مدينة العين السخنة المصرية أولاً بنحو 40.7 مليار دولار موزّعة على 14 مشروعاً، ثم مدينة أبو ظبي بنحو 4.365 مليارات دولار، ومدينة دبي ثالثة بنحو 4.351 مليارات دولار.
ماذا يعني ذلك… أو علامَ يؤشّر؟
يعني أن استخدام سلاح الاستثمارات في الضغط على حكومات الدول الغربية المؤيّدة للعدوان الإسرائيلي موجود بيد 5 عواصم عربية، والمؤسف أن 3 منها لديها اتفاقيات تطبيع مع “تل أبيب”، والرابعة لديها قنوات اتصال وتواصل منذ عدة سنوات، والخامسة كانت تجري مفاوضات مع الكيان الصهيوني عبر الإدارة الأميركية، وهذا ما يجعل من إمكانية تكرار ما فعله الملك فيصل في العام 1973 حدثاً تاريخياً استثنائياً لن يتكرّر.
لكن الملاحظ في تقرير مناخ الاستثمار للعام 2023 عدم تطرّقه إلى الاستثمارات الإسرائيلية التي باتت تشكّل نسبة لا بأس بها من الاستثمارات الأجنبية الوافدة إلى بعض الدول العربية. وعدم الإشارة إليها في التقرير له 3 احتمالات أساسية:
الأول إيجابي ينمّ عن استمرار الرفض المؤسساتي والشعبي العربي لأي شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، حتى ولو كان مجرد إشارة لواقع معيّن.
الاحتمال الثاني أن جزءاً من الاستثمارات الإسرائيلية قد تكون قد دخلت الدول العربية بجنسيات أخرى مختلفة، وهذا ما يجعل رصدها ومتابعتها يحتاجان إلى جهد منفصل، وإلى تعاون عربي في ذلك.
الاحتمال الثالث هو وجود رغبة لدى بعض الحكومات بعدم الإشارة إلى الحجم والمستوى اللذين وصلت إليهما الاستثمارات الإسرائيلية في بعض الدول العربية، كي تنمو وتزداد على “راحتها
الميادين