مقالات مشابهة
كان يوم الخميس، 19 تشرين الأول/أكتوبر، مغايراً جدّاً بالنسبة إلى كثير من السوريين والعرب. ولعل مئات الآلاف أو ربما الملايين منهم، مثلي، لم يعرفوا النوم تلك الليلة، ليس فقط لأنّ مشاهد الإجرام والوحشية الإسرائيليين بحقّ أهل غزّة، سلبتهم الراحة والنوم، وأبقتهم رهن القهر والغضب، بل أيضاً، لأنّ أخبار تساقط القذائف والصواريخ، التي تطلقها قوى المقاومة على مواقع “المستثمر الأميركيّ” وقواعده، من اليمن إلى العراق، بلوغاً أرض الشام، بدأت الظهور تباعاً عبر شاشات القنوات الإخبارية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وبدت أشبه ما يكون بالغيث الذي انهمر أملاً على قلوب المظلومين.
قاعدة حقل العمر، قاعدة كونيكو، قاعدة عين الأسد، موقع فيكتوريا، محيط مطار بغداد، قاعدة حرير، خطّ الغاز السوريّ المنهوب الواصل إلى معمل “كونيكو” المحتلّ، قاعدة التنف، اليمن وبحره وصواريخه وأهله الخارجون من تحت رماد المجد لينصروا فلسطين، خلال ساعاتٍ قليلةٍ فقط، بدا كأنّ أحداً ما ألقى كرةِ لهبٍ هائلة لتتدحرج خلف المستعمر الأميركيّ في كل مكانٍ من أرض المقاومة. بدا كأنّ كل عذابات أطفال غزة ونسائها وشبانها وشيوخها تحوّلت إلى لعنةٍ من نار، تحاصر من قامرَ بأغلى استثماراته في دمائهم وحيواتهم ووجودهم.
كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، غادر كيان الاحتلال والإجرام الإسرائيليين قبل ساعات فقط، بعد أنْ قدّم كل ما يمكن تأمينه الآن من الدعم، عسكريّاً وسياسيّاً ومالياً ومعنويّاً، على نحو يضمن استمرار المذبحة الإسرائيلية القائمة في غزّة، حين بدأت صواريخ المقاومة تدكّ “قاعدة العمر” وقاعدة “حقل كونيكو” في الشرق السوريّ، وبعد ساعات قليلة فقط، حين كان يُلقي خطاباً مرتبكاً من واشنطن العاصمة، يُعلن فيه أنّ “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) تُشكّل خطراً كبيراً على الأمن القومي الأميركيّ، كما روسيا بالظبط، وأنّه، من أجل ضمان تحقيق هذا الأمن في أفضل صورة ولأطول وقت، يجب دعم “إسرائيل” بكل السبل الممكنة، ورفدها بـ 14 مليار دولار على وجه السرعة، في تلك اللحظات تحديداً، كانت المقاومة العراقية تدكّ بالقذائف الصاروخية قاعدةً عسكريّة أميركية قرب مطار بغداد الدولي.
وبين الزمنين، اعترضت الدفاعات الجوية، من على متن السفينة الحربية الأميركية، “يو أس أس كارني”، الراسية قرب سواحل اليمن، عدّة صواريخ أطلقها ثوّار اليمن، ولا يزال “البنتاغون” حتى اللحظة يخمّن الاتّجاه التي كانت تقصده تلك الصواريخ، ويبحث فيما إن كانت وجهتها الأرض المحتلة ومواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي، أم قواعد الاحتلال الأميركي في المنطقة.
في الأرض السورية، اشتعلت النيران في عدد من قواعد الاحتلال الأميركي، بحيث تعرّضت قواعد “العمر” و”كونيكو” و”التنف” لهجمات بالصواريخ وبالطائرات المسيّرة، وفجّر “مجهولون” خطّ الغاز الواصل إلى قاعدة “كونيكو”، وأعلنت القيادة الأميركية الوسطى مقتل متعاقد أميركيّ في قاعدة العمر، بينما أكّدت المعلومات سقوط جنديين أميركيين على الأقل، وعدد من الجرحى.
قبل أسابيع قليلة فقط، كانت الولايات المتحدة تُحضّر منطقة الشرق السوري، الممتدة من أطراف السويداء جنوباً، إلى ريف الحسكة في أقصى الشرق، مروراً بمنطقة البادية السورية كلّها، كي تكون جبهة نارٍ مستعرة في وجه الجيش العربي السوري وقوى المقاومة في الشرق، بل إنّ تقارير وتسريبات أميركية تناولت خطّة واشنطن الرامية إلى طرد الجيش وفصائل المقاومة نهائيّاً من منطقة “البوكمال” و”الميادين”، وجميع النقاط في منطقة غربي الفرات وضفتيه، وإغلاق الحدود السورية – العراقية بصورة كاملة. وباشرت واشنطن، فعلاً، نشاطها المحموم في الشرق لهذا الغرض، بحيث حشدت “جيش سوريا الحرة” الذي أوجدته من بقايا التنظيمات الإرهابية المندحرة وفلولها، وعلى رأسها “داعش”، ودرّبته وسلّحته على مدى عام كامل قرب قاعدتها في “التنف”، و”لواء ثوار الرقة”، الذي أعادته من الفناء قبل أشهر قليلة، وطلبت إلى “قوات سوريا الديمقراطية” (“قسد”) الاستعداد لتلك المعركة، لكنّ رفض الأخيرة التورط في معركة ضد الجيش العربي السوريّ، عرقل الخطّة، ودفع الإدارة الأميركية إلى ابتداع خطّة بديلة هي الاعتماد على المكوّن العربي في الشرق، من أجل إرضاء أنقرة من جهة، والضغط على الكرد وتخويفهم من جهة أخرى.
لكن هذه الخطة انفجرت في وجوه الأميركيين بدورها، إذ أدّت سريعاً إلى اندلاع مواجهات ضارية بين العشائر العربية و”قسد” في عموم مناطق غربي الفرات، الواقعة بين محافظتي دير الزور والحسكة، وامتدت شرارتها إلى ريفَي حلب والرقة.
وفي حين بقيت قوات الاحتلال على مدى أيام في موقع المتفرّج أمام “مطحنة الأدوات” تلك، اكتشفت أن قوات الجيش العربي السوريّ باتت في قلب الحدث، ودخلت خطّ المعارك في المناطق المحيطة بالقواعد الأميركية.
وهنا، سارعت قوات الاحتلال إلى فرض وقف المعارك بين الطرفين، واستدعت مندوبين عنهما إلى مدينة إربيل العراقية، للتفاوض والتباحث. وأعلن القائد القبليّ لقوات العشائر العربية، الشيخ ابراهيم الهفل، في تسجيل مصور له قبل أيام قليلة، فشل تلك المباحثات، وطلب إلى أبناء العشائر الاستعداد لمعركة كبيرة مع “قسد” حتى طردها من المناطق العربية.
وقبل أنْ تُلملم الولايات المتحدة خيبتها الجديدة في الشرق السوريّ، جاء “طوفان الأقصى” من غزّة المقاومة، ليُغير وجه المنطقة خلال ساعتين أو ثلاث فقط.
في الظاهر، وعلى مستوى الإعلام والرأي العام عموماً، نسي الجميع أمر الشرق السوري، وباتت الأخبار والمشاهد للإنجازات التاريخية وغير المسبوقة التي تحققها المقاومة الفلسطينية في وجه جيش الاحتلال الإسرائيلي وقطعان مستوطنيه، ثم مشاهد المجازر والجرائم التي بدأ هذا الجيش ارتكابها في غزّة على مدار الساعة، هي ما يشغل العالم أجمع، وليس فقط أبناء سوريا والمنطقة العربية.
لكنّ جهة بعينها، في ضفّة الأعداء، انشغلت وتنشغل في هذه الأيام الفارقة والعصيبة بأمر الشرق السوري أكثر من أي وقت آخر، هي الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذه المرة، ليس من باب ابتداع الخطط الجديدة أو استعادة خطط فاشلة قديمة ومحاولة إنجاحها، بل من باب صاعقة “طوفان الأقصى” التي أصابتها في الرأس، حين أصابت قاعدتها الامبريالية واستثمارها الكبير “إسرائيل” في القلب.
أدركت الولايات المتحدة الأميركية، منذ الساعات الأولى لملحمة “طوفان الأقصى”، أنها أمام منعطف تاريخي فارق وحاسم بكل ما تعنيه الكلمة، فلقد أظهرت عبقرية المقاومة الفلسطينية مدى هشاشة كيان الاحتلال، وترجمت للفلسطينيين والعرب وسكان الكوكب أجمع، بالواقع العملي، المعنى الحرفيّ لجملة “أوهن من بيت العنكبوت”، والتي أطلقها قائد المقاومتين العربية والإسلامية ورمزهما في هذه المنطقة، السيد حسن نصر الله، في إثر نصر تموز/يوليو عام 2006، فأُصيبت واشنطن، والغرب كله، بذعرٍ حقيقي وغير مسبوق، لأنّ سقوط “إسرائيل” وتحرير فلسطين يعنيان سقوط قوة الولايات المتحدة ونفوذها في هذه المنطقة.
من هنا، لم يكن تحريك واشنطن أساطيلها ونخبة قواتها في اتّجاه سواحل سوريا ولبنان وفلسطين، وصولاً إلى حدود غزّة البريّة، من أجل مساعدة المحتل الصهيوني في معركة استعادة التوازن وحفظ ماء الوجه والإجرام فحسب، بل أيضاً من أجل ضمان بقاء “الإمبراطورية” ذاتها في هذا الشرق.
لقد أدرك الساسة والعسكر في الولايات المتحدة أنّ احتمال توسّع الحرب، لتشمل الجبهات العربية المتاخمة لفلسطين المحتلة، أمر وارد في أيّ لحظة، وهذا يعني، بكل تأكيد، استهداف كل مواقع المحتل الأميركي وقواعده في المنطقة، وعلى رأسها قواعده في سوريا والعراق.
لذلك، بادرت واشنطن إلى إرسال الرسائل السريعة في كلّ اتّجاه، وخصوصاً إلى بيروت وطهران ودمشق، وتنوّعت رسائلها بين التهديد الصارم حيناً، واستجداء “ضبط النفس” في معظم الأحيان. ووصلت أقوى هذه الرسائل إلى دمشق مبكراً، ومفادها: تدمير دمشق واستهداف الرئيس السوريّ، بشار الأسد، شخصيّاً، في حال انخرط الجيش العربي السوري وحزب الله في هذه الحرب، بصورة مباشرة.
وصل جو بايدن إلى كيان الاحتلال بالسرعة الممكنة، ولم ينسَ، بعد كلّ ما أعلنه من استعدادٍ أميركيّ حاسم لمساعدة الكيان في معركة الوجود هذه، أنْ يؤكّد أنّه لم يقل للقادة الصهاينة إنّ الولايات المتحدة ستدخل الحرب إلى جانبهم بصورة مباشرة، إذا ما اشتعلت الجبهات الأخرى. وكان هذا التصريح، في حدّ ذاته، رسالة ذعرٍ واستجداء لقوى محور المقاومة في الإقليم.
لم تتأخّر المقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، عن المشاركة في طوفان الشرف هذا، بل سارعت إلى الانخراط في معركةِ استنزافٍ رهيبةٍ وبالغة الرعب للكيان ولواشنطن، عند الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة. ومع استمرار المجازر الإسرائيلية في غزّة، وبناءً على حسابات المقاومة في فلسطين والمنطقة من دون غيرها، التحقت قوى المقاومة في سوريا والعراق واليمن بالركب المقدّس، وبدأ كابوس واشنطن يتجلّى، يوم الخميس الفائت، حين أُضرِمت نار غزة الغاضبة في عدد من القواعد الأميركية في سوريا والعراق.
بعد أكثر من عشرة أعوام على الحرب الأميركية – الإسرائيلية عليهم، وتدمير بلادهم ونهب ثرواتها، بعد مئات ألوف الشهداء والجرحى، بعد عقد كاملٍ من العذابات والحرمان والحصار، وبعد 12 يوماً من الأمل الغزّي العارم، والغضب والقهر المستعرَيْن في قلوبهم بسبب مشاهد ذبح أهل غزّة، يشعر السوريون، كما إخوتهم الفلسطينيون وكلّ المظلومين في هذه المنطقة، بأنّ ثأرهم التاريخي في طريقه إلى التحقّق، ولعلّ المراقب لردود أفعالهم على قصف القواعد الأميركية في الشرق السوريّ والعراق، يوم الخميس وليلته، يدرك كم يتوق هذا الشعب إلى حرب تحرير فاصلة تزيح عن صدره كل أثقال الاستعمار والهيمنة والإجرام.
وبالنظر إلى سير الأحداث في فلسطين وسوريا والمنطقة، فإنّ استمرار الهجمات على القواعد الأميركية في سوريا خصوصاً، وفي المنطقة عموماً، بات أمراً واقعاً سيأخذ في التدحرج والتصاعد، ساعةً بعد ساعة، وسيكون على قوات الاحتلال الأميركيّ أنْ تواجه معارك تحريرٍ لن تتوقف، ولن تجد واشنطن الطريقة الملائمة لاحتوائها أبداً، فلا الأنظمة العربية التابعة قادرة على الضغط ومعاقبة الشعوب العربية كما كان عليه الأمر قبل “طوفان الأقصى” الذي عمّت آثاره جنبات الكوكب، ولا المقاومة العربية، التي أثبتت قدرتها على المبادرة والتفوّق وتحقيق النصر، ستستكين بعد أنْ بلغت لحظتها التاريخية التي أعدّت لها على مدى عقود وأعوام، ولا الولايات المتحدة ذاتها، قادرة على خوض حرب عسكرية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط الآن، وهي تدرك أنّ قطعان تنظيم “داعش” الإرهابي، التي أفلتتها، لتشنّ هجمات يائسة على مواقع الجيش العربي السوريّ وفصائل المقاومة في البادية صباح الخميس، ليست قادرة على نصرتها أو حماية وجودها في هذا الشرق.
وعليه، فإنّ “إمبراطورية” الشرّ والإجرام نفسها، لا “إسرائيل” فقط، تواجه حرب وجودٍ حقيقية، في هذه اللحظات، في هذه المنطقة التي غمرتها غزّة بطوفانٍ من الشرف والحريّة. ولعل أعين السوريين وأفئدتهم الآن تتنقّل بين غزة والشرق وجنوبي لبنان، وتتوقف كثيراً عند الجنوب السوريّ، وثمّة من ينتظر بلهفة كبيرة هنا، بروز أخبار جبهة الجولان، في أيّ لحظة
المصدر: الميادين