12 تشرين الثاني 2023
عيسى قراقع
حافيا وصلت الى الأسود الخمسة الرابضة في ساحة المنارة في رام الله، شهيد يمر من مخيم قلنديا وآخر من الامعري، أربعة عشرة شهيدا يمرون من جنين وآخرون من طوباس ونور شمس والخليل وبيت لحم والقدس واريحا ونابلس والمخيمات والقرى والحارات، يعبرون الحواجز ويلتحمون مع شهداء غزة، وطن اصبح جثة واحدة.
يا أهلنا في غزة
نموت معكم كل لحظة
نفرفط في بيوتنا واحلامنا
نفرفط في الشوارع
في النوم واليقظة
أي موت هذا؟ الموت هناك هو الموت هنا، ومن قال ان الحرب الدموية بدأت في 7 أكتوبر عام 2023، الحرب بدأت منذ اكثر من 75 عاما، ولازلنا ننهض من مجزرة الى مجزرة، ومن لم يقتل في غزة يموت امام المشاهد المرعبة، يموت الف مرة، وما ابشع هذا الموت، قهرا وعجزا وانتظارا، فكرا وادراكا، ومن القلب الى العقل الى بلاغة الدهشة، وهي إبادة سياسية واسعة الجميع تحت المقصلة.
لماذا انت ساكتة ايتها الأسود الخمسة
الشهداء يقذفون من سماء غزة حتى الضفة المحتلة
تحركي ايتها الأسود، زمجري
تكلمي، اكسري هذا الخرس
لماذا انت جالسة
ابحلق في الشاشة ولا أرى سوى استراتيجية الصدم والترهيب والدهشة، صدمات الكوارث التي تستهدف كل المجتمع الفلسطيني والمتضامنين معه، الخوف الجماعي، عرض مصمم لقصف الاحاسيس واللعب بالمشاعر وايصال الرسائل الدائمة، انها اشد قسوة من النار المكتسحة، الحرمان الحسي، التشوش والتقاعس، وبين كل ذلك لازال السياسي يتجادل مع الثقافي، والمرحلي مع المؤجل، والدائم مع المؤقت.
الليل احمر
أتمنى الأبيض الذي يثقب الأسود
المشاهد المفجعة فصلت روحي عن جسمي
هدمت الكينونة
انا سجين في الجمود المتواصل
كيف يموت الانسان في الانسان
متى تهب رياح الصور
علموني كيف اغضب
جثث الشهداء تتعانق في قوس قزح من غزة حتى رام الله، انا وحيد في الساحة، في فراغ القنبلة، جثث اولادي تتناثر في حضني، في الحوش وعلى المصطبة، يا الهي، هل هذا وعد الشتاء ام وعد الاخرة، فقولي شيئا ايتها الأسود الخمسة، هنا الاحياء والاموات، شعب يتبعثر في النيران الملتهبة، كل يرتطم بالآخر، الشهداء يتعانقون مع بعضهم اكثر من الاحياء، وهنا في ساحة المنارة، رأيت معين بسيسو يحمل جثته من غزة الى رام الله، بيده معولا ليحطم الأسود الخمسة الصامتة، صارخا: أيها الموتى افيقوا افيقوا، ان عهد الموت زال
لم نقطف الزيتون هذا العام
المستوطنون المتوحشون في الحديقة والبيت
فمن يحمل الفأس ويتبعني؟
من يشعل في روحي الزيت.
هل رأيتم الأطفال النائمين تحت الأنقاض، التقطوا الصور، حملوهم في الشاحنات، خرق بشرية وملابس ممزقة، أصابع مفتتة، أشلاء غير متناسقة، اليد الرأس وأين القدمين؟ موت بلا جثث متكاملة، مرحى لامريكا، مرحى للمجتمع المدني وللحريات وللديمقراطية، مرحى للذين يبيدون الحياة الإنسانية في مصادرها الأولية، ويسمى كل ذلك دفاعا عن النفس، مرحى لامريكا وللصهيونية التي ابدعت في ابتكار منظومة القتل، دخلت التاريخ لانها قتلت غزة ببرمجة مجهرية دقيقة، اصبح الموت جزءا من الحياة اليومية، والآن فوق وطن صار مقبرة يستدعون الحلول السلمية.
تكلمي ايتها الأسود الخمسة
ضربونا قنبلة نووية
احرقوا المستشفيات
تكلمي، سيقتلعون اسنانك
ويدوسون على صدرك
بسطار في غزة
وبسطار في مجدو
وبسطار يخنق الحنجرة.
في ساحة المنارة في رام الله فتحت كتاب جسدي، وقلت: الموت هناك هو الموت هنا، حسم الطموحات الوطنية والقومية بالنار والصواريخ، لا دولة لنا في الأرض ولا دولة في السماء، كل شيء مدفون في الغياب والطمس، وحتى الذين يسيرون في خطوط الممرات الإنسانية، ويرفعون شارات الصليب الأحمر ويكتفون بمطالب اغاثية، ذهبوا ولم يعودوا.
وصلت كل المساعدات الإنسانية
الدواء والخبز والضمادات والاكفان
شكرا لكم
الكل مات
وصلت متأخرة
القذائف المدمرة فوق رؤوس الناس في غزة، لكنها فوق رؤوسنا أيضا، الحسم الادراكي، الخوف، الرعب من الحرية، التوهان، البلادة، انها حرب الصدمة، يقتلونك أينما كنت نفسيا واجتماعيا، ينشدون ويرقصون، يذلون الاسرى ويعذبونهم ويعدمونهم، لكي يحتلونك من داخلك، يسيطرون عليك دون ان تنزل قطرة دم.
يتبخر الناس هذه السنة
ابشروا، سيكون المطر غزير غزير
قل هو الله احد
منه الصمود والصمد
اصبعان من تحت الركام
يرفرفان للنصر
واصبع للشهادة
شعب لا ينحني لاحد.
في ساحة المنارة في رام الله فتحت قبري، قلت يا ولدي هل تراني، جئتك احمل يدي، واحمل يدك، رأيتك في شارع صلاح الدين، عرفتك من قشاطك، من لا يعرف الطريق ينقطع، عرفتك من ابتسامة وجهك للغارة، ووشم على الخدين يحترق.
في ساحة المنارة
رأيت نجمة تائهة في سماء غزة
تبحث عن طفلتها الصارخة
لا تأخذوني الى المقبرة
انا حية انا حية.
كان لا بد ان اعيد قراءة التاريخ، تاريخ المستعمرين المتنورين الذين اغتصبوا الشعوب، وابدعوا في فنون التعذيب والقتل الجماعي، الأوروبيون والامريكيون الذين اسسوا كلمة التوحش، اشعلوا الحرائق بحق الأمم والشعوب، ولا يتميز الهولوكوست الأمريكي بحق الهنود الحمر عن الهولوكوست النازي وعن الهولوكوست في غزة، ولا تختلف عما يسيمه علماء الاجتماع بالجريمة الطقسية التي تشع البهجة والقداسة لدى مرتكبيها، وها نحن نراهم يتلذذون بالقتل وتعذيب الاسرى واهانتهم ومشهد الدم، ومنهم تخرج تجار سلخ الرؤوس وحلق شعور النساء وقتلهن واجراء التجارب على البشر، وما رأيناه في سجن أبو غريب يتكرر الان في المعسكرات والسجون الإسرائيلية، وما دعا اليه وزير التراث الصهيوني بإلقاء قنبلة نووية على غزة، هو امنية كشف عنها المعلق السياسي الأمريكي مايكل سافيج عندما قال: معظم الأمريكيين يتمنون ان يرون قنبلة نووية تهوي فوق عاصمة عربية كبيرة، ويتمنون ان يكون القصف النووي عشوائيا دون تمييز.
رأيت طفلا يجمع أشلاء اخوته في حقيبة
يركض في الشوارع
يبحث عن قبر او مدرسة.
الحاخاميون الصهاينة اصدروا فتوى تجيز قصف المستشفيات، والمراييل البيضاء وغرف الإنعاش والولادة، قطع الاكسجين وخنق الاجنة في الارحام وقصف سيارات الإسعاف ومدارس الوكالة واعلام الأمم المتحدة، انها عقيدة المبشرين والمغامرين والمرتزقة والباحثين وآكلي اكباد البشر، وفي غزة تباد الحقيقة ويهيمن الطغيان، وفي غزة انتهت الاخلاق وزالت الحدود بين الاباطيل والحقائق وبين الانوار والظلمات.
لم ينزل الطفل عن المرجيحة
تحول الى فحم
كل شيء تأخر
عن موعده مع النوم.
في ساحة المنارة في رام الله رأيت ادوارد سعيد يجلس متعبا، حاولوا اغتياله لانه رمى حجرا من جنوب لبنان على المحتلين، ولأنه اكتشف تحت النصوص الاستشراقية والرواية المزيفة جثثنا ومقابرنا التي قامت عليها المستعمرة، ولأنه طلب منا ان نخرج البطل من داخلنا ونخلع ثوب الضحية، رأيت محمود درويش يخرج من جداريته ويصرخ فينا: حاصر حصارك لا مفر، قتلاك او جرحاك فيك ذخيرة، اضرب عدوك بها لا مفر، فأنت الان حر وحر.
قولي شيئا ايتها الأسود الصامتة، الشهداء يتناثرون في كل الأمكنة، يقبلون الأرض ويصعدون، يوشوشون الغيم ويعودون من عنق الشمس، ومقابل كل اسير فلسطيني سيتحرر شهيد او شهيدين او عشرة واكثر، زرع في السماء ونبض على الأرض، هي متلازمة الحرية والموت.
لم تنتصر قيمنا الحضارية ما لم نتخلق بالاخلاق البربرية، قالها الرئيس الأمريكي روزفلت.
انا صهيوني واذا لم تكن هناك إسرائيل لاخترعت الولايات المتحدة واحدة، قالها الرئيس الأمريكي بايدن.
ان هتلر ينافسنا الان على لعبتنا، قالها مدير احد المعسكرات الحكومية في أمريكا.
اذا كان لا بد من شعار يرمز لامريكا وتاريخها ليس هناك من يعبر عن هذه الحقيقة سوى هرم هائل من الجماجم، قالها المؤرخ رتشالد سلوتكين.
في ساحة المنارة في رام الله، رأيت المتوكل طه يخرج من فوهة المذبحة، يسنن قصيدته على حجر عتيق وهو يقول: أيها الحي المقتول الذي لا يموت، وصورته في البيوت، ارجع، فإنك حي، ولا يليق بك الغياب
انا في ساحة المنارة في رام الله، عيد الميلاد قادم والثلوج والملائكة، دم يسيل من الترانيم والسماء مغلقة، اين أطفال غزة؟ لأسقي شجرة الميلاد بماء العينين، لذلك اعتذر لك يا سيدي اليسوع لقد افرغوا السماء من جسد الغيم، ولكن علي ان اطلق نشيدي، وعلي ان انزع المسامير من لحمي وقيودي واغني:
طير يا طير
من رام الله الى غزة
وشوشني الطير قلّي
رَجعتنا قريبة
تصرخ من غزة ورفح
من عين العروس
تجاوب من فوق الجبل
صرخة نابلسية.