25 كانون ثاني 2024
ماجد كيالي
أطلق إيلان بابيه، الأكاديمي والمؤرخ الإسرائيلي المعروف بمناهضته الصهيونية وتعاطفه مع حقوق الشعب الفلسطيني، نقدا غير مسبوق لإسرائيل، في ندوة عقدت مؤخرا في حيفا، ذكر فيها مؤشرات عما اعتبره بداية نهاية المشروع الصهيوني، المتمثل بإسرائيل.
المؤشر الأول، “الحرب اليهودية الأهلية التي شهدها الجميع، قبل 7 أكتوبر/ تشرين الاول الماضي، بين المعسكر العلماني والمعسكر المتدين في المجتمع اليهودي في إسرائيل”. برأيه أن “تلك الحرب ستتكرر… فالذي يجمع المعسكرين هو التهديد الأمني ولا يبدو أنه سيعمل بعد الآن”. أما المؤشر الثاني، فيتمثل بـ”الدعم غير المسبوق للقضية الفلسطينية في العالم، مع استعداد معظم المنخرطين في حركة التضامن لتبني النموذج المناهض للفصل العنصري الذي ساعد في إسقاط هذا النظام في جنوب إفريقيا، ليتم الانتقال إلى فترة جديدة بتحول الضغط من المجتمعات إلى الحكومات”. في حين يتمثل المؤشر الثالث في العامل الاقتصادي، تبعا لارتفاع “الفجوة بين من يملك ومن لا يملك، بالإضافة إلى رؤية قاتمة لمستقبل الصلابة الاقتصادية لدولة إسرائيل”. أما المؤشر الرابع فيتلخص بـ”عدم قدرة الجيش على حماية المجتمع اليهودي في الجنوب والشمال… هذا سيؤدي إلى مزيد من القلق والخوف بين الإسرائيليين”. والمؤشر الخامس يبرز من خلال”موقف الجيل الجديد من اليهود، بما في ذلك في الولايات المتحدة، الذي يأتي على عكس الأجيال السابقة التي حتى أثناء انتقادها لإسرائيل، اعتقدت أن هذه الدولة كانت تأمينًا ضد محرقة أخرى أو موجات من معاداة السامية”.
في الواقع فإن كلام بابيه على أهميته وجرأته، ليس مفاجئا تماما، فالحديث عن تصدع إسرائيل، والتشققات فيها، بدأ منذ صعود نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، في حقبته الأولى (1996ـ1999)، بعد اغتيال إسحق رابين، والتي تكرس فيها التحالف بين اليمين القومي والديني، وتقويض التسوية مع الفلسطينيين. وقد تعاظم هذا المسار في حقبته الثانية (2009 ـ 2021)، التي تم فيها إصدار قانون أساس باعتبار إسرائيل دولة قومية لليهود، بأغلبية طفيفة في الكنيست، بتغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية على حساب كونها دولة ديمقراطية (لمواطنيها اليهود). وكما شهدنا فقد تفاقم ذلك في الحقبة الثالثة ـ الحالية (منذ أواخر 2022)، بتشكيل حكومة نتنياهو ـ ووزير الامن الداخلي ايتمار) بن غفير ـ ووزير المال بتسئليل) سموتريتش (بين ليكود وكل أحزاب الدينية والمتطرفة) والتي باتت تعرف كأكثر الحكومات تطرفا منذ إقامة إسرائيل؛ وكان كثر تحدثوا عن ذلك ومن ضمنهم بابيه، مثل ابراهام بورغ، وجدعون ليفي، وعميرة هاس، وأوري رام، وأفي شلايم.
ومنذ أواخر العام 2022، مع تشكيل الحكومة الحالية، بدأت تظهر أراء لشخصيات إسرائيلية تتحدث عن احتمالات حرب أهلية في إسرائيل، وعن محاولة نتنياهو وحكومته الاستحواذ على كل السلطات، بالاستيلاء على السلطة القضائية، بل بات يجري الحديث عن نشوء نظام فاشي في إسرائيل. والأهم أن العديد من أصحاب الرأي الإسرائيليين يربطون بين التطرف ضد الفلسطينيين، بالتطرف ضد اليهود الآخرين، أي أن التناقض بين المتدينين والعلمانيين، أو بين طابع إسرائيل كدولة يهودية أي عنصرية، وطابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية (بالمعايير الإسرائيلية)، بات بمثابة امتداد للتطرف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
في لقاء جمعني مع إيلان بابيه (حيفا، صيف العام الماضي برفقة د. أسعد غانم)، تحدث بابيه، بكل يقين، أن إسرائيل تسير باتجاه حرب أهلية، إذ إن “دولة إسرائيل الثانية باتت تحتل دولة إسرائيل الأولى”؛ ويقصد بإسرائيل الثانية، دولة المتدينين والمستوطنين (وأغلبهم من اليهود الشرقيين)، مقابل الدولة الأولى التي أسسها العلمانيون الأشكيناز.
وعندما لاحظ استغرابي، فسر الأمر بطابع إسرائيل كدولة ديمقراطية، إذ القوة العددية التصويتية هي التي تقرر، وإن مشكلة هؤلاء أنهم لا يدفعون الضرائب، ويعيشون على حساب الدولة، أي على حساب دافعي الضرائب الآخرين، وإنهم لا يخدمون في الجيش، ومع ذلك فهم الذين باتوا يحكمون ويقررون مصير إسرائيل.
هذا هو مأزق إسرائيل، الذي نشأ معها منذ قيامها، ولعل ملاحظة بابيه في المؤشر الأول، والتي مفادها أن “الذي يجمع المعسكرين هو التهديد الأمني”، على غاية في الأهمية، إذ إن إسرائيل بنت اجماعاتها الداخلية، على التوحد في مواجهة الخطر الخارجي، الذي ظل إلى فترة طويلة يشكل عصب وحدتها كدولة ومجتمع، بيد إنها تخففت، أو تحررت من ذلك، بعد عملية التسوية واختفاء معادلات الصراع العربي ضد إسرائيل، ما أدى في المقابل إلى صعود التناقضات الداخلية؛ وقد شهدنا ذلك طوال العام الماضي، في حين أن حرب غزة أسهمت، إلى حد ما في توحيد أغلبية الإسرائيليين، وتخفيف التوترات او التناقضات الداخلية.
أيضا، فإن إسرائيل مرت، في العقود الثلاث الماضية، بتطورات عميقة، تمثلت بتآكل دور الدولة في الرعاية والتقديمات الاجتماعية، بالقياس للسابق، والاتجاه نحو الخصخصة، والاندماج في مسارات العولمة، وتآكل دور الدولة كمشغل، ما عمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وأدى إلى ضمور المؤسسات العامة والقطاع العام، وتراجع مكانة الهستدروت والكيبوتزات والموشاف، بحيث بقي الجيش كمؤسسة وحيدة جامعة، وهذه التطورات عززت الهوية الفردية، والهويات القبلية ـ الطائفية (شرقيين ـ غربيين، روس، مستوطنين جدد، متدينين ـ علمانيين)، بحيث باتت التناقضات تفعل في إسرائيل فعلها في أي دولة أخرى.
الجيد أن بابيه كان موفقا في استنتاجه: “إننا في بداية نهاية المشروع الصهيوني، وهي مرحلة طويلة وخطيرة، ولا نتحدث عن المستقبل القريب، بل عن المستقبل البعيد”.
لذا، فالمشكلة، إلى تسرع البعض عندنا، كالعادة، في الاستنتاج الساذج عن نهاية إسرائيل، فهي تكمن، أيضا، في عدم القدرة على الاستثمار في تناقضات هذه الدولة، أو اللامبالاة إزاءها، والتعامل مع المجتمع الإسرائيلي ككتلة واحدة، صماء، ما يفيدها، ويخدم الاتجاهات المتطرفة فيها بخاصة، على ما أكد بابيه ذاته، الذي تحدث عن بداية نهاية، فقط، علما إنها نهاية لا أحد يستطيع التكهن بمساراتها وطبيعتها ومداها الزماني والمكاني، في منطقة هي أصلا لا زالت في طور التشكل، وحبلى بالتغيرات. فوق هذا وذاك فإذا كانت إسرائيل القوية بنظامها السياسي والاقتصادي وبقدراتها التكنولوجية والعسكرية، وضمانة الدول الكبرى لأمنها وتفوقها، هي في بداية النهاية، فماذا عن باقي الأنظمة في هذه المنطقة من العالم التي تكابد من أزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية منذ زمن طويل
المصدر: مجلة المجلة