كان السيد حسن نصرالله مالئ الدنيا وشاغل الغرب .. فحزب الله الذي تسلمه حسن نصرالله كان حزبا متواضعا .. الا ان السيد خلط دمه بدم الحزب وسكب فيه من روجه وجيناته النبوية .. فتحول الحزب الى عملاق وأسطورة .. ومثل الخنجر في خاصرة اسرائيل .. وصار الشغل الشاغل للغرب منذ عام 2006 لأن الغرب رأى واستشرف ان نمو هذا الحزب على فلسفة حسن نصرالله التي هي خليط ما بين الناصرية والخمينية سيكون خطرا على كل شيء اميركي وخاصة اسرائيل .. فالسيد لم يكن خمينيا خالصا .. ولكنه عروبي وقومي وسوري الهوى .. وقد جمع فيه خلطة من الخمينية الاسلامية والناصرية العروبية والشوفينية السورية للقوميين السوريين فهو يقاتل في سورية كأنه سوري .. ويريد فلسطين كأي عربي وكأي مسلم .. ويريد فلسطين كأي قومي سوري .. ويريد الاقصى كأي مسلم .. وكان الرعب يدب في الغرب من ظهور نجم نصرالله عام 2006 وهو يعطي أملا لشعوب عربية رأت بأن عينها ان اميريكا تجتاح أقوى عاصمة عربية وتقهر اكبر جيش عربي ويدخن جنودها السكائر في غرفة نوم صدام حسين .. بل وتشنق صدام حسين نفسه الرجل القوي في صبيحة يوم عيد المسلمين الأكبر .. وفي تلك اللحظة الحاسمة التي حاولت اميريكا ان تبث اليأس في نفوس العرب بشنق أحد أقوى زعمائهم استعدادا لاعلان الشرق الاوسط الجديد .. يظهر رجل اسمه حسن نصرالله وينتصر على قرارها بتغيير الشرق الاوسط كله .. ويتحدى ارادتها بل ويكسرها .. ولذلك يخطئ جدا من يظن ان الحرب الحالية هي قرار آني .. بل قرار اتخذ منذ زمن اعلان النصر الالهي .. فالاميركيون لن ينسوا من دمر المارينز في بيروت .. ولن ينسوا من كان سببا في تعثر تغيير الشرق الاوسط فبدا اسقاط بغداد بلا معنى من غير اسقاط دمشق وبيروت .. بسبب (مغامرة وتهور حسن نصرالله) .. ولذلك فان كل من يقول ان ما يتعرض له حزب الله هو بسبب ما صاروا يسمونه تورطه في غزة ووقوعه في فخ غزة هو كلام مهترئ ..
الحقيقة هي ان مشروع الشرق الاوسط الجديد حلم لم يغادر التفكير العميق الاميريكي لأن الشرق الاوسط الحالي يمنعها من خنق الصين وحصار روسيا وبالتالي فان نظرية الفيلسوف الروسي أليكساندر دوغان عن البر الاوراسي لم تتحطم .. فلكي تحارب الصين او روسيا فاياك ان تواجههما عسكريا .. بل اقتلهما ببطء .. وكي تقتلهما ببطء عليك عليك خنقهما وقتل ممر الصين الى العالم ومصدر طاقتها .. والشرق الاوسط هو مفتاح ذلك لأن نفط وغاز ايران حيويان للصين وممر ايران و العراق وسورية هو طريقها نحو المتوسط.. وبالتالي فان سقوط ايران هو سقوط للصين وانحسار لروسيا التي ستحبس في سيبيرية اذا خسرت محور ايران سورية .. ومن هنا فان الجنرال الاميريكي ويسلي كلارك اعرب عن دهشته من تخطيط المحافظين الجدد لتدمير عدة دول بعد أحداث سبتمبر .. تبدأ بالعراق وتمر بسورية وليبيا والسودان ثم ايران .. وأربع دول متجاورة في السلسلة من أفغانستان الى ايران والعراق و سورية .. وقد تم تدمير الجميع الا ايران التي بقيت .. ومفتاح ايران هو سورية وحزب الله .. فاسقاط اي منهما سيجرف ايران الى ما بعد الخليج .. وبهذه البساطة نكتشف ان حزب الله كان يقف مثل العظمة في حلق اميريكا التي لم تقدر على ابتلاع الشرق الاوسط .. فكان الجهد الاستخباراتي الاميريكي واضحا جدا من لحظة اغتيال الشهيد عماد مغنية الذي جندت له كل الامكانات الاوروبية والعربية وكان الاسرائيلي هو المنفذ كالعادة لأنه اليد القذرة التي تعطيها اميريكا الاعمال القذرة .. وكان واضحا في اغتيال حسان اللقيس في الضاحية وتنفيذ اغتيال قاسم سليماني .. فكل من يقف في وجه الخريطة الجديدة يجب التخلص منه ..
واليوم عقب كل أحداث كبيرة وعاصفة ينفجر الحزن في ضفة من ضفتي الحدث والفرح في الضفة الاخرى .. ولكن عقب كل عاصفة وأعصار يحطم أعمدة النور فيسود الظلام والرياح .. فيخرج اللصوص والانتهازيون بين الضفتين ويطلع أيضا من بين الشقوق أصحاب القلوب الخائفة .. يسرقون ويدخلون البيوت التي صارت بلا أبواب ولا أضواء ولا أي سراج يتقد .. ويتجولون في الطرقات لأن الناس في انشغال .. وهذا هو حال الشارع الذي نشرت فيه اسرائيل مجموعة من اللصوص والمشككين وكانت عقب كل قذيفة واغتيال تسقط علينا قنابل عنقودية فيها ذباب وبعوض نسميهم نشطاء واعلاميون او شخصيات معروفة .. وهؤلاء يشبهون القنابل العنقودية التي تصطاد الناس الذين يتوافدون لإنقاذ الجرحى .. يريدون بث اليأس والقنوط والانهزامية رغم انهم يملكون كل مقومات النصر والصمود ؟؟
لذلك فاننا نسمع هذه الايام أن البعض يظن ان حزب الله قد دخل معركة ليست معركته وانه كان عليه التريث .. وآخرون يقولون انه انتهى .. وبعضهم يقول ان اسرائيل انتصرت .. فأين هي الصواريخ وأين وأين ؟؟..
قبل كل شيء يحب على الجميع ان يعرفوا ان حزب الله قد نجا من هزيمة ماحقة ساحقة بسبب خطأ اسرائيلي فادح بسبب ترددها .. كما ان حزب الله قد ضيع فرصة ذهبية لاختراق الجليل عندما وقعت اسرائيل في الارتباك بعد 7 اكتوبر ..
أضاعت اسرائيل أهم لحظة في تاريخها وستندم عليها الى الابد .. وهي لحظة غياب السيد نصرالله عن المشهد .. وانتشار الفوضى في صفوف جمهوره لأيام .. حيث ان الخرق الامني لم يكن واضحا للناس .. وكانت هذه لحظة فاصلة كان يمكن لاسرائيل ان توجه هجوما بريا ساحقا .. الا انها ترردت جدا لأنها لاحظت ان جمهور حزب الله ارتبك لكن الأحبار والتقارير والملاحظات من الجبهة كانت تقول بأن الخطوط متماسكة جدا ولم تهتز ولم تعرض للصدمة والروع .. بل ان القيادة الجديدة للحزب تمكنت بسرعة من تدارك الانهيار النفسي .. واتبعت فورا سياسة التحرك في الظلام الذي اعتادته سلوكا في الماضي .. ولم يظهر الحزب قياداته الجديدة التي تولت العمل فورا دون ان تظهر.. ولم تكترث بالضغط النفسي الاسرائيلي والحديث عن مصير السيد هاشم صفي الدين او غيره .. ولم تدل بأية معلومات غن أي قائد .. وتصرفت القيادة الجديدة كما لو أنها رأس حسن نصرالله نفسه .. فالكاتب الاسرائيلي داني بركوفيتش بالهيدرا لم يجانبه الصواب عندما وصف الحزب بأنه الهيدرا في كتابه ( هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟) من حيث أن الحزب لم يعد ممكنا استئصاله من الشرق على الاطلاق .. وكلما قطع له رأس انبثق له رأس جديد .. كما هو وحش الهيدرا .. حتى وان كان وصف الكاتب الاسرائيلي عمدا بالهيدرا محاولة للنيل من صورته وتصويره على انه وحش ..
الأميريكون ظنوا ان سيناريو اسقاط بغداد يمكن تكراره في اسقاط بنت جبيل وحزب الله .. فاسقاط بغداد واعلان قتل صدام حسين في مطعم الساعة واظهار نهاية عهده رمزيا باسقاط التمثال في ساحة الفردوس تلاه انهيار كامل في صفوف القيادات العسكرية والقوات المحاربة لأن كل القيادة العراقية تبخرت .. وسقطت بغداد دون قتال .. وكان من المتوقع ان يحدث لحزب الله نفس الأمر .. ولكن الاسرائيليين رصدوا ان القيادات العسكرية متماسكة على الجبهة وفي خطوط القتال وان اي دخول للجنوب سيكون كارثة عسكرية .. ويبدو ان سيناريو بغداد كان في تقديرات قيادات حزب الله التي كانت تضع في حسبانها قطع اتصالاتها بالعالم الخارجي بأي طريقة لقتل جسم الحزب في عملية برية سريعة غتدما يكون بلا رأس قيادي .. ولذلك فان احدى أهم خطط حزب الله كانت خطة (الهيدرا بلا رأس) .. في حال انقطعت القيادة عن الاتصال بالميدان واصدار الاوامر والتعليمات .. وكان على كل قطاع الالتزام بخطة قطاعه والتمسك بالارض الى النهاية بطريقة كربلائية حيث كانت الاوامر ان كل موقع وقائد في اي قطاع لا يجب ان يكون أقل شجاعة من الروح الحسينية وارواح رجاله في موقعة كربلاء مهما كانت نتائج القتال .. ولذلك فان سيناريو بغداد هو أقصى ما كانت تقدر عليه اميريكا واسرائيل في ضربة قيادات الحزب الرئيسية .. وبعد ذلك ستحتاج اميريكا واسرائيل الى عشرين سنة أخرى من التخطيط والمتابعة لتجهيز نصر آخر .. ولكن الزمن لن يكون في انتظار اسرائيل كل هذا الوقت .. فالعالم يتغير والشرق الاوسط يتغير .. وحزب الله يتغير .. والهيدرا لن تموت بقطع رؤوسها ..
هيدرا حزب الله .. برؤوس لانهاية لها .. واسرائيل فقدت القدرة على استئصاله .. وهي تعلم ان القيادات الجديدة ستعيد انتاج حزب الله الذي سيكون اللغم الذي على حدودها الشمالية .. ولعلي أفهم قلق احد عتاة الصهاينة البريطانيين الذي نقله لي احد الاصدقاء وهو يحاوره وهو ان حزب الله كان مخيفا أكثر عندما كان السيد نصرالله في ذروة الشباب بلحية سوداء .. وكان متوسط أعمار قياداته في أوائل الثلاثين عندما انطلق .. والشباب لا يفكر بطريقة القيادات العاقلة الأبوية التي خبرت ويلات الحروب .. ومع القيادات القديمة صارت للحزب عائلة كبيرة من المحبين واللبنانيين ومن جمهوره .. وصار مثل الاب يخشى على أبنائه فيتجنب المواجهات اللاضرورية الا عندما تكون محسوبة جدا .. ولذلك فان القيادات الجديدة للحزب الشابة نسبيا التي تولت القيادة فورا الآن ستكون في مواجهة القيادات الاسرائيلية العجوز .. وسيعيد الطرفان الدورة القديمة كما كان حزب الله يوم قاده السيد حسن نصرالله في مواجهة قيادات اسرائيلية هرمة .. فهذا النوع من القيادات التي يتدفق فيها دم الشباب اليوم لديها رغبة عارمة بالثأر وفيها جسارة وشجاعة اقل مما فيها من الحكمة الابوية والتعقل وحسابات الكبار ..
المحور تجاوز صدمة غياب السيد .. ولكن غياب السيد جعل الحزب الآن في نقلة نوعية في طريقة تفكيره .. فالسيد تحول الى أيقونة ووصية ووضع حدودا يستحيل لأي قيادة بعده ان اقدر ان تغيرها .. فالشخصيات الروحية الرمزية الكبيرة ترث نكهة الانبياء .. ويصبح تغيير عقيدة جمهورها مستحيلا .. ويصل تقديسها الى حد يجعل منها مذهبا جديدا .. أشد واعتى مما كانت هي عليه ..
اسرائيل تواجه اليوم ولادة شرق اوسط جديد .. وحزب الله جديد .. وكارثة جلبتها على نفسها .. فالحزب يحتفظ بترسانة لا تملكها جيوش كبيرة في العالم من حيث القدرة التفجيرية والصاروخية .. وهناك قيادة أكثر اندفاعا .. ولا تكترث بمعادلات أحد .. معادلتها الحقيقية الوحيدة هي وصايا السيد الذي صار مقدسا .. وشعار هيهات منا الذلة .. ونكهة كربلائية قوية في سلوكها ..
اسرائيل ستعود الى القمقم من جديد .. وستضمحل بعد هذه الحرب وتتضاءل بعكس أي توقع لأنها لن تقدر ان تقهر حزب الله بعد أكبر صدمة وروع .. ولن تقدر ان تتابع في مشروع الشرق الاوسط الذي تريده اميريكا … وستكتشف انها لن تنجو من انتقام حزب الله .. الذي لن يقبل الا بالثأر .. وأن الحزب الآن صار محملا بوصية نصرالله ودمه وثاراته .. للصلاة في القدس .. لا شيء الا القدس .