الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / التلفزيون ووهم الوعي

التلفزيون ووهم الوعي

ادريس هاني

ما يحدث اليوم في عصر الثورة المعرفية ومجتمع المعرفة هو أنّ هذه الأخيرة تنمو باضطراد على هامش التآمر على الذهن البشري، لكي تكون له القدرة على التعايش مع المغالطة والاكتفاء بوهم الوعي الذي به نحيا..تبدو وسائل ووسائط التواصل جزء من لعبة هذا الاستبدال من الوعي بالوهم إلى وهم الوعي..ثمة مفارقة كبيرة لا بدّ من أن نقف عندها ونحن نعالج مأزق الوعي في سياق الثورات العلمية الكبرى: أنّ العقل المعاصر ينمو بشكل كبير من حيث قابليته للفهم، غير أنّه في واقع الأمر لا زالت إرادة التعقّل مشوبة بأوهام ابتكرها العقل نفسه: العقل ضدّ العقل..أو لنقل على أساس تصنيف أندري لالاند: عقل منتظم ضدّ عقل منظّم..بنية تحاصر العقل بشروط المعقول..المعقول هو تعبير عن موقف عقلي مشروط بعنايات عرفية وتاريخية معيّنة، لكن العقل أحيانا يظهر جنونا مفتعلا ليربك بنية المعقول حين تستنفذ أغراضها..وظيفة التلفزيون الأساسية هي إعادة إنتاج اللاّمعقول بشروط المعقول..هو الكائن الذي وجب التعامل معه بنزعة إحيائية..هو الكائن الذي يخاطب اللاّوعي باستمرار..ثمة ما يمكن أن نسمّيه بالميديا-باترياركية التي يمثلها التلفزيون..ولقد عوضت هذه الصناعة حادثة قتل الأب بالمعنى الفرويدي للعبارة..التسليم الجسدي والروحي للتلفزيون بتعبير بيير بورديو..هذا الأخير الذي لا يكتفي بالصورة وحدها بل يودع الصورة تفسيرا، باعتبار الصورة وحدها غير ناطقة بل لا بد من وجود تفسير ما حسب بورديو أيضا..غير أنّنا نجد الأمر هنا صحيحا إذا وسعنا من مفهوم الإشارة والتفسير..كلام بورديو قد يفهم على نحو خاطئ إذا لم نؤكّد على طبيعة وشكل هذا التفسير الذي يرافق الصورة..وفي نظري أنّ وضع الصورة في سياق زمني معيّن هو تفسير تضمّني للصورة حتى لو لم يرافقها كلام..بهذا نستطيع أن نفهم ونوافق بيير بورديو بخصوص الصورة ومعنى الصورة المجردة..وتأجيلا لمعالجة هذه الإشكالية نود التركيز على دور التلفزيون في تغيير أولوياتنا..سألفت النظر فقط للأولويات التي تخصّ الحياة السياسية العامّة..هذا الجهاز الإخباري هو في الحقيقة يشغل فضاءنا كلّه ويعيد نظم الأشياء بطريقته وعرضها على فاهمة تحمل القابلية لتمثّلات لولاها لما أمكن التلفزيون أن يستكمل هيمنته..كل الثورات ممكنة ومفكّر فيها إلاّ الثورة على التلفزيون لأنها تشكّل الثورة الصعبة في تاريخ البشر والتي تحيل على تراجيديا قتل الأب..بالنسبة للمشاهد البسيط فإنّ الإحالة على التلفزيون تكتسي طابع التسليم للمرجعية الكبرى: لقد ذكرت في التلفزيون، جاءت في التلفزيون،أخبر بها التلفزيون..ثم بفعل هذا التثبيت لمرجعية التلفزيون أصبح من الصعوبة بمكان أن يتعاطى المثقف مع التلفزيون كمثقف بل فقط كمقنع للمشاهد بحسب الشروط التي تخضع لها عملية صناعة وهم الوعي بالعالم والأشياء..هذا المشاهد البسيط هو الذي يمثّل الجمهور العريض الذي قد يحدث تحوّلا كبير من خلال صناديق الاقتراع، مما يعني أنّ التلفزيون قد يصبح خطرا على الديمقراطية نفسها وعلى الحريات..الفكرة نفسها تقررت عند بورديو وكل من تأمّل سيرة التلفزيون لا سيما وأنه الوسيلة الأكثر حضورا وانتشارا بالمقارنة مع الصحافة المكتوبة..بل إنّها الوسيلة الأكثر حضورا وقربا من عملية تشكيل الوعي الجماهيري..لقد أمكن الحديث عن قاعدة أساسية لفهم ظاهرة الباترياركية التلفزيونية، وهي أنه بالإمكان فهم المجتمع من خلال الخطاب التلفزيوني: نمطيته، شيفرة اللاوعي الجماعي، قدراته الاستيعابية على مستوى التمثّل، ذوقه، ممكنات انحطاطه، ما يقال له وما لا يقال ومالا ينبغي قوله إن قيل كيف كان سيقال،همومه واهتماماته…التلفزيون هنا حالة مرآوية يكتشف بها المشاهد هويته..تستمر الأبوية ويستمرّ معها التحيين المستمر للمرحلة المرآوية من منظور جاك لاكان..الهوية الممنوحة باستمرار والآتية من الخارج لا التي تنيثق من داخل الخبرات الذاتية وصلتها بالعالم..الهوية الممنوحة من قبل التلفزيون هو شكل من القهر الأنطولوجي الذي يساهم في مفارقة نمو قدرات عقلية داخل شروط من المعقول المعيق لثورة العقل الكبرى..إنّ الكائن في حالة وهم بالوعي ووضعية سرنمة(somnambulism)دائمة..والواقع أن هناك من يتحدث عن متطلبات المشاهد وكأنه هو من يفرض شروطه على الصناعة التلفزيونية، ذلك لأنّ الحقيقة هي أنّ هناك متطلبات صناع الوعي الزّائف وما يتوقّعونه من هذه الصناعة في ضوء إدارة تقنية لما إسميه: تدبير الجهل عبر تقنية الإقناع وخلط السياقات بخفّة ساحر، لأنّ العقل الجماعي أبطأ من أن يلتقط التحوّل الذي يمنحه السياق لحقيقة من الحقائق..وتتجلّى هذه القضية في مجال الأخبار وكيف يعمل التلفزيون على احتواء الرأي العام في نسق أخباري مرهون بأجندة تتحكم من الخلف بالصناعة التلفزيونية..وفي هذا الإطار وإذا غاب هذا الوعي بالخداع التلفزيوني الأبوي الذي لا يعترف برشد المشاهد، فإنّ التلفزيون يستطيع أن يستعمل النقيض نفسه في تثبيت شرعية ومصداقية رسالته، حينما يعمل التلفزيون على التطبيع مع المحلل السياسي النقيض والذي يمنحه شرعية البقاء وشهادة زور بجدية رسالته الإعلامية..إنّ الوعي بالسياقات التي يعمل على أساسها التلفزيون هو وحده من يمنح إمكانية معرفة ما يجري داخل هذه اللعبة..صحيح أن التلفزيون ككل منشأة رأسمالية يستعين بطابور احتياطي ضاغط، ولكنه أحيانا يلعب على علم نفس “البوز” لمقاومة الفراغ الذي قد تسببه ثورة المثقف على التلفزيون..قد تكون الرغبة اللّنهاية للمثقف هي أن يقول شيئا مفيدا من دون شروط تقيّده أو ترسم له معالك طريق الكلام أو تغتصب رأيه عند منعطف ما يزيد في سوء الفهم والإلتباس، تقنيات يصار إليها تحت طائلة المهنية لكنّها في الواقع تساهم في توسيع دائرة الوهم بالوعي..هذا الوهم هو حصيلة تكامل أدوار بين التلفزيون والمشاهد وحتى المثقّف الذي يمارس شكلا آخر من الخضوع..الثّورة على التلفزيون هي الثورة الكبرى المنتظرة، وهي على خطورتها تظلّ رهانا من خلاله يستطيع الذهن البشري الانفتاح على إمكانياته الأخرى: المدى العقلي المستبعد..

ما يحدث اليوم في عصر لثورة المعرفية ومجتمع المعرفة هو أنّ هذه الأخير تنمو باضطراد على هامش التآمر على الذهن البشري لكي تكون له القدرة على التعايش مع المغالطة والاكتفاء بوهم الوعي الذي به نحيا..تبدو وسائل ووسائط التواصل جزء من لعبة هذا الاستبدال من الوعي بالوهم إلى وهم الوعي..ثمة مفارقة كبيرة لا بدّ من أن نقف عندها ونحن نعالج مأزق الوعي في سياق الثورات العلمية الكبرى: أنّ العقل المعاصر ينمو بشكل كبير من حيث قابليته للفهم، غير أنّه في واقع الأمر لا زالت إرادة التعقّل مشوبة بأوهام ابتكرها العقل نفسه: العقل ضدّ العقل..أو لنقل على أساس تصنيف أندري لالاند: عقل منتظم ضدّ عقل منظّم..بنية تحاصر العقل بشروط المعقول..المعقول هو تعبير عن موقف عقلي مشروط بعنايات عرفية وتاريخية معيّنة، لكن العقل أحيانا يظهر جنونا مفتعلا ليربك بنية المعقول حين تستنفذ أغراضها..وظيفة التلفزيون الأساسية هي إعادة إنتاج اللاّمعقول بشروط المعقول..هو الكائن الذي وجب التعامل معه بنزعة إحيائية..هو الكائن الذي يخاطب اللاّوعي باستمرار..ثمة ما يمكن أن نسمّيه بالميديا-باترياركية التي يمثلها التلفزيون..ولقد عوضت هذه الصناعة حادثة قتل الأب بالمعنى الفرويدي للعبارة..التسليم الجسدي والروحي للتلفزيون بتعبير بيير بورديو..هذا الأخير الذي لا يكتفي بالصورة وحدها بل يودع الصورة تفسيرا، باعتبار الصورة وحدها غير ناطقة بل لا بد من وجود تفسير ما حسب بورديو أيضا..غير أنّنا نجد الأمر هنا صحيحا إذا وسعنا من مفهوم الإشارة والتفسير..كلام بورديو قد يفهم على نحو خاطئ إذا لم نؤكّد على طبيعة وشكل هذا التفسير الذي يرافق الصورة..وفي نظري أنّ وضع الصورة في سياق زمني معيّن هو تفسير تضمّني للصورة حتى لو لم يرافقها كلام..بهذا نستطيع أن نفهم ونوافق بيير بورديو بخصوص الصورة ومعنى الصورة المجردة..وتأجيلا لمعالجة هذه الإشكالية نود التركيز على دور التلفزيون في تغيير أولوياتنا..سألفت النظر فقط للأولويات التي تخصّ الحياة السياسية العامّة..هذا الجهاز الإخباري هو في الحقيقة يشغل فضاءنا كلّه ويعيد نظم الأشياء بطريقته وعرضها على فاهمة تحمل القابلية لتمثّلات لولاها لما أمكن التلفزيون أن يستكمل هيمنته..كل الثورات ممكنة ومفكّر فيها إلاّ الثورة على التلفزيون لأنها تشكّل الثورة الصعبة في تاريخ البشر والتي تحيل على تراجيديا قتل الأب..بالنسبة للمشاهد البسيط فإنّ الإحالة على التلفزيون تكتسي طابع التسليم للمرجعية الكبرى: لقد ذكرت في التلفزيون، جاءت في التلفزيون،أخبر بها التلفزيون..ثم بفعل هذا التثبيت لمرجعية التلفزيون أصبح من الصعوبة بمكان أن يتعاطى المثقف مع التلفزيون كمثقف بل فقط كمقنع للمشاهد بحسب الشروط التي تخضع لها عملية صناعة وهم الوعي بالعالم والأشياء..هذا المشاهد البسيط هو الذي يمثّل الجمهور العريض الذي قد يحدث تحوّلا كبير من خلال صناديق الاقتراع، مما يعني أنّ التلفزيون قد يصبح خطرا على الديمقراطية نفسها وعلى الحريات..الفكرة نفسها تقررت عند بورديو وكل من تأمّل سيرة التلفزيون لا سيما وأنه الوسيلة الأكثر حضورا وانتشارا بالمقارنة مع الصحافة المكتوبة..بل إنّها الوسيلة الأكثر حضورا وقربا من عملية تشكيل الوعي الجماهيري..لقد أمكن الحديث عن قاعدة أساسية لفهم ظاهرة الباترياركية التلفزيونية، وهي أنه بالإمكان فهم المجتمع من خلال الخطاب التلفزيوني: نمطيته، شيفرة اللاوعي الجماعي، قدراته الاستيعابية على مستوى التمثّل، ذوقه، ممكنات انحطاطه، ما يقال له وما لا يقال ومالا ينبغي قوله إن قيل كيف كان سيقال،همومه واهتماماته…التلفزيون هنا حالة مرآوية يكتشف بها المشاهد هويته..تستمر الأبوية ويستمرّ معها التحيين المستمر للمرحلة المرآوية من منظور جاك لاكان..الهوية الممنوحة باستمرار والآتية من الخارج لا التي تنيثق من داخل الخبرات الذاتية وصلتها بالعالم..الهوية الممنوحة من قبل التلفزيون هو شكل من القهر الأنطولوجي الذي يساهم في مفارقة نمو قدرات عقلية داخل شروط من المعقول المعيق لثورة العقل الكبرى..إنّ الكائن في حالة وهم بالوعي ووضعية سرنمة(somnambulism)دائمة..والواقع أن هناك من يتحدث عن متطلبات المشاهد وكأنه هو من يفرض شروطه على الصناعة التلفزيونية، ذلك لأنّ الحقيقة هي أنّ هناك متطلبات صناع الوعي الزّائف وما يتوقّعونه من هذه الصناعة في ضوء إدارة تقنية لما إسميه: تدبير الجهل عبر تقنية الإقناع وخلط السياقات بخفّة ساحر، لأنّ العقل الجماعي أبطأ من أن يلتقط التحوّل الذي يمنحه السياق لحقيقة من الحقائق..وتتجلّى هذه القضية في مجال الأخبار وكيف يعمل التلفزيون على احتواء الرأي العام في نسق أخباري مرهون بأجندة تتحكم من الخلف بالصناعة التلفزيونية..وفي هذا الإطار وإذا غاب هذا الوعي بالخداع التلفزيوني الأبوي الذي لا يعترف برشد المشاهد، فإنّ التلفزيون يستطيع أن يستعمل النقيض نفسه في تثبيت شرعية ومصداقية رسالته، حينما يعمل التلفزيون على التطبيع مع المحلل السياسي النقيض والذي يمنحه شرعية البقاء وشهادة زور بجدية رسالته الإعلامية..إنّ الوعي بالسياقات التي يعمل على أساسها التلفزيون هو وحده من يمنح إمكانية معرفة ما يجري داخل هذه اللعبة..صحيح أن التلفزيون ككل منشأة رأسمالية يستعين بطابور احتياطي ضاغط، ولكنه أحيانا يلعب على علم نفس “البوز”(buzz) لمقاومة الفراغ الذي قد تسببه ثورة المثقف المحتملة على التلفزيون..قد تكون الرغبة اللّانهاية للمثقف هي أن يقول شيئا مفيدا من دون شروط تقيّده أو ترسم له معالك طريق الكلام أو تغتصب رأيه عند منعطف ما يزيد في سوء الفهم والإلتباس، تقنيات يصار إليها تحت طائلة المهنية لكنّها في الواقع تساهم في توسيع دائرة الوهم بالوعي..هذا الوهم هو حصيلة تكامل أدوار بين التلفزيون والمشاهد وحتى المثقّف الذي يمارس شكلا آخر من الخضوع..الثّورة على التلفزيون هي الثورة الكبرى المنتظرة، وهي على خطورتها تظلّ رهانا من خلاله يستطيع الذهن البشري الانفتاح على إمكانياته الأخرى: المدى العقلي المستبعد..يتأكد من كلّ هذا أنّ التلفزيون وسيط غير وفيّ للحقيقة..وسيلة تآمر على الوعي..غريب لا زال بمثابة لغز..هل تحسب أنك تدرك حقيقة التلفزيون؟ إن الوهم بمعرفة التلفزيون هو شكل آخر من وهم الوعي بما يستعبدنا ويحرس حثالة الثقافة والوعي المستعاد على مدار نبض الوجود الجماعي الذي هو أدنى اليوم من كلّ أشكال ومراتب الوجود التي تعي على الأقل مرتبتها في الوجود ولم تبتكر شيئا يغالط أو يقيّد من معنى وجودها الممتد والمحتمل..أعلن أن التلفزيون هو في صدارة الأزمة الأنطولوجية في عصر الميغا-مغالطة..

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *