الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / ألغرباء: أمريكا والصهيونية وخيارات الجحيم

ألغرباء: أمريكا والصهيونية وخيارات الجحيم

الغرباء:

أمريكا والصهيونية وخيارات الجحيم

أحمد حسين

يبدو الجو غائما كليا على حلبة التطورات العالمية. هناك إحساس مقلق بأن كل شيء موجود في قبضة التصعيد. إحساس ليس سببه اكتئاب الأمزجة مع قدوم الخريف، فالخريف لم يأت هذا العام. ترك الساحة كليا للصيف، وخسرنا تجربة الشجن الدافيء لصالح التجربة الممتدة مع العرق. ومع ذلك كان الخريف حاضرا في اكتئاب النفس والعقل طيلة الشهور الأخيرة، وكأننا نعيش خريفا عالميا لا شأن له بالفصول.

يمكن أن تقول عن أمريكا ما تريد وسيكون ذلك صحيحا، لأن أمريكا ما تزال هي سيد العالم وتسيطر على فصوله ومناخاته وطقسه وتسونامياته في السياسة والحرب والإقتصاد والثقافة. كل سكون وحركة للشر هي فعل أمريكي. وحينما تكون أمريكا هي المركز الإداري للعالم في كل الشؤون الجارية، فمعنى ذلك أن العالم، كما يقال، يعيش على كف عفريت، أي على موعد مع الكارثة.

لم يعد في هذا العالم من لا يدرك أن أمريكا فاصل تطوري خطير في تاريخ البشرية قد يودي بها. فأمريكا في حقيقة التفكيك الواعي لم تعد جزءا من واقع البنية العالمية، بمدى ما ترى نفسها داخل واقع أمريكي للوعي الخاص، يتناول كل الأخرين من موقع التنصيب الذاتي للسيادة الشاملة. وليس في هذا ما يعتبر خروجا على متاح القوة في تبني مكافئها من الطغيان، ولكن السوية في الرؤية معدومة تماما في حالة أمريكا، إذا اعتبرنا أنه ما يزال هناك عرف بشري عام، عمل كل طغاة التاريخ على التظاهر به. كان الطاغية يحمل داخله حسا من الفروسية الواهمة، يجعله يحاول دخول تاريخ العظمة من باب القيمة والإنجاز الحضاري. ولكن المشاهدة التاريخية والعقلية تثبت أن أمريكا كنمط بشري، هي شذوذ تطوري كان يجب على تراثيي السوية الحضارية الإنتباه إليه مبكرا. فالتاريخ الأمريكي بشذوذه التأسيسي المرعب، وعيناته الدموية المنتدبة أوروبيا، والوفرة الهائلة التي هيأت الثراء الأسطوري لتلك العينات، كان يحتم نتائج تطورية مختلفة، ومخالفة تماما لتجارب التطور التاريخية، التي تعرضت لها الجماعات البشرية الأخرى. فأمريكا، نشأة وتطورا بشريا، سياق لمسوخيات من الصدف والملابسات التكوينية، تمخض عن جماعة منبهرة بذاتها، تُُرجع إنجازاتها إلى خاصية تفوق نمطها التاريخي المميز. هذا النمط يقوم على الإقدام البراغاماتي السهل المتحلل من أي تردد إنساني أو حضاري. وهو نمط من المفروض والمتوقع أن يحقق أية رغبات عملية مريضة، لا يمكن أن تثير أي إعجاب أو فخر لدى الناس العمليين الأسوياء، الذين يقيمون الأخلاق بفتور واضح، ولكنهم يعلمون أنهم يستفيدون من نظام العلاقات الأخلاقية أكثر من غيرهم، في عمليات النصب الإجتماعي التي يمارسونها. ولكن وعي الأمريكيين ناصعي البياض، أو أصحاب الألوان الهجينة على حد سواء، يقوم على أن اختلاف وعيهم عن وعي الآخر، هو سبب قوتهم وتفوقهم. وهذا الإختلاف جوهره الجريمة الناجحة، والإقدام على تجاوز أي قيمة لا تملك تبريرا عمليا. فالجريمة إذن هي مجرد مصطلح تحول إلى قيمة عملية حينما أثبت نجاعته الحاسمة في التاريخ الأمريكي الأبيض.

أما بالنسبة للتاريخ الملون فهو هامش للتاريخ الأبيض، الذي رفض استعباد الهنود الحمر، مفضلا قتلهم جميعا ما دام وجودهم في المشهد القادم سيكون إشكالا لا لزوم له. والملونون في أمريكا سواء الذين استجلبوا بالإختطاف كعبيد مملوكين أو أولئك الذين اجتذبتهم الوفرة والمغامرة، وسهولة استغلال الثقافة الغريزية، في سوق التواجد الأمريكي، أصبحوا رعاعا يعيشون في الزوايا المعتمة للجريمة المنظمة. فهم، بواقع الحال، يشكلون خصوصية أخرى داخل الخصوصية الأمريكية العامة ( البيضاء ) تجعلهم مملوكين معنويا، لمركب النقص في أمريكيتهم وبدون استثناء، حتى ولو كانوا، لأسباب عملية، موظفين غير سياديين في النظام. ومن الطبيعي أن يحملهم ذلك على محاولة التأكيد على أمريكيتهم بكل طرق النفاق للنظام وللذات. ويكفي أن نعطي مثلا على ذلك بأشخاص مثل كونداليسا رايس أو باول أو رايس الجديدة أو كل موظفي الإدارة الأمريكيين من السود والملونين. فهم يبدون وكأنهم يريدون أن يقولوا من خلال مواقفهم العنصرية المتشددة والمضحكة: ” يمكن الطعن في ألواننا، ولكن لا يمكن لأحد الطعن في كوننا أمريكيين مئة في المئة “. لذلك فهم أيضا صهيونيون بالتلقائية وعدم الفهم لكون النظام صهيونيا. ولن أنسى كونداليسا رايس ” عفوا، لا أستطيع أن أقول السيدة، فهذا لا أخلاقي، وليس بسبب لونها بالطبع ” وهي ترفض أن تساوي بين حالة تفحم مئات الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين بالنابلم الإسرائيلى، وحالة طفل إسرائيلي أصيب بالذعر من صوت الإنفجارات. فإذا أضفنا إلى مركب النقص، ألفلسفة الآبائية للبيض ” النجاح ليس بحاجة إلى تبرير، وإنما الفشل هو الذي يحتاج إلى ذلك “، وحاجة العبيد السابقين إلى الكبرياء والتجاهل، أمكننا فهم أننا أمام أناس يعتقدون بإخلاص أن من حقهم أن يكونوا عنصريين رغم ألوانهم، لأن كونهم أمريكيين يلغي إشكالية اللون في العلاقة مع غير الأمريكي. لذلك يمكن القول أيضا أنهم عنصريون متشددون بسبب ألوانهم ورغما عنها. فهم بوضعهم السيكيولوجي أقرب إلى تيار العولمة المحافظ الذي يجعل منهم رعاعا عالميين من الدرجة الأولى بحكم كونهم رعاعا أمريكيين. ومن الطبيعي أن يكونوا أكثر الفئات ميلا إلى فلسفة النمط المتحلل، بحكم أهمية الإنتهازية لنموذجهم الرعاعي الرث، كطبقة تعيش خارج رعاعية الثقافة السيادية الطبقية. فهاجس التراتب الطبقي في أمريكا من القمة حتى القاعدة هو هاجس فردي، أي رعاعي أيضا، ولكنه مخصخص عرقيا وماليا ومافيويا، ولكن ليس اجتماعيا.

ولذلك فإن التناول الطوباوي لأمريكا وكأنها دولة عادية، قاد الكثيرين من الباحثين إلى التورط في “العادية الأمريكية” إلى حدود الضياع. فقد اضطر المرحوم إدوارد سعيد إلى اعتبار أمريكا حواضرية أوروبية، بل مركزا لغرب حواضري، بل المركز الحواضري العالمي الذي يجب على العالم الثالث أن يبحث عن تطابقه التكاملي معه. هؤلاء الباحثين، لم يخطر ببالهم أن الأمر لا يمكن أن يكون بمثل هذه العفوية والإستسهال. وأنهم أمام قضية مركبة لحدث مفاجيء وغير نمطي تاريخيا، يستوجب أن يكون له نمطه الوعيوي الخاص. وأن افتراقه عن العادية هو افتراق جوهري، بحكم العينات البشرية غير العادية ابتداء، التي هرولت إلى البلاد التي قذفت بها الصدفة، وبحكم الملابسات الرهيبة التي رافقت سيطرتهم عليها. وما نتج عن ذلك من تحولات اسطورية في حياة أولئك المغامرين العدميين من حثالات اجتماعية يائسة في المصدر، إلى ملاك أراضي وعبيد وأثرياء، كأمريكيين. فإذا صدق فرويد في أن التجربة تتحول إلى جينة باطنية تتحكم في السلوك، فكيف يمكن توقع جينة عادية من أناس خرجوا من تجربة ملوثة بالدم والذهب؟ وكيف يمكن توقع أن السيطرة على حياة وموت الأخر لا تقرّب من نمط الألوهية في السلوك وتقييم الذات؟

إهمال قضية ” النمط ” التي تجمع كل الجماعات الأمريكية في ” الولايات المتحدة “، في إطار واحد من الهلوسة الجماعية، التي حولت النمط إلى ديانة، والناس في أمريكا إلى طائفة من طوائف الوعي الخاص الموحد، هو استحالة منطقية وتجريبية. والقفزة النشوئية الفظة والدموية بامتياز للتجربة الأمريكية غير العادية، والإنجاز الخرافي للجريمة التي نقلت ملكية أغنى بلاد العالم إلى أيدي فئة فقيرة أو معدمة قيميا بالأصل، لابد أن تخلق نمطا جينيا مختلفا للسلوك لدى أولئك. وبحكم أن كل ذلك قد تم خارج التاريخ وفي عزلة عن الإحساس بأي مكان غير مسرح الجريمة الذي كان كوكبا آخر وافدا إلى المكان، عليه أناس من خارج التاريخ، فمن الملزم أن تبدو التجربة كوسموبوليتة تشمل عالما منفردا، تم فيه تحول انقلابي محلّّي أسفر عن استبدال هنود حمر بهنود بيض. عندها يمكن فهم كوسموبوليتية النمط الأمريكي المختلف، الذي يهدد نظرية التاريخ والمجتمع والقيم التي اخترعتها الإنسانبة كما اخترعت الدواء لتجعل حياتها ممكنة وجميلة على هذا الكوكب. ويمكن أيضا فهم لماذا يبدو الأمريكان وكأنهم غزاة من كوكب آخر، يضعون أمريكا في ناحية وبقية العالم في ناحية أخرى. وحينما ينطلق الناس الطيبون في العالم، أمثال إدوارد سعيد، من تلقائية المكان المشترك مع أمريكا ( العالم )، فلأننا، غير الأمريكيين، نمط مملوك للطيبة التي ثبت أنها لا تجوز مع النمط الأمريكي المختلف.

صحيح أن النخبة التنفيذية في أمريكا هي طغيانية سيادية بيضاء وأنجلوسكسونية، وأنها تتظاهر بالأدب مع أوروبا بشكل خاص، ولكنها تتعامل أيضا مع ملونيها بنفس الطريقة. فهل يدل هذا التظاهر على جوهر الدخيلة الأمريكية؟ لقد أطلق بوش الأمريكي الأصلاني على أوروبا ” غير الأمريكية ” لقب العجوز. كانت فلتة لسان، أي أنها قادمة من أعماق الوجدان الأنفصالي والمتعالي والمختلف للأمريكي الأصلاني، الذي يمثل شمولية النمط تجاه أي آخر. وفلتة اللسان تلك هي ذات قيمة توثيقية عليا، تظهر كيف ينظرالرعاع الأمريكيون السياديون والناصعو البياض من المحافظين الجدد، إلى البيض من غير الأمريكيين. أما النمط الأستحلالي، فقد قامت أمريكا بتطبيقه على أوروبا، حينما وقفت تتفرج لسنوات، في الحرب العالمية الثانية التي أثارتها بنفسها، على أوروبا وهي تخوض حرب التدمير الذاتي، لتخرج منها كالجدي المشوي إلى مائدة المخلص الأمريكي من النازية. والآن فإن أمريكا وحليفتها الصهيونية، تتحكمان في الساحات الأوروبية المنهكة والمذعورة حتى اليوم، وبوسائل غير مشرفة يبدو أنه لا فكاك للسيدة العجوز منها. وليس العقل بحاجة إلى إنهاك بديهته ليعلم أن تلك الحرب اشتملت على محرقتين، محرقة النازيين ضد اليهود، ومحرقة أمريكا ضد أوروبا. بهذه الطريقة الحكيمة استطاع طرفا الإختلاف عن العالم أن يحكما فرنسا بشخص من نوع ساركوزي، وبريطانيا ببلير وخلفائه، وألمانيا بامرأة فاشلة.

أما على المستوى الداخلي، فقد قام النمط بتحرير العبيد في مزارع الجنوب، لاستعبادهم في مصانع الشمال. وكانت ظروف حياتهم في عهد الحرية أسوأ بكثير من معاناتهم في عهد العبودية، وفضل الكثيرون منهم الفرار من الحرية والعودة إلى أسيادهم الجنوبيين.

لقد طرحت أمريكا نفسها بوضوح تام للعالم أكثر من مرة، من خلال ممارساتها على كل الساحات العالمية. ووصل بها الأمر إلى التعامل علنا، مع سيكيولوجيات البشر وليس مع عقولهم أو ثقافاتهم. لقد هيأت ظرفا نوعيا شاملا على مستوى العالم، أصبحت من خلاله تدير العالم المنهك، تلقائيا. فهي تملك، وبدون تحفظ، سيطرة تامة خالية من أية ثغرات على ” الشرعية الدولية “. وهو الإسم الذي اختارته لمجموعة آلياتها الذاتية والدولية، في فرض سلوك عولمي أمريكي على العالم. وآلياتها الذاتية ليست بحاجة إلى تعريف أكثر من القول أنها بمجموعها تشكل القوة الأعظم التي توفرت للشذوذ في أية تصورات مريضة. هذه الأليات نجحت في تحويل حياة شعوب الأرض إلى كابوس متواصل. وفرضت على سيكيولوجية العالم الخوف والإنبهار والتسليم الإمتثالي بنموذج النمط كبديل عن المعرفة. لقد أرغمت العقل البشري النخبوي على التوغل في التجاهل، حتى لا يتوغل فيما هو أسوأ، ويجد نفسه أمام حقيقة أنه وكل البشرية معه، في موقع الهندي الأحمر أمريكيا، وأن أمريكا جادة في استنساخ هذا المشهد في علاقتها بالآخر في حدود حاجات مشروعها النهائي لصورة العالم الأمريكي. يمكن عدم التصديق طبعا، وهو على كل حال أفضل من التصديق، على أساس إبقاء فسحة ولو صغيرة للتوهم بالحد الضروري لشيء من راحة البال.

أما الآليات الدولية فهي كل المؤسسات الدولية العامة التي أنشأتها أمريكا في أعقاب الحرب العالمية، مضافا إليها معظم أنظمة العالم. فبالنسة للأولى لا تسمح حتى السذاجة بالإعتقاد أن الأمم المتحدة بكل مؤسساتها ولجانها وموظفيها ليست فروعا لمشروع الأمركة العالمي. لقد تحولت هذه المنظمة إلى آلية قمع بيد أمريكا لمطاردة الدول التي تخرج على إجماع الشرعية الدولية، أي الإجماع الأمريكي الصهيوني. أما سكرتيرها العام فهو ليس سوى ناطق باسم ” الديبلوماسية ” الأمريكية في العلن، بينما هو في الحقيقة يدير نشاطات المؤسسات واللجان،التي

تضع لها السي آي أي أجنداتها التخريبية الدولية، في خلق الإشكالات، التي تمهد لتدخل الشرعية الدولية، في بلدان العالم المستهدفة بالعقاب، أو النهب، أو التدمير المعنوي بالحروب الأهلية والبينية والمجاعات ونشر الأوبئة. وملخص الحقيقة أن كل الناس في عالمنا، أصبحوا رعايا لأمريكا طوعا أو رغما عن أنوفهم. فلا يوجد أي مطبخ سياسي، أو اقتصادي أو ثقافي، رسمي أو شعبي، في أي بلد من بلدان العالم، خال من الصراصير الآلية لأمريكا. وتعتبر الديموقراطية وحقوق الإنسان، صاحبة الدور الدموي الأكبر في نهج الإستهداف الأمريكي للأخر، باعتبار أنها تجاوز نظامي نمطي لمفهوم الحرية التاريخي والإجتماعي، سيؤدي حتما إلى سقوط فكرة المجتمع نهائيا، واستبدالها بالتجمعات الرعاعية العالمية، التي تعتقد أن النمط هو النظام النهائي البديل، عن الفوضى الإجتماعية التي كانت تسود العالم.

ومن المشاهد المسلية أن أمريكا قد بلغت حدا من الإنجاز السيادي، أنها أصبحت تخوض الحروب ضد مجمل العالم وترغمه على دفع تكاليفها. والبلد الذي يرفض أن يلائم نفقاته أو سلوكه الإقتصادي مع حاجات محاربة الأرهاب ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تديرها أمريكا، يعرض نفسه وبلاده للعقوبات التي تتعدد أنواعها وتتفاوت حدودها. لقد تم تدمير البنية العراقية تدميرا جوهريا، ودفع العراق ويدفع تكاليف هذا الدمار الذي لحق به مضاعفة عدة مرات، من نفطه لتحقيق وعي الديمقراطية وحقوق الإنسان. وحينما أفشل الجمهوريون نظرية النفاق السياسي الإقتصادية لأوباما، في توسيع الطبقة الوسطى من الأطراف أي من مناطق المحاذاة شبه الفقيرة، على حساب رأسالمال المؤجر والمتراكم في مصارف وبنوك الإفقار المحلي والعالمي، بدأ أوباما جولته الآسيوية في الإبتزاز المالي والإقتصادي والسياسي، لدعم فقراء أمريكا الأغنياء على حساب فقراء العالم الثالث الجوعى. ومع ذلك فالمشكلة ليست هنا من حيث الخطورة، لأن معظم الأنظمة الأسيوية ” الغنية ” هي وكالات نهب أمريكية داخل شعوبها وأوطانها، أو أقل من ذلك بكثير في بعض الحالات، وستمتثل لكل ما يريده أوباما منها. ألمشكلة في كون تيار العولمة التقليدي الأمريكي، قد استرد عافيته العدوانية وقرر العودة إلى نهج البوشية الذي يشكل أقصر الطرق لإزالة كل الإشكالات الميدانية التي تعترض مشروع أمركة البنية العالمية. ولعل ما يكمن وراء هذا التحول يعود إلى عاملين مركزيين أحدهما داخلي والآخر خارجي.

العامل الأول هو أن الجمهور الأمريكي أثبت بأنه لا يقل ميلا إلى التطرف والعنصرية والعنف عن تيار الأمركة المحافظ، لأسباب تاريخية نمطية وسيكيولوجية تمت الأشارة إليها. وأن كون هذا الجمهور مكون أساسا من عينات معظمها من المغامرين العدميين، سهل على النظام المكون من ورثة الأباء المؤسسين، أي أبطال إبادة الهنود الحمر، صهر هذه العينات في عملة ثقافية موحدة للعنف والتعالي والهلوسة الذاتية وعقل الجريمة الموروث والمكتسب. وقد قرر هذا الجمهور، الذي جرحت كبرياؤه الوطنية من الإستهانة الأيرانية بأمريكا، والذي يبدو أن الأزمة الإقتصادية الأمريكية المزعومة قد أشعرته بالخوف، أن يعيد المحافظين الجدد، أي تحالف الأصلانية الأمريكية مع الأصلانية الصهيونية، إلى واجهة السياسة الأمريكية، لأن هذا التحالف يطرح أن العمل قبل الأوان أقل خطرا من العمل بعد فوات الأوان.

والعامل الثاني الدولي، والذي لا يقل جلالا وعظمة عن مرحلة الأستيطان الأوروبي في أمريكا، هو نجاح النمط الخاص في دحر الحضارة العالمية، وتدمير كل بنى العلاقات التوافقية للتاريخ البشري، ونقل القيمة في الصراعات التاريخية من نمط التوازن،إلى نمط التبعية القائم على السيطرة المطلقة، وتطبيقا لمعادلة أمريكا والعالم، كاستراتيجية إلغاء لمشاكل التعدد الثقافي والحضاري. وقد ترتب على هذا الإنجاز الذي ما يزال جزئيا في بعض مواقع التمنع، ومشجوبا في مواقع الرفض، الكثير من العنف الدموي والسيكيولوجي والثقافي. وقد نجحت بفضل سيطرتها على الأكاديميا والإعلام الموجه والإقتصاد العالمي، في تصدير أفكار مجتمع اللاقيمة الفرداني، ونشر ثقافة العدمية وخصخصة المصالح، وتذرير الوعي، خاصة بواسطة ما يسمى طبقة المثقفين الأكاديميين في العالم. فهؤلاء هم حملة ثقافة الأمركة، إلى شعوبهم في العالم الثالث، تساندهم في ذلك الكومبرودورية التي جعلت كل مستهلكي الدول غير المنتجة عمالا في المصانع الأمريكية والغربية، أي مرتبطين مصلحيا بدورة الإقتصاد الأمريكي والغربي في بلادهم.

أما الدول ذات الطموح الإقتصادي مثل الصين، فعليها أن أن تعترف أن مشروع العولمة الإقتصادية هو مشروع تكاملي وتعاوني يتم داخل ضوابط السوق الرأسمالية الديموقرطية الأمريكية، وليس مشروعا للإكتفاء الذاتي والعزلة الإقتصادية على أساس الخصخصة الإشتراكية المنكفئة نحو الداخل، لأن هذا يعني غزوا لحقوق الإقتصادات الأخرى في مجالات السوق والطاقة، والعوائد التجارية مع حرمانها من القدرة على المنافسة المتكافئة. فالصين مطالبة بلجم اقتصادها الذي لا يتلاءم مع نفقات الإستهلاك الإشتراكي المحدودة لمواطنيها المحدودي الدخل. فإما أن ترفع سعر عملتها لترتفع الأسعار فترتفع النفقات الإستهلاكية وعلى رأسها أجرة العمل ونفقات الطاقة، وتضعف قوة المنافسة للبضائع الصينية، وإما أن يزداد الضغط على المواطن الصيني، وتفتح الثغرات أمام تدخل السي أي أيه وزميلاتها، لإسقاط الستار الصبني الحديدي، وتسقط وحدة الشعوب الصينية، كما حدث لغيرها، ويسقط معها النظام. وتجربة الأقلية التركية في الصين نموذج لتذكير النظام الصيني بما يمكن أن يواجهه. خاصة وأن الإقتصاد الصيني ما يزال هشا وشبه كومبرودوري ويعتمد على علاقات الولاء الإيديولوجي. ولعل أهم ما تعلمته أمريكا من تجربة بوش، هو خطر الرعونة واستباق نضوج المراحل. لذلك فإنها تسير بحذر نحو لجم الإندفاعة الصينية، ولا تريد مواجهة ساخنة قبل الأوان.

أما أوروبا فرغم أن السيطرة في الدول الثلاث الكبيرة، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بيد صبيان المحافظين الجدد، فإن الوعي الشعبي الداخلي، أخذ يفهم الدور الأمريكي جيدا في مشاكل بلادهم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وأخذ إلى حد بعيد يقيد من حرية أولئك الصبيان في المجالات المذكورة. وهذا يفسر الإجراءات الإقتصادية الأخيرة المثيرة للجدل في فرنسا وبريطانيا وردود الفعل الإجتماعية العنيفة عليها خاصة في فرنسا.

وفي باكستان المنكوبة بالفوائض المائية المتجمعة كما يبدو، من كل أنحاء العالم، تقوم أمريكا بمفاوضة النظام الباكستاني على شراء مخزونه النووي الصغير مقابل تقديم المال اللازم لإعادة إعمار باكستان. وسوف تخضعها في النهاية، لكي تتفرغ الهند لتخصصها الجديد في مواجهة الصين، بعد أن أصبحت كومبرودورية عسكرية واقتصادية أمريكية بالكامل.

ولكن الإنجاز الأمريكي الصهيوني الأكبر، في مرحلة التضليل الأوبامية، يظل تسليم روسيا استراتيجيا بالعولمة الأمريكية الصهيونية، بعد أن أدركت أنهما ستواصلان مشروعها بأي ثمن، وانعدام القدرة من جانبها على أية مناورة فاعلة. ومقابل هذا التسليم تم استبدال جيب التسلل الإيراني لروسيا إلى الشرق الأوسط، ببيت الضيافة السعودي الخليجي، كازينو أمريكا والصهيونية المالي في الشرق الأوسط والعالم.

يعني هذا، أن حلقة الحصار قد اكتملت حول إيران والمقاومة في المنطقة التي تعتبر درة التاج في الحلم الأمريكي الصهيوني. فبعد تنظيف هذه المنطقة من جيب ” الإرهاب الإيراني والجيوب الصغيرة الملتفة حوله ” لن يكون هناك أية عوائق أمام البدء بوضع القائمة التراتبية لمضمون العولمة الأمريكي. أما أوروبا المنافس الإستراتيجي المحتمل للأمركة، فسوف تأتي متخلفة عن موعد القطار بدقائق معدودة كما هو مخطط، وتضطر لركوب قطار التبعية المباشر.

لقد قطعت امريكا معظم الطريق لإنجاز مشروعها الخاص، ولا يفصل بينها وبين مرحلة التتويج سوى القضاء على بعض ظواهر المقاومة الشعبية هنا وهناك، وتصفية بعض الأنظمة الرافضة مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وبعض الدول الأخرى بدرجة أقل، وتطويع بعض الأنظمة المتسلقة اقتصاديا، التي تحاول احتلال أمكنة معتبرة على شجرة العولمة مثل الصين والإتحاد الأوروبي ومجمّع ميدفيدف – بوتين التجاري. لذلك يخطيء من لا يعتقد باستحالة تراجع أمريكا عن حلمها العالمي بعد كل ما تحقق لها من إنجازات , فالتراجع لا يعني سوى السقوط من مكان مرتفع جدا، يحول كل الإنجازات الهائلة إلى حالات سقوط، سوف تنهي رسالة أمريكا في تكوين صورة جديدة للوعي بإقامة ديكتاتورية النمط،التي ستحرر العالم من الدكتاتورية الأيديولوجية، وتنهي لعبة الصراع الإجتماعي من أجل حياة أفضل بين النظام والرعايا، والتي ثبت فشلها بانهيار دكتاتوريات الإيديولوجيا الإجتماعية. هكذا يرى متابعو درب الأباء المؤسسين والحركة الصهيونية، الصورة لعالم جديد، أمريكي صهيوني، بالحتم المنطقي للتفوق، وبالمؤهل النخبوي والعنصري الفريد، وترجمة أشكال القوة المطلقة التي يملكونها إلى إبداع رسولي أمريكي لا يخجلون من قياسه على الرسالة التي حملها آباؤهم المستوطنين إلى أمريكا. لقد بدأ ” الحلم الأمريكي ” العظيم مع بداية استيطان الأراضي الأمريكية. واستمر السياق الرؤيوي المبهور لهذا الحلم الذي تكون في عزلة تامة عن أية رقابة تاريخية أو نظامية أو أخلاقية، وبالإعتماد على الصراع الدموي غير المتكافيء بين السلاح الناري والحربة…… استمر هذا السياق على ذات النهج الرؤيوي الخاص، وظل عبر مراحل التطور الذاتي كلها داخل غربته عن عالم التاريخ العام، إلى أن تحول إلى بنية تطورية خاصة، لا تنتج أفكارا صالحة لاستهلاك الأخر، ولا يمكنها ذلك إنسانيا. ويعتقد الآباء الجدد ” للأمة الأمريكية ” وهم على حق أنه لا خيار أمام العالم أو أمريكا سوى استمرار تحرك قطار الحلم الأمريكي على الخط، لأن البديل عن ذلك هو عودة الإجتماعية الثورية التي ستعم العالم، إذا فشل المشروع الإمبراطوري الإمبريالي الأخير. وستعود لعبة التوازنات إلى الواجهة، ولن تكون فرص النظام الرأسمالي في هذه الحالة كبيرة، حتى ولا صغيرة بعد التجربة المريرة التي خاضها ضعفاء العالم وأقوياؤه مع “القبضاي ” الأمريكي الصهيوني. لهذا السبب فإن الذين انخدعوا بالمسرحية الأوبامية، يدركون اليوم أن انتخابه كان جزءا من لعبة تطامن تكتيكية، هدفها استرداد الأنفاس وتبديد فائض الرعونة التي اتبعها بوش مع “الحلفاء ” والأتباع قبل الأوان. وتبدو الأمور الأن وكأنها تعود إلى سابق عهدها، وأن الخطاب الأمريكي المتطامن الذي اتبعه أوباما قد استوفى أهدافه التهديئية مع الأوروبيين الذين تم إفهامهم خلال ذلك، أن الإرهاب الإسلامي يعد العدة لغزو أوروبا بالطرود المفخخة والطرود البشرية، وأن عليهم إذا أرادوا النجاة من ذلك، أن يرفعوا من مساهمتهم العسكرية في حرب أفغانستان، وأن يوافقوا على رفع كفاءة الردع لحلف الأطلسي. أي أن يوافقوا على تجديد عقد التبعية مع أمريكا، ودفع تكلفة حروبها الوقائية، وإلا كانوا عرضة للإرهاب العالمي !!

إذن فالعالم حتما على أبواب استيلاد قيصري أمريكي، لوضع عالمي لا مناص منه، يعيد إلى المشروع الأمريكي انطلاقته الشرسة. لم يعد بالإمكان السكوت أكثر على بوادر مقلقة على الساحة الدولية، مثل ظاهرة إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، وانحرافات بعض الأتباع كتركيا والبرازيل، نحو تبني الكذبة الأوبامية. لقد أكملت أمريكا الصهيونية، خلال لعبة التطامن كل استعداداتها، للهجمة الموعودة على جيوب المقاومة حول ملكياتها النفطية، بما في ذلك عقد الصفقات مع الدول المحورية خارج التحالف مع المشروع الأمريكي وداخله. واستنفار حركة الإخوان المسلمين أهم حلفائه الإستراتيجيين على ساحة العالم الثالث عموما.

ملخص القول، أنه ما دام الوعي التاريخي في العالم مصرا على تجاهل كون أمريكا ذات طبيعة بنيوية مختلفة تشكل خطرا محتما على مجمل العالم، فإن الأمور ستستمر في سياق الكارثة، الذي يستلهم العنف بمفهومه الأمريكي الصهيوني، كقيمة عملية وحيدة في الوصول إلى شكل ومضمون نظام العبودية الأرقى والنهائي في التصور. ثمن هذا الحلم لنخبتي الأختلاف في هذا العالم، أمريكا والصهيونية هو عالم فارغ من أي معنى أو قيمة عدا رياضة الأنجاز والعظمة السيادية. وهذا شيء مستحيل الإكتمال. فاقتراح الوعي الهمجي المنظم لا مبرر له في طبيعة الواقعة البشرية. ولكن البديل عن فشله المحتم سيكون الكارثة.

هل فات الوقت على إنقاذ الإنسان والحضارة، من خيارات الجحيم الأمريكية الصهيونية؟

مجلة كنعان الألكترونية

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *