الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / آخر ثورات التحرر في العالم العربي

آخر ثورات التحرر في العالم العربي

من مظاهرة شباب الثورة في ميدان التحرير يوم الجمعة 19 آذار (الفرنسية)

آخر ثورات التحرر في العالم العربي

أحمد حسين

أصبح من الصعب تجاهل ما يجري في مصر وتونس. أمور تبعث على الأمل، وأخرى تبعث على القلق. شعب ” يصر على مطالبه “، مقابل “جهات ” تتهرب من “تحقيق مطالب” الشعب.

هذه ليست المعادلة الثورية التي تشكل مشهد استيلاء الشعب على السلطة. إنها تبدو معادلة لإشكال بين نظام يسيطر وشعب يطالب. تراجع سلس نحو تركيب ذات المعادلة التي كانت قائمة حينما اندلعت الثورة الشعبية. كلام مطمئن، ووعود تقطع، وحكومة تقال وأخرى تقام، ومبادرات خفية تدفع إلى إعلان انتصار الثورة، أي انتهائها، ووضع ينتقل فيه زمام المبادرة من الثورة إلى مؤسسات من مؤسسات النظام القديم. وفي خلال ذلك يلتحم الغرب وأمريكا مع المشهد بالتدريج، من خلال وزير خارجية مبارك، أحمد أبو الغيط، أسوأ وأخطر وزير خارجية عرفته الساحة بعد حمد القطري. وأيضا خلال ذلك كله، يعمل ثلاثي الديموقراطية والحقوق العادلة وحماية أمريكا للشعوب، التي أعلنتها كلينتون، على اختلاس المشهد كله بعد إزالة “الشوائب ” عنه.

انتصار الثورة يعني، انتقال السلطة إلى الشعب بآليات مؤقتة في التعيين ودائمة في النوعية، ولا يمكن الفصل بين الثورة ونظامها المؤقت الذي سيقود التغيير الثوري لأن الثورة بنية سياقية واحدة. لا يمكن للحظة الإنتصار أن تعيش في لحظة النظام الذي انتصرت عليه، ولا يعقل ثوريا أن يعيش النظام الساقط في لحظة الثورة. وحتمي في حالة انتصار الثورة نهائيا، ألا يظل على الساحة أحد أو قوة يمكن مخاطبتها دوليا خارج إطار العلاقات الجديدة التي تحددها الثورة. في حالة الثورة الشعبية، الدول هي التي يصبح عليها أن تعيد بناء علاقاتها على الحاصل الجديد، وليس من مهمة الثورة أن تواصل علاقات النظام السابق الدولية، بواسطة آلياته القديمة ذاتها، بدعوى إدارة العلاقات الدولية السابقة، التي قامت الثورة لإسقاطها، وليس لمتابعتها. أم أن الثورة تفصل بين المساوئ الإجتماعية للنظام السابق، وجوهر علاقاته الدولية كنظام تابع. كل نظام عميل أو تابع أو مستبد في عالمنا هو انعكاس أمريكي صهيوني بالكامل، يعتمد على علاقته بهما في حمايته سياسيا واجتماعيا ودوليا. فمن يمثل إذن أو الغيط، أو قيادة الجيش دوليا؟ هل كان تعريف العدو في التثقيف العسكري هو أمريكا وإسرائيل وبقية الشلة، أم أن تعريفه كان أن العدو هو عدو الشعب والوطن، أي عدو النظام الذي هو الشعب والوطن؟ لذلك لم يكن في نظام مبارك، أسوة بكل نظام عميل لأمريكا وإسرائيل، سوى وزارتين هما الدفاع والخارجية. ما تبقى كان إقطاعا للحاشية من اللصوص والمرتشين.

وفي تصوري، أن الثورة الشعبية في مصر، تحاول الإجتهاد في علاقتها بالجيش. والإجتهاد الشائع أن الجيش يريد حماية الثورة، وهذا يعني في النهاية أن الثورة هي التي تحمي الجيش وتمنحه فرصة الإلتفاف عليها. ما هو لازم في حالة الثورة هو النبل الثوري، وليس النبل الطوباوي. ألنبل الثوري هو التزام الثورة بحماية نفسها من أعدائها قبل كل شيء، ثم ولاءها الوحيد واللا محدود للشعب، لأنه عقل الحرية والتحرر النوعي، لا يظلم ولا يخطيء. أما النبل الطوباوي فهو الثقة المجانية، بدون إجازة من اليقين العقلي. وموقف الثقة من قيادة عسكرية كانت أهم آليات النظام، وأكثرها اتصالا مباشرا بأمريكا، غير مبرر التباسيا أو عقليا، ولا يعني غير نوع من الشهامة الرومانسية التي تخلط بين وزير الدفاع ورؤساء الأركان من ناحية، وبين الضباط وضباط الصف والقواعد المقاتلة من ناحية أخرى.

أما ما يثير الأمل، فهو ذلك الأداء الشعبي والنخبوي المعجز، الذي قهر كل حواجز التردد أو التلعثم، في سياق الهبة العارمة. إن هناك من الدلائل، ما يوحي بأن سياقا موازيا من البناء الثوري داخل الثورة هو الذي سيحسم كل ما هو للحسم في النهاية. يخيل إلي أن نوعا من تنظيم القواعد الشعبية قد حصل، وأن ثقافة النبل الثوري قد ترسخت في وجدان الجماهير العريضة. بل أعتقد بثقة غير طوباوية أن كل ذلك وأكثر منه قد حصل. قد يبرر ذلك التريث النسبي الحاصل، ولكن الخوف على الوقت الميداني مبرر أيضا. لا يمكن أن يكون هناك أهم من عامل الوقت، بالنسبة لثورة فاجأت أعدائها الكثيرين من محليين ودوليين، وأثارت تخبطهم. خاصة إذا كان أولئك الأعداء على درجة عالية من القوة والخبث الميداني، وبراغماتية الأداء. كيف يمكن عقليا أن تسلم أمريكا وحلفاؤها وإسرائيل بما حدث في مصر طوعا؟ إن خسارة الهيمنة التامة على الشرق الأوسط، درة تاج العولمة الأمريكية، وهيكل العظمة الصهيونية المأمول، لا تعني أقل من انهيار الحلم الإستراتيجي للطرفين. إنها لا تعني أيضا للشبح النابليوني في فرنسا أقل من انهيار حلم المتوسطية، الذي يراود الجندب ساركوزي الذي يدهش بقفزاته الكلامية، كبرياء العجوز غير المحتشمة سياسيا ميريكل. تحد على هذا المستوى من الخطورة لا يمكن للأطرف المذكورة إهماله، إلا إذا كانت على يقين من الفشل. وهذا لم يحدث حتى الآن، على مستوى الأوضاع المحلية في مصر، وعلى مستوى الساحة العربية، الغارقة في ضباب الإنتظار والتريث.

على الساحة المصرية، يتحدث نظام العسكر عن الديموقراطية في ثوبها الأمريكي، أي ديموقراطية التعدد التنافسي على الولاء لها، وكأن الثورة قامت من أجل إصلاح الديموقراطية وديكور النظام والتبعية. فهو يتحدث عن حكومة تمثل الأطياف السياسية في مصر، بكل إشكالاتها وبرامجها الحزبية السياسية والإيديولوجية. يا للكارثة العلوية!!! وهل كان هذا بحاجة إلى ثورة وشهداء وبلطجية وخيل وجمال أمنية؟ هذا بالضبط ما ظلت أمريكا تريده من مبارك ويرفض. إن أول بنود ديموقراطية الثورة الشعبية أن تقوم بحل الأحزاب القائمة، القادمة من القمة السياسية، ثم يعاد تشكيل الأحزاب حسب نصوص الدستور الجديد الذي يضعه الشعب، ويحرص فيه على حق القواعد الشعبية في التمثيل البرلماني. إذا كان الشعب مقسما ثوريا بين الليبرالية، واليسارية اليمينية، واليمينية اليسارية، وجماعة تدعو إلى تغيير العملة السياسية بمصر إلى دولار أمريكي، مكتوب عليه الإسلام هو الحل، فلماذا ثار؟ ألم يكن هذا هو الحال دائما؟ وما سر أن الشيخ ” بطن العجل ” جاء محمولا إلى مصر ليقول نفس الكلام؟ وما القصود أن يقوله النظام العسكري الثوري مؤقتا، سوى أن عليه مهمة فرض الإستقرار في مصر، وإعادة تشخيص النظام بكل عناصره القديمة، وحماية الثورة من البلطجية؟ أليس معنى هذا الهول، أن الثورة المصرية بحاجة إلى ثورة ثانية، وأنها إذا سكتت على هذا الكلام فستخسر ثورتها الأولى؟

وما معنى أن يقوم المحنطون الوسطيون من أمثال طارق البشري بوضع دستور للثورة؟ هؤلاء الخياطون المحترمون، مؤهلون لوضع دساتير للأنظمة، موصى عليها على مقاسات محددة سلفا، وليس لثورة شعبية، تريد أن تضع دستورها الإجتماعي التحرري. وعلى سبيل المثال هل هناك في ثورة تريد العدالة الإجتماعية وتحرر العقل والإنسان، مكان للعبة الدين السياسي؟ أم أن بسطاء الناس ليسوا جزءا من الشعب، وينبغي تحريرهم من بلطجية العجول كما تحرروا من بلطجية الخيل والجمال؟ هل ستتيح لهم الثورة وعي التفريق بين الدين وراكبيه من بلطجية أمن الفقر والغنى والصدقة ونواقض الوضوء، وتوضح لهم أن الخيل والجمال لم تكن ضد الثورة، وإنما الراكبين عليها، تماما مثل الدين؟ وأن الليبرالية والديموقراطية الطبقية، ليستا بحاجة إلى ثورة، وإنما إلى فوضى بناءة، أي حروب أهلية وطبقية يؤديها البلطجية في كل عصر.

من سيقوم بالتفاوض مع من في مرحلة إقرار الدستور؟ ما حصل من توحد ثوري عفوي بين الأقباط والمسلمين، سيقوم أي دستور غير دستور الثورة بتحويله إلى حرب طائفية أو أهلية. إن الثورة إما أن تكون كل شيء أو لا تكون. إما أن تكون مستعدة للثورة على أخطائها أو لا تكون. إنها الشعب الذي يملك مطلق الحق على وطنه وخياراته الإجتماعية والسياسية خارج أي شروط مسبقة، سوى سلطة العقل، والتجربة الإجتماعية والإنسانية المتحررة، والعدالة للجميع، التي تصنع الدستور والنظام ولا يصنعانها.

هل سيحدث ما تأمل فيه الشعوب العربية أم ما تخشاه. هذا ما ستقرره الثورات الشعبية على غرار ما سيحدث في مصر بالذات. كل ما دون ذلك باطل عقلا وشرعا.

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *