يا شام هذا المجد

يا شام هذا المجد
د. سلمان محمد سلمان

كانت أول رحلة لي خارج الأردن وفلسطين الى الشام عام 1972 حين نظمنا رحلة من طلبة الجامعة الأردنية وكنت رئيسا لاتحاد الطلبة. كانت رحلة كبيرة ولمدة طويلة نسبيا حيث زرنا دمشق والمحيط وقضينا كثيرا من الوقت في بردى والغوطة وزرنا معالم المدينة العريقة. وتزامنت الرحلة مع معرض دمشق الدولي الذي كان حدثا مميزا وحضرنا حفلة باليه روسية في جامعة دمشق. كنا في بداية حياتنا الدراسية وكنا نعتبر سوريا عنوان الثورة والصمود وقد بقيت ذكريات تلك الرحلة كالنقش بالحجر.

زرت سوريا بعد ذلك عدة مرات في الثمانينات والتسعينات ولم أزرها منذ عام 2000 بسبب تعقيدات الحصول على إذن الزيارة لفلسطيني الضفة والقطاع رغم حلها عمليا خلال هذه السنوات. يعز علينا ذلك لأننا نتوقع تسهيلات أكبر دون معاملة خاصة. فليس هناك أي مبرر لأن يحرمنا وجودنا تحت الاحتلال من زيارة سهلة للشام كما كانت الحال بالماضي.

سمعت عن الكثير من التغيير. وتعرفت على كثيرين من أبناء الشام وتزوج صديق لي من الأردن قبل سنوات من فتاة شامية أسعدت حياته بعد أن عاني طويلا من زواج أميركية تركته مع أولادها ليبدأ من الصفر. بالنسبة لصديقي كانت عروسه الجديدة إعادة اكتشاف للعالم.

حب الشام جزء منا كما نحب القدس وبيروت وعمان وبغداد والقاهرة وكل عواصم الحضارة العربية. لكن للشام موقع إضافي لأنها مركز الصمود الوحيد الذي لم يسقط في شرق العرب. فبعد بغداد تضاءلت مواقف العزة. بغداد كانت مفخرة السيف والكرم وهي تعاني الآن من فقدان وزنها في المنطقة وأملنا كبير بعودتها.

سوريا مثلت عنوان الصمود حتى لمن كرهها وعلاقة سوريا بفلسطين علاقة حب وخصام لا تنقطع أبدا. فمن جهة تعتبر سوريا فلسطين مسئولية عربية لا يحق للفلسطينيين التفرد بها ولها الحق في ذلك. لكنها لا تقوم أو لا تستطيع القيام بما يتطلبه ذلك من مسئوليات تجاه الشعب وحياته. وهكذا نجد أنفسنا نحيي موقف سوريا ونعتز به لكننا نغضب من عدم تفهمها لنا عندما نضطر للتعامل مع الواقع وما وراء ذلك. هذه التعقيدات لونت علاقة سوريا بفلسطين دائما.

بغض النظر عمن كان على رأسها تميزت سوريا بثلاث مواقف:

ـ تمسك واعتزاز بالعروبة لا يقارن بأي جهة أخرى.

ـ تمسك بمسئولية خاصة عن فلسطين تصل الى درجة التدخل.

ـ انشغال بمشاكل سوريا الداخلية بما لا يسمح للتعبير عن مسئولياتها التي تتمسك بها في البندين الأولين.

يحتج معارضو النظام في سوريا عليه بعدد من القضايا:

ـ أنه يستخدم شعار القومية العربية والمعركة ضد إسرائيل لقمع الحياة السياسية وتجميدها ضمن معادلة حزب البعث ويشككون بجدية المقاومة فعلا.

ـ تحكم جماعات محدودة ذات طبيعة طائفية مرتبطة برأس النظام بمقدرات اقتصاد البلد مما يجعله فقيرا.

ـ النظام لا يعمل على تغيير الوضعين أعلاه وإنما يستخدمهما لإطالة عمره.

ويدافع النظام عن نفسه بعدد من المواقف:

ـ أن سوريا هي الدولة الوحيدة التي قادت السفينة ضمن تيارات متصارعة وبمناورات محسوبة استطاعت البقاء دون تنازل عن أي موقف وطني عربي أو سوري.

ـ رغم ضعف مقومات الاقتصاد السوري وانخفاض الدخل مقارنة بالدول الأخرى إلا أن سوريا محدودة الموارد حافظت على درجة من الاكتفاء الوطني دون ديون وهي تأكل مما تزرع وتلبس مما تنسج.

ـ إن تمسك سوريا بفلسطين ولبنان ووحدة بلاد الشام بشكل عام له ثمن متوقع وهذا هو سبب محدودية تطبيق إصلاحات واسعة.

ـ إن ما يطلبه الغرب الاستعماري من سوريا مقابل الاندماج مع منظومته (الصلح مع إسرائيل وقطع العلاقة بإيران وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين) لا يستحق حتى النظر به لو اعتبرنا من تجربة مصر التي سارعت للتنازل وتقديم ما طلبه الغرب ووجدت نفسها بوضع مزر لا تقبله أي دولة حرة. فلا اغتنت مصر ولا حفظت كرامتها. ووجدت مصر أن كرامتها تتطلب تغيير نظامها الذي أوصلها لذلك الأمر وساعد على إفقارها لأنه مقابل تنازله للعدو كان ينهب الثروات المحدودة. ليس هناك شيء تأسف سوريا عليه بسبب صمودها الطويل. وتعتبر الصمود قدرها الذي تعتز به.

بهذه المعادلة المتناقضة تعايشت المعارضة من الشعب دون إقناع النظام بالتغيير لأنها فعلا لا تعرف تحديد الاولويات خاصة في الفترة منذ عام 2000 والتي تميزت بهجمة استعمارية لم تعط مجالا للتأمل.

ورغم حداثية الرئيس بشار الأسد ورغبته الحقيقية بالانفتاح وبحكم تجربته المعيشية في بريطانيا ورغبته بنظام أكثر حرية في سوريا. ورغم سيطرة انتمائه السوري والعربي على انتمائه الطائفي إلا انه لم يستطع تغيير الكثير خلال العشر سنوات الماضية.

أسباب صعوبة التغيير تتلخص في التالي:

ـ الوضع السياسي للإقليم والهجوم المستمر على سوريا واستهدافها منع أي تغيير جذري ضمن النظام السياسي الداخلي.

ـ التحريض الطائفي ضمن الإقليم وإثارة النعرات بين الشيعة والسنة واعتبار العلوية طائفة مختلفة عن بقية المجتمع السوري جعل الأمر أكثر صعوبة. ورغم أن حزب البعث يعتبر حزبا علمانيا لا يميز بين شرائح المجتمع إلا أن البيئة تمنع انفتاح التركيبة الحاكمة بشكل كبير خوفا على النظام من التفكك.

ـ من الصعب الوثوق بقوى التغيير من خارج النظام وهناك شكوك بانتمائها وارتباطها بأجندات خارجية.

ـ القوى الحزبية المعارضة للتغير منتشرة ضمن النظام الاقتصادي والاجتماعي والأمني بشكل كبير. وامتداد وحدانية حزب البعث في الحكم فترة طويلة شكل قصورا ذاتيا يقاوم التعددية.

موقف قوى المعارضة:

القوى المعارضة تعلن يأسها من إمكانية الإصلاح والتغيير الذاتي نحو التعددية وتتبنى حتمية تغيير النظام. هذا الموقف يلتقي مع أجندات عدة دول معادية ويناسب قوى عربية ويمثل القاسم المشترك لحركات المعارضة التي تنقسم الى قسمين: حركة الإخوان والقوى المعارضة ضمن مجموعات الشتات.

لا تمثل هذه التيارات شرائح كبيرة ضمن تركيبة المجتمع السوري. لكن من الصعب توثيق ذلك لأن النظام لا يسمح بالقياس وعليه تستطيع هذه القوى الادعاء بوزن ربما لا تحققه بتمثيل شرائح كبيرة من الشعب. وإذا أضفنا لهذه الصورة المشوهة تحريضا خارجيا ممنهجا نستطيع فهم صعوبة الموقف السوري دائما.

موقف النظام من التغيير:

يناور النظام من خلال التركيز على إصلاحات إجرائية لا تشمل وحدانية قيادة الحزب لأن فتح الباب للتعددية بالمفهوم الغربي يحمل مغامرة سقوط نظام البعث نفسه وهذه مخاطرة لا يمكن قبولها من أي نظام حر. ولأن النظام يؤمن أن أجندات التغيير مدعومة خارجيا لهدم سياستها القومية المبدأية فهذا يعني استحالة قبول التغيير حسب ما يطلبون.

المعارضون يريدون تغيير النظام وهدم القائم ولأنهم ينضوون ضمن معسكر الغرب فقد حصل الاستقطاب: أي تغيير يعني هدم النظام وأي معارضة تحتمل التآمر مع الأجنبي وهذا يفسر صعوبة التغيير. هناك مبررات تجبر الأطراف على العيش ضمن هذا الاستقطاب.

ما هي خطوط النظام الحمراء وأين يمكن أن يقبل التغيير وما هي الضمانات المطلوبة:

ـ الحفاظ على الموقف القومي وعدم إذلال سوريا كما حال من تصالح مع إسرائيل سابقا.

ـ حماية تعددية الطوائف السورية وحفظ حقها بالمشاركة بالحكم على الأقل بنسبة تمثيلها الشعبي.

ـ الحماية الاقتصادية للحفاظ على حد أدني من التوزيع العادل للثروة لان ثروات البلد لا تحتمل تكون طبقات مترفة دون وطأة على الشعب مثل دول الخليج وهذا مطلب البعث قبل أن يكون مطلب الرئاسة.

فهل تضمن حركات الثورة هذه الشروط:

لو حاولنا قراءة طبيعة القوى التي تدعم الثورة في سوريا نجدها غير محددة المعالم داخليا وربما تمثل جماعة الإخوان اكبر تعبير عنها مقابل قوى كشرذمة خارجيا مرتبطة بدوائر غربية أو عربية. وهذا يعني أن محركي الثورة القائمة لن يقدموا أي ضمان حماية للموقف الوطني والتركيبة الطائفية والتوزيع الاقتصادي.

وإذن أي ثورة تغيير شامل مستحيلة القبول من حزب البعث أو من رأس النظام.

وبهذه المعادلة فالحد الأقصى الممكن قبوله من النظام يشمل:

ـ تعديلات جذرية في قوانين التعامل الأمني ومعاملة الموطن (حالة الطوارئ حكم القانون العدالة الاقتصادية الحرية الشخصية).

ـ أي تعديلات في نمط التمثيل الجماهيري دون التنازل عن حق قيادة الحزب.

ـ الانفتاح الاقتصادي الموجه من قبل الحزب والدولة والحفاظ على الدولة من المديونية.

لا يكتفي المعارضون ولا الغرب بهذا وعليه فليس هناك تسوية ممكنة بين الطرفين.

المعركة واضحة إذن وأسلحتها واضحة أيضا: فإذا أرادوا إسقاط النظام عليهم إسقاط كل من ينتمي له وهذا يتطلب تحييد الجيش وتأليب جماهير تمثل أغلبية واضحة. وكما يبدو لا يتحقق هذا في سوريا بالحد الأدنى المطلق. ورغم التضخيم الإعلامي وعمليات التصعيد العسكري والتهديد بالويل والثبور إلا أن نسبة التأييد الشعبي للثوار لا تكاد تظهر ومن الصعب قبول الادعاء أن سبب ذلك هو الخوف فقط. فلو كانت أغلبية الشعب ضد النظام لحصل تفسخ بالجيش وهذا لا يبدو إطلاقا.

هذا يعني أن التصعيد يعتمد على إمكانية التدخل الخارجي أكثر من التغيير الداخلي: وهو يحذو طريق ليبيا أساسا وتلك مسيرة خاطئة بكل المقاييس. بالنسبة للغرب فوصول سوريا لوضع ليبيا غير محتمل مع أنه مرغوب وعليه فهم لا يعلنون تلك النية مع أنهم يحاولون. ولعل روسيا والصين قد تعلمتا من درس ليبيا عدم الثقة بأي توصيات من مجلس الأمن يمكن استخدامها خارج سياقها لتدمير البلاد والدخول بها بدوامة التبعية وعليه لا يبدو سهلا توقع تدخل دولي حتى بمستوى التدخل في ليبيا الذي لم يثبت نجاحه وقد دفع الشعب الليبي كله ثمنا غاليا مسبقا.

بالنسبة الى أي سوري عاقل من الجنون الاستمرار بالمسيرة الحالية: لأن نتائجها فقط تعميق الجراح واستقطاب المستقطب ولن يتنازل النظام عن خطوطه الحمراء لأنها سر بقائه وربما بقاء سوريا التي نعرف.

لن يكون النظام قابلا للضغط الغربي لأنه ببساطة لا يعتمد في وجوده على ذلك وليس هناك الكثير مما يمكن ابتزاز سوريا به من الغرب. وأكثر ما استطاعته بريطانيا إنزال عقوبة عدم دعوة السفير السوري لحفلة زفاف كيت ووليام. لكل ما سبق لا أرى جدوى من رفع سقف مطالب الإصلاح أعلى مما تحدد أعلاه.

هل هذا يعني انه مكتوب على سوريا عدم الوصول للحرية الكاملة:

لا اعتقد ذلك فإذا تم ترسيخ الحريات الشخصية والعدالة الاقتصادية وتخفيف مظاهر التبجيل للقيادات والرئاسة سيخلق ذلك جوا أكثر اعتزازا من قبل المواطن. نريد أن يكون المواطن السوري عزيزا ونربأ به مطبلا حتى لمن أحبه. نريد له ألا يخاف قول ما يريد لكننا لا نقبل له هدم النظام القائم لأننا نعرف ثمن ذلك عليه وعلينا ولأن ذلك لن يتم إلا بمساعدة أجنبية لمن يريد ذلك بتكرار بشع للعراق وليبيا.

على أبناء سوريا تحقيق الحد الأقصى من الحريات والإصلاح الذي يستطيع النظام تقديمه وعليهم عدم دفعه لتجاوز الخطوط الحمراء. الحريات التي يمكن توفيرها كثيرة وتكفي لاستهلاك سنوات طويلة.

على النظام مضاعفة جهوده في وضع نظام حكم يضمن حماية الأقليات والطوائف دون تقنينها. وليس هناك ضرورة مقدسة لان يكون نظام الحكم مطابقا للنمط الغربي. فالصين يحكمها حزب واحد واستطاعت الحفاظ على بنية سياسية قوية واقتصاد متقدم ووفرت حريات معقولة. هذا لا يعني أن تكون الصين نموذجا وحيدا وإنما فقط ألا يكون النمط الغربي النموذج الوحيد. وإذا أخذنا بالاعتبار أن هناك فرص لتوحيد الأمة العربية مستقبلا سيكون نظام المستقبل تعدديا ضمن احترام الولايات وبما يحفظ حقوق طوائف وشرائح المجتمع.

لا يعني هذا طبعا ركون النظام إلى مأمن. وأخطر شيء يقع به النظام الاعتقاد كذلك. مسئولية النظام أن يظل منتميا لشعبه ويمكنه الانفتاح أكثر على الشعب واحترام إرادته مقابل قبوله للخطوط الحمراء.

ففي الأصل لا يحق للنظام وضع الخطوط الحمراء للشعب. لكن الشعب يقبل ذلك مؤقتا لحماية مكتسباته التاريخية وكرامته الوطنية. انه يقبل ذلك مقابل منع التدخل الأجنبي ولأنه اشرف من أن يقبل التغيير على ظهر فضائية مشبوهة أو دبابة أطلسية.

على النظام تقدير هذا الموقف عميقا واعتبار ذلك بادرة تستحق منه التضحية بالغالي والرخيص لإسعاد هذا الشعب الكريم. وهذا متروك لمرحلة لاحقة. أما الآن فعلى كل شرفاء سوريا التعاضد يدا واحدة لوأد الفتنة وليسجل كل طرف ما قدم الآخرون من تضحيات وليبحث كيف يمكنه معادلتهم في الفداء والتضحية.

حفظ الله سوريا من أعدائها ووفر لها طريقا حرا كريما لتبقى مرفوعة الرأس عزيزة المكانة.

*أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية، قلقيلية، فلسطين المحتلة

عن مجلة كنعان الألكترونية 8 أيار 2011

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *