الرئيسية / الملف السياسي / العالم / روسيا تتداول قياصرتها

روسيا تتداول قياصرتها

روسيا تتداول قياصرتها

محمد فرحات*

ثمة أمم وكيانات تولد كإمبراطوريات أو تكون مهيأة لان تكون كذلك، وروسيا هي إمبراطورية بالمكونات والمساحة والمسار والإرادة والخيال والخيارات. أمة مقتدرة وميراث هائل وخصب، وذاكرة ورواية مترامية في عبقرية الناس وقدرتهم في السيطرة على مجالهم ومصيرهم وبحثهم عن أشكال حضورهم المناسبة ، في الأدب والسياسة والتنمية والتضامن مع الغير ،وفي الحرب والسلام وثقافة الثلج ومقاومة قسوته، والتعايش مع سيبيريا والعيش فيها وتحويلها لمناجم ومغانم وقواعد ومنافٍ، وفي الصناعة والزراعة ورصف روسيا حتى أقصاها بخطوط السكة الحديد الذي يبعث في المتأمل الدهشة، كما كانت لها قصتها في شتى صنوف القدرة على الأرض وصولا إلى الفضاء مع كل ما ترتب عن ذلك من أثمان هنا أو هناك، باعتبار الثمن من صميم ما تدفعه الشعوب من تكاليف لتحقيق أهدافها وتعديل مساراتها واستخلاص عبرها .

وأن تصعد الإمبراطوريات أو أن تتقلص أو تندحر أو تتردى، فهذا من مألوفات التاريخ واحتمالاته، لكن وطالما كانت الإمبراطوريات مالكة للعناصر البنيوية، فإن أمر استعادتها لروحها وخيالها ولذاتها يظل ممكنا . وهذا حال روسيا والأمة العتيدة التي تسكنها وتتداول عليها منذ قرون، سواء امتدت كما في تجربة الاتحاد السوفيتي، أو ارتدت إلى” حدود روسيا” الحقيقية أو المجازية . حيث تستطيع أن تفيض عبر اكتفائها بذاتها: معنىً ودورا ورهانا. وهذه القدرة لا تتوفر لكل الأمم ببساطة ويسر.

…في القرن العشرين قادت روسيا تجربة خصبة في الثورة وأحلامها. وفي محاولة بناء نموذج جديد تجسم في النظام الاشتراكي، أثمرت مكاسب كريمة وبالغة الأهمية للشعوب التي تكون منها الاتحاد السوفيتي مثلما لغيرها من الشعوب الأخرى ، وكانت صاحبة حضور قوي في المسرح الكوني ، نفوذا ودورا قاما على مساعدة الآخرين في النهوض والانعتاق والتحرر والتحكم في المصير، وما كان لهذه الخيارات أن لا تكون بلا أثمان وأكلاف هنا أو هناك ، ولم تكن روسيا إمبريالية بطبعها- رغم التباسات بعض الأوضاع- وترفعت عن أن تكون كذلك ، حتى عندما قدم التاريخ والواقع كل أنواع الإغراءات الامبريالية . كما كان لروسيا كقائدة للاتحاد السوفيتي، تجربة مهمة في مقاومة وحشية السوق الرأسمالي الغربي وأخلاقياته وطموحاته الكاسرة ونهبه لثروات الشعوب المستضعفة ولحقوقها معا.

بيد أن كل ذلك لم يمنع من حصول ترهل وتصلب في شرايين التجربة من جهة ، ومبالغة في الرهانات من جهة أخرى، ووجود مضاعفات ورواسب سلبية لسياسات بعينها من جهة ثالثة. وكل هذه الأمور هي من صميم السياسة و التاريخ بكل حال، لكنها تحالفت “موضوعيا” في مكان ما، مع هجوم غربي منهجي تواصل بشراسة لعقود، لإحباط النموذج الروسي وكسره والإطاحة به، ترتب عنه تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية ككل ، ودحر روسيا وما رافق ذلك من انحسار مهين وعواقب مؤلمة بل ومذلة في أحيان كثيرة . لقد خبرت روسيا في أواخر القرن العشرين أوضاعا شاقة وصعبة ربما جعلت قسما مهما من الروسيين يستذكر بتمجيد وبترحم ( حتى على) أشد أشكال الاشتراكية قسوة ، ولكن ليس من طبيعة الزمن أن يعود حرفيا إلى الوراء، وهنا فإن سياق سقوط التجربة والعوامل المؤثرة في ذلك كما صعودها، تحتاج لتأمل وفحص بطريقة مختلفة عما جرى حتى الآن.

وبينما كانت روسيا تقطع هذه اللحظة الشاقة من تاريخها، كان الوعي الغربي بدوره يصل ذروة وهمه عبر إعلانه عن الانتصار الحاسم للرأسمالية كخيار نهائي في التاريخ، وتجرأ على إعلان نهاية التاريخ ذاته، ونصبت القوى النافذة في الغرب نفسها كمقررة ومهيمنة على نظام كوني جديد صممته دون أدنى اعتبار لأي شيء خارج ما تراه وما تعتقد به، وشرعت في كتابة وقائع هيمنة بلا سقف في شراستها وعدوانيتها وبؤسها وبشاعتها وظلمها مغتنمة تدهور وضع روسيا وتردي مكانتها.

ولأكثر من عقد بقليل استطاعت الأمة الروسية أن تتحمل هذا الوضع، وتحصي وتعاين تداعياته المؤذية والضارة لها وللعالم ( عهدا غورباتشوف ويلتسين) ، حتى استلت من نفسها الاستعدادات اللازمة لمعنى روسيا المفترض وصيرورتها الإمبراطورية ، فيما كان روسي من صلب النظام يسعى لهذه الاستعادة ويواكبها ويلاقيها في المكان المناسب، بهدوء ويقظة وحزم ودهاء وروح روسية عميقة، روح ” تؤمن بحس المهمة وبإنجازها” . هنا يمكن التعرف على تجلي طاقات الأمم ورجالاتها في استعادة الوعي البناء واستعادة الروح، والبحث اللائق عن الذات، وتقرير خيارات واتجاهات تتسم بالأصالة وتنسجم مع الرؤية التي تحملها الأمم لنفسها.

وبينما كان فلاديمير بوتين يتشكل بسرعة وسط الصعوبات كقيصر جديد انشغل بإعادة ترتيب روسيا بنيويا وهيكليا في كل صعيد ، كانت الأمة الروسية تتأكد مرة أخرى من أنها امة حية وحقيقية، متخمة بالرؤى والقدرات وبالرسوخ في التاريخ والخيال الفردي والجماعي للروس ، بعد أن جربت “بسرعة وكثافة” التردي وخيبة الرهان وغياب الدليل وعواقب التفكك ووحشية السوق ومهانات تضاؤل القيمة والقدرة والاندحار عن الدور .

وبعد دورتين قيصريتين غادر “بوتين” الموقع الأول إلى موقع أخر يستطيع من خلاله تأكيد قبضته الصارمة على أقدار روسيا وخياراتها بعد أن قدم للموقع الأول في روسيا ، قيصرا أنيقا وشابا وجميلا محمولا على ما يكفي من صرامة. وتناغم كليهما في مشروع قومي روسي ذي إبعاد كونية بالضرورة، يرى الروس عوائده المتعددة والمرشحة للتفاقم في حياتهم وفي المعنى الذي يحملونه لأنفسهم ودورهم القائم والمحتمل في تحديد اتجاهات العالم ، وفي تعديل أحواله وكسر الهيمنة القائمة فيه، دور لا يهم الروس لوحدهم بل تحتاجه اغلب شعوب الأرض، وهذا ما يجعله دورا متخما بالمسئولية أولا .
وبطريقة لا تخلو من ذكاء في الشكل والمضمون، يعود قياصرة روسيا لتداول المواقع ، تداول يجري تحت عين روسيا بما يكفي من الإجماع في الوعي والوجدان والمصالح والرؤى ، يراقبه الغاشمون في العالم بحذر ويترقبه آخرون برهانات وتوقعات ايجابية .

* * *
على نحو جدير بالتأمل واستخلاص العبر لمن يعنيهم الآمر (على غرار الفلسطينيين مثلا والكثير من الشعوب العربية وغيرها) تعطي روسيا مثالها الحيوي واللافت في استعادتها لنفسها ودورها وما يتطلبه ذلك من عمليات إعادة بناء شاملة . روسيا التي تحتل موقعا عبقريا وفريدا وحاسما في أعلى الأرض، وتقيم على خط فاصل بين شرقها وغربها، هي في تصنيف ما “شرق الغرب” المختلف. وفي تصنيف آخر “غرب الشرق” المختلف ، ولكنها في جوهرها وحقيقتها هي روسيا التي تعادل نفسها وما فيها ، مما هو خاص وما هو مختلف وما هو مطلوب.
…وينقلون عن الصينيين الحكماء ما فحواه، بان روسيا تستطيع التطلع إلى حيث شاءت ولكنها تحتاج لأن تطيل النظر شرقا ، إلا أن روسيا هي بحكم الغريزة والإرادة والضرورة والموقع والممكن معا، تحتاج للتطلع في كل اتجاه، ولكن الأهم هو أن تمعن في تأمل نفسها ، وعندها ستحدد دروبها على نحو أصيل حيثما توجهت ، إنها روسيا وهي تتدبر أمرها على نحو يليق بأمة وبروحها وبخيالها وبدورها . هي مدعاة لكثيرين كي يروا ويتعلموا فصلا من فقه طاقة الامم الحية على بلورة الخطى المناسبة بعد حقبة من تكسر الخطوات والطرقات معا.

10 حزيران 2012

* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين المحتلة

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *