الرئيسية / الملف السياسي / العالم / الانتخابات التركية: هل قفز أردوغان من المقلاة… إلى النار؟

الانتخابات التركية: هل قفز أردوغان من المقلاة… إلى النار؟

الانتخابات التركية: هل قفز أردوغان من المقلاة… إلى النار؟
صبحي حديدي

خليط عجيب متنوّع، متطابق أو متنافر، تركيّ محليّ، أو سوريّ جار، أو عربي وإقليمي، أو آسيوي ودولي، مسلم أوّلاً ثمّ مسيحي أو يهودي… راقب نتائج الانتخابات البلدية التي شهدتها تركيا مؤخراً؛ بأعين حصيفة تارة، وبأخرى منحازة طوراً، ليس دون مقادير غير مألوفة من النبوءات والتقديرات والاستنتاجات؛ وكأنها أمّ الانتخابات التركية جمعاء، تشريعية ورئاسية، وليست بلدية صرفة في نهاية المطاف! ولم يكن عسيراً على المرء أن يلمس مؤشرات الترقب الحادة، كما عكستها المواقف في دمشق أو الضاحية الجنوبية أو بغداد أو طهران أو القدس المحتلة أو القاهرة أو الرياض، فضلاً عن واشنطن وبروكسيل وموسكو وبرلين، وربما كييف أيضاً؛ ليس على صعيد الأنظمة والأجهزة والحكومات والمؤسسات، سياسة واقتصاداً وأمناً، فحسب؛ بل كذلك، والأهمّ، على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب…

الأسباب كثيرة، بالطبع، ومتشعبة متداخلة على شاكلة الخليط المراقِب؛ لعلّ أوّلها، وأبرزها، أنّ تركيا ـ في عهد ‘حزب العدالة والتنمية’ عموماً، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان خصوصاً ـ لعبت، وما تزال، سلسلة أدوار محورية في موازنات ‘الربيع العربي’؛ وهذه هي الانتخابات الأولى للأتراك منذ انطلاق الانتفاضات العربية، وثمة بالتالي جملة حيثيات تجعل صندوق الاقتراع حَكَماً حول السياسة التركية إزاء تلك الانتفاضات، وفي المنطقة إجمالاً. ومن المدهش أنّ المعارضة التركية، وخاصة ممثلها الأكبر ‘حزب الشعب الجمهوري’، سقط في فخّ من صنع المعارضة ذاتها: أي تحويل الانتخابات البلدية إلى تصويت على عدم شرعية، وربما عدم أهلية، أردوغان وحزبه؛ ليس استناداً إلى فضائح الفساد وأشرطة التنصّت وكمّ الأفواه وحظر مواقع التواصل الاجتماعي، أو شؤون وشجون الملفات البلدية المحلية في المدن والأرياف؛ بل حول ‘الدولة الموازية’ التي يديرها فتح الله غولن (وذلك تكتيك انتخابي اعتمده ‘حزب العدالة والتنمية’، وانزلقت إليه المعارضة راغبة سعيدة، وحمقاء أيضاً!)، وحول مواقف أردوغان المناهضة لنظام بشار الأسد، أو المتعاطفة مع الإخوان المسلمين في مصر، أو الفاترة مع إسرائيل…

وحتى لو صحّ بعض ما يُنسب إلى غولن وأنصاره (وهم، للإنصاف، أفضل ارتكازاً في مؤسسات الشرطة والقضاء، وأعمق توغلاً في أنظمة التعليم الديني والإسلام الشعبي العريض)، فإنّ المعارضة هي آخر المستفيدين من أيّ تناطح بين أردوغان وغولن، وأية مناورات مضادة يمكن أن تلجأ إليها ‘الدولة الموازية’. فالأخير ظلّ حليفاً للأوّل طيلة سنوات، وحركته امتداد طبيعي، وقد يجوز اعتبارها وليداً شرعياً، للإسلام السياسي التركي، منذ نجم الدين أربكان وحتى ما بعد المنفى الاختياري الذي فرضه غولن على نفسه؛ وليست الشروط الوطنية الراهنة، وخاصة ازدهار تركيا الاقتصادي، بالسياقات الأنسب لقطف ثمار أيّة خصومة مع ‘حزب العدالة والتنمية’، أو مع شخص أردوغان في شعبيته الحالية التي لا يلوح أنّ الفضائح أتت على الكثير من معدّلاتها العالية.
‘لقد قفز أردوغان من المقلاة، ولكن إلى النار’، يكتب هنري باركي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليهاين بنسلفينيا، وأحد الذين راهنوا وتنبأوا بضربة موجعة لأردوغان وحزبه؛ دون أن يراهن، في المقابل، على فوز المعارضة أو أنها ستتعلّم أيّ درس مفيد من هذه الانتخابات، خاصة لجهة تجديد دمائها، أو إدخال عناصر شابة إلى قياداتها. لماذا، إذاً، نجا أردوغان من المقلاة، ليسقط في نيران من طراز آخر؟ إنها الانتخابات الرئاسية، في شهر آب (أغسطس) القادم، حيث سيتعيّن على أردوغان أن يتجاوز ثلاث عقبات، دفعة واحدة، إذا فكّر في الترشيح لهذا المنصب: تحييد عبد الله غل، رفيق دربه والرئيس الحالي؛ والحصــول على نسبة تتجاوز الـ50′، كشرط لا غنى عنه للفوز؛ وكسب ودّ الأكراد، وحزبهم الأبرز ‘السلام والديمقراطية’، إذْ يصعب حيازة النسبة المطلوبة دون انضمام هؤلاء.

مساجلة منطقية تماماً، ما خلا أنّ باركي يتناسى ملابسات الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والذي شهدته تركيا في خريف 2010، حين بدا أنّ الشارع الشعبي التركي قد قطع خطوة ملموسة، نوعية تماماً وفارقة، على درب النموذج الديمقراطي التركي؛ في طبعاته الكمالية الكلاسيكية، أو في تحوّلاته التي قد يصحّ نسبها إلى الإسلام التركي المستنير. لقد أسفر التصويت عن نسبة 58′ لصالح التعديلات، من أصل نسبة مشاركة بلغت 77′؛ كما اتضح أنّ خطوط التصويت كانت عابرة للانقسامات الحزبية أو السياسية أو الإثنية أو الدينية، فأعطت بالتالي إشارات ديمقراطية بليغة لا تقبل التأويل المضاد، ولا الاختزال أو التبخيس.

موقف أكراد تركيا، على سبيل المثال الأبرز، حمل دلالة كبرى في هذا السياق. فبالرغم من دعوة ‘السلام والديمقراطية’ إلى مقاطعة الاستفتاء، لسبب وجيه في الواقع هو أنّ التعديلات لم تلحظ ردّ المظالم الكثيرة التي لحقت وتلحق بالأكراد؛ فإنّ فئات واسعة من الجماهير الكردية سارعت إلى المشاركة والتصويت لصالح التعديلات، من منطلق تمكين القوى الشعبية على حساب المؤسسات البيروقراطية والعسكرتاريا التي تناهض تقديم أيّ تنازل يدعم الهوية القومية الكردية. وكان مدهشاً أن تؤيد التعديلات نسبة عالية من المشاركين في الاستفتاء، على امتداد المناطق الشرقية ذات الأغلبية الكردية الطاغية.

وذلك الاستفتاء، بالغ الأهمية، أدخل تركيا في مرحلة جديدة على طريق تقويض نظام الوصاية العسكري الذي أرسته الفلسفة الأتاتوركية منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي؛ رغم أنه لم يمسّ روحية المادّتَيْن 35 و85 من النظام الداخلي للجيش، حيث تُناط بالمؤسسة العسكرية مهامّ الحفاظ على النظام العلماني، والعمل على حمايته بكلّ الوسائل، بما في ذلك تجريد السلاح. ذلك يعيدنا إلى ما نستعرضه عادة من سلسلة أسباب، تاريخية واجتماعية وثقافية، كانت وتظلّ وراء إيمان العسكر بأنّ إعلاء كلمة الجيش فوق الدستور والديمقراطية إنما هو في صالح المجتمع والبلاد. أهمّ هذه الأسباب أنّ الكمالية، التي أسسها أتاتورك كإيديولوجية رسمية ثمّ طوّرها عبر سلسلة مؤتمرات لـ’الحزب الجمهوري الشعبي’ بين عام 1927 و1935، تُسند إلى العسكر وظيفة ‘الحارس′ على الأمن الإيديولوجي للأمّة التركية، لا سيما حين يُصنّف هذا الطراز المحدّد من الأمن في خانة أبرز فروع الأمن القومي العام.
ولقد مرّ زمن طويل شهد امتداد صلاحيات مجلس الأمن القومي إلى إبداء التوصيات، ذات الأولوية دائماً، في المسائل الحساسة التالية: تحديد المناهج التربوية للمدارس، تنظيم أقنية التلفزة والإذاعة والإشراف عليها، رفع الحصانة البرلمانية عن الأعضاء الأكراد، التدخل في التعيينات الإدارية لموظفي الدرجة الأولى في مناطق محددة من الوطن التركي، تمديد فترات الخدمة الإلزامية لفئات معينة من المواطنين، اقتراح صياغات للتحالفات البرلمانية إثر كل انتخابات تشريعية، تحديد جوهر مشاريع القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب قبل تقديمها إلى البرلمان، تحديد النظام الداخلي والمناهج التربوية للمدارس الإسلامية الخاصة، وتحديد حجم ونطاق الساعات المخصصة لتدريس اللغة العربية كلغة ثانية في المدارس…

ومضى زمن شهد ترنّح الديمقراطية الأتاتوركية تحت الضربات المتلاحقة التي لم يتردد جنرالات الجيش، أنفسهم، في تسديدها إلى قلب التجربة. وفعل الجنرالات هذا مراراً وتكراراً، كلما تعيّن أن يشهروا المسدّسات استناداً إلى تقديرات مجلس الأمن القومي التركي، بوصفه الحارس الساهر على العلمانية، والفريق الوحيد الذي يمتلك الحقّ في الاجتهاد العلماني، وتحويل محتوى الاجتهاد إلى قرارات ملزمة للمجتمع. وكان يستوي، هنا، أن يطوّع الجيش القانون (المحكمة الدستورية، وحلّ الأحزاب: 24 مرّة)؛ أو أن ينصب حبل المشنقة (كما في مثال عدنان مندريس، أوّل زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا الحديث، ورئيس الوزراء خلال فترة 1950 ـ 1960)؛ أو أن يلجأ إلى الإنقلاب العسكري، بوصفه ذروة العلاج بالكيّ.

كذلك مرّت عقود شهدت مهازل القضاء التركي ضدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرّيات العامة، ولم يكن النواب الأكراد (العلمانيون تماماً، الماركسيون أو اليساريون أو الليبراليون غالباً)، هم وحدهم ضحايا هذه العربدة الدستورية. وفي صفّ الساسة، لم يكن أربكان، الزعيم السابق لحزب ‘الرفاه’ الإسلامي المنحلّ، هو الوحيد الذي طُرد من باب السياسة ليعود ثانية من نافذتها، إذْ يبدو السجلّ طريفاً وحافلاً. فالحزب الذي لجأت المحكمة الدستورية إلى حلّه سنة 1997، كان الثــالث الذي أسّسه أربكان خلال نحو ربع قرن: الأوّل كان ‘حزب النظام الوطني’ وتأسس في العام 1970، لكي يتعرّض للحلّ على يد الطغمة العسكرية التي قادت انقلاب عام 1971؛ والثاني كان ‘حزب الإنقاذ’، وتأسس بعد وقت قصير من انسحاب العسكر إلى الثكنات، لكي يُحلّ مرة ثانية إثر الإنقلاب العسكري لعام 1980!

صحيح، بالطبع، وكما قيل مراراً، أنّ الديمقراطية التركية في خلاصتها، وديمقراطية ‘العدالة والتنمية’ جزء لا يتجزأ من عمارتها، تعاني من معضلات بنيوية شتى؛ بينها التمييز ضدّ الهويات الثقافية والإثنية والدينية (الكرد، وفئات العلويين، والطوائف المسيحية)، مقابل إعلاء شأن الهوية التركية؛ وأنّ الأنظمة الحزبية والانتخابية توطّد شبكات الولاء والهيمنة، عن طريق توظيف المال والأعمال والإعلام بصفة خاصة، على حساب التمثيل البرلماني الأكثر أمانة للشرائح الشعبية؛ وأنّ أردوغان يمارس، شخصياً، نفوذاً واسع النطاق، سلطانيّ الصبغة، وليس البتة ديمقراطياً وتشاورياً دائمـــاً، داخل مؤسسات حزبه. ولكن… أيّة ديمقراطــيــة هي الكاملة، في أيّ بلد، وأيّ زمن؟

وهكذا فإنّ بقاء الديمقراطية التركية برهان على أنّ المجتمعات المسلمة ليست قاتلة العلمانية، بالتعريف الجامع المانع، وعلى نحو مسبق مطلق؛ وأنّ المسافة بين التركي المسلم العابد في مسجده، والقاضي المسلم العلماني في دار المحكمة، ليست بالضرورة درب تفكك وخصام وآلام. ليس من الإجحاف القول بأنّ هذه الديمقراطية ترزح، اليوم، تحت وطأة شخص أردوغان، الذي أخذ يفقد صوابه السياسي، وصار يضرب ذات اليمين والشمال؛ فينقضّ تارة على الصحافة، التركية والعالمية، وطوراً على الـ’تويتر’ والـ’يوتيوب’؛ وقبل هذا وذاك، يخسر حلفاء الأمس القريب، أو يكسب المزيد من الخصوم. وفي المقابل، ثمة إجحاف بالغ بحقّ هذه الديمقراطية، إذا رُبطت هكذا، على نحو أوتوماتيكي جامد، بشخص أردوغان أوّلاً، وجوهرياً، وفردياً.

وأن يقفز رئيس الوزراء التركي من المقلاة اليوم، أمر يفتح مستقبل الانتخابات الرئاسية القادمة على احتمالات شتى، بل على الاحتمالات كافة في الواقع؛ وليس على ذلك السيناريو الوحيد، الذي يستبدل الرمضاء بالنار، فقط وحصرياً!

3 نيسان 2014

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *