الرئيسية / الملف السياسي / العالم / قراءة للدلالات الخطيرة لخطاب الرئيس بوتين الأخير..

قراءة للدلالات الخطيرة لخطاب الرئيس بوتين الأخير..

بقلم/ياسر قبيلات

جاءت الرسالة الروسية، التي حملها خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام مجلس الاتحاد، واضحة ودقيقة، لا تحتاج إلى تأويل وتفسير:
روسيا أصبحت القوة العظمى الأولى في العالم، عسكرياً.
وباختصار، فإن الخطاب جاء ليعلن حسم سباق التسلح مع الولايات المتحدة لصالح روسيا، وإلى مدى غير منظور. ما يعني امتلاك موسكو للأفضلية الحاسمة في مجال التفوق والردع العسكري، النووي وغيره، والقبض على زمام المبادرة النووية، إلى جانب القدرة على تعطيل منظومات الأسلحة والإجراءات الغربية الرامية إلى حصار روسيا بالمعنى الاستراتيجي، عبر التمدد شرقاً ونشر منظومة الدرع الصاروخي في الولايات المتحدة وأوروبا.
ومن هذا المنظور، فإن الحماية الأميركية لأوروبا تصبح تجارة كاسدة!
ويشمل التفوق، الذي كشف عنه الرئيس الروسي في خطابه، كذلك، تحقيق قصب السبق في تطوير العلوم وتوظيفها في المجالات العسكرية، ما يترك العالم والولايات المتحدة على وجه التعيين خلف روسيا علمياً في هذه المجالات، ولاحقاً في غيرها، لمسافة كافية، ولعقد علمي كامل.
وهذه مسافة استراتيجية طويلة!
ولا يقتصر التفوق على هذا؛ فتحقيق قصب السبق في تطوير العلوم، إلى هذا المستوى الذي أتاح انتاج مثل هذه الأسلحة الحديثة وغير المسبوقة، سيجد طرقه بلا شك، وعلى نحو سريع، إلى مجالات الاقتصاد المدني؛ وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس بوتين في خطابه، ويضع الأميركيين أمام حقيقة أن الاستثمار الروسي في التفوق العسكري لن يأتي على حساب التنمية، كما جرى في الاتحاد السوفيتي في العقدين الأخيرين من عمره، بل سيكون على العكس من ذلك منصة ورافعة ومحفزاً للتنمية الشاملة.
وما يثير الاهتمام هنا فعلاً هو إن تحقيق قفزة بمسافة عقد علمي كامل يمكنها أن تشكل انقلاباً جذرياَ شاملاَ على المستوى العالمي، إذا ما تم توظيفها في مجالات الاقتصاد المدني؛ إذ من شأن ذلك أن يعني تحول روسيا إلى بلد يقود الاقتصاد العالمي الجديد، الذي من الواضح أنه يعتمد على التكنولوجيا والوسائط الرقمية والابتكارات الجديدة.
وفي هذا تهديد لهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي.
وبالمعايير التي تتبناها روسيا، فإن هذا الاقتصاد الجديد سيكون في خدمة الحاجات الاجتماعية، وتعزيز قدرة الدولة على رعاية مواطنيها، لا خدمة جشع الشركات المنضوية تحت لواء الهيمنة الأميركية على العالم.
الأسوأ الذي تواجهه الولايات المتحدة، في هذا السياق، أن إعلان التفوق العسكري، لم يأت هذه المرة من دولة منكفئة داخل إقليمها مثل كوريا الشمالية، ولا من مجرد قوة إقليمية يمكن حصارها مثل إيران، ولكن من طرف المنافس المباشر، والخصم الروسي الواضح، المنخرط في السياسة الدولية.
وروسيا بالنسبة للولايات المتحدة ليست أي خصم. إنّه خصم يوظف في السياسة الدولية آلة سياسية ودبلوماسية جبارة يقودها الوزير لافروف، الذي لم يتردد في توظيف التفوق الروسي من باب «اعتبار ما سيكون»، وهو بالتأكيد لن يتردد في فرض استحقاقات هذا التفوق العسكري سياسياً، وقد أصبح حقيقة ماثلة للعيان!
وهنا، لا بد من ملاحظة أن الرئيس الروسي حدد هذه الاستحقاقات المقبلة في خطابه، من خلال رفعه التزام روسيا بالدفاع عن حلفائها إلى المستوى النووي. واختار أن يبسط التزامه هذا في جملة طويلة مفصلة، لها دقة وشكل المواد القانونية التي تتضمنها دساتير الدول:
«أذكر أن العقيدة العسكرية الروسية تترك لنا الحق في استخدام السلاح النووي في الرد على استخدامه ضد روسيا أو ضد حلفائها أو في حال استخدام أي من أسلحة الدمار الشامل، أو عندما تستخدم الأسلحة التقليدية ضدنا بما يهدد وجود الدولة الروسية».
«وفي هذا الخصوص أعتبر أن من واجبي أن أذكر أن أي استخدام للسلاح النووي ضد روسيا أو حلفائها، سواء كان بقوة صغيرة أو متوسطة أو أخرى، سنعتبره هجوماً نووياً على بلادنا. والرد سيكون فورياً، وبغض النظر عن كل ما يترتب على ذلك من عواقب».
وبوتين، ببسطه الحماية النووية على حلفائه، يكون باشر فوراً استخدام تفوقه العسكري وموقع روسيا الجديد كدولة عظمى أولى، ووضعهما موضع التنفيذ؛ فالقوة أمر واقع، لا يطلب الإذن من أحد للنفاذ. والقوة تفرض اليوم واقعاً جديداً مفاده أن الدول التي لا تحظى برضى الولايات المتحدة و«مجتمعها الدولي» ليست دولاً مارقة، ولكنها دول حليفة لروسيا، وأعضاء في معسكر القوة العظمى الأولى في العالم.
ووصولاً إلى هذا، يحتاج الاستراتيجيون، اليوم، وعلى إثر اعلان التفوق العسكري الروسي، إلى إعادة النظر بالكثير من الأحكام المستقرة، التي أعتبرت لوقت طويل بديهيات لا تقبل النقاش، خصوصاً أن إعلان الولايات المتحدة الصاخب في مطلع التسعينيات عن انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يجنبها اليوم خسارة سباق التسلح، بهذه الصورة المذلة.
وبهذا المعنى، فإن انتصار الغرب في الحرب الباردة لم يكن شاملاً، ولا نهائياً، كما جرى الاعتقاد. ما يدعو للقول إن الدول والمجموعات السياسية التي احتفظت وتمسكت بموقفها المناوئ للهيمنة الأميركية، لم تكن تسير عكس التاريخ، ولا خرجت عن سياق الحسابات الواقعية في ما يتعلق برهاناتها الاستراتيجية.
وفي الشق الأيدولوجي، يمكننا أن نرى أن روسيا التي تبنت على إثر انهيار الاتحاد السوفيتي نموذجاً ليبرالياً، لم تجد نفسها في معسكر واحد مع الولايات المتحدة والغرب. بل على العكس من ذلك، لم تفقد العلاقة بين قطبي الحرب الباردة طابعها الصراعي، الذي لا يقبل المهادنة. بينما لا تجد روسيا تفهماً من معتنقي الأفكار الليبرالية، الذين لا يلفتهم في خطاب الرئيس بوتين البرنامج الاجتماعي الكبير ومردوده الإيجابي الواضح على الحقوق الاجتماعية والسياسية للمواطنين، ولكن يستفزهم ما ورد فيه من أسباب قوة تهدد الهيمنة الأميركية.
ممنوع أن تخدم الأفكار الليبرالية برنامجاً وطنياً!
في الواقع، يمكننا أن نرى في ذلك ما يبدد الأوهام حول نقاء الأفكار الليبرالية، وما يفند المزاعم حول استقلاليتها، وما يؤكد ميلها الطبيعي لخدمة الهيمنة الأميركية؛ إذ أنه حتى حرية السوق والتجارة الدولية، التي هي أقدس القيم الليبرالية، تصبح فائضة عن الحاجة، إذا ما تعارضت مع أسباب هيمنة الولايات المتحدة ومصالحها.
والمفارقة، أن هؤلاء بالذات، لا يملون من الحديث عن «الإمبريالية الروسية»!
وفي ختام ليس أخير، يتوجب التذكير بإشارة الرئيس بوتين إلى أن التفوق العسكري الروسي تم إنجازه بكلفة «رخيصة»، وتقل مرات كثيرة عن تكلفة برنامج الدرع الصاروخي الأميركي.
وهنا، علينا أن نفكر بأمرين:
الأول، أن السبب الرئيس في الكلفة الباهظة لمنظومة التسلح الأميركية، هو أنه يتم إنجازها وفق معايير «السوق»، وبنظام المقاولات التي تسند إلى شركات القطاع الخاص، بينما تقوم على ذلك في روسيا شركات ومؤسسات حكومية، تمثل قطاعاً عاماً وطنياً. وهنا، فإن إنجاز التفوق العسكري الروسي يبدد الخرافات حول فعالية القطاع الخاص، وأفضليته على القطاع العام، لا سيما وأنه في الحالة الروسية قدم مثالاً على السرعة والكفاءة والتفوق.
الثاني، استطاع الأميركيون تدمير الاتحاد السوفيتي بتوريطه في سباق تسلح مفتوح، مع حرمانه من الافادة من ثرواته الوطنية، من خلال التلاعب بأسعار النفط؛ واليوم، تنجح روسيا في تحقيق التفرد في التفوق العسكري الحاسم، ما سيجر الولايات المتحدة، في ظروفها الصعبة، إلى سباق تسلح مكلف وباهظ ومرهق، في وقت لم تعد فيه أسواق النفط، تحت السيطرة.
فإلى أي حد ستصمد الولايات المتحدة في هذا السباق، وما سيكون أثر ذلك عليها؟

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *