الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / عن يوم القدس العالمي..

عن يوم القدس العالمي..

ادريس هاني

لا زالت أزمة الجغرافيا تنوء بثقل مخلّفات الإستعمار، وفي مقدّمتها فلسطين..والحقيقة هي أنّ كلّ بلد عربي إلاّ وفيه جيبا من جيوب فلسطين، أي ذات الحكاية من الوعد بالاقتطاع، لكن وضعية فلسطين هي استثناء في إرادة المحو التّاريخي لشعب عاش هناك، لم يقتطعوا جزء من فلسطين بل قضموها كلّها مع زيادة من أطراف عربية أخرى..وبسبب هذا القضم باتت الجغرافيا العربية تعيش تحت رهاب إعادة تقسيم المقسّم وهو ما يؤكّد أنّ الإمبريالية استطاعت أن تلعب لعبة الجغرافيا حين لوّحت بخرم مبادئ سايكس بيكو نفسها..في كلّ بلد عربي حكاية من فلسطين استوعبوها وقبلوا بها تحت ضغط القوّة..التقسيم بات تلويحا وتهديدا في المجال العربي لأنّه يميّع حكاية الوطن العربي العربي..كلّ تقسيم وإن رقص أصحابه رقصة المطر الهندية فهو مشروع إمبريالي يعيد عقارب الساعة إلى زمن الاستعمار..وكلّ شيء في هذا الزمن الصهيوني يمكن أن يجري وفق مفارقة كذّاب كريت..كل ما يصلح سيف ديموقليس فوق رؤوس العرب غير ممكن تطبيقه على إسرائيل ومنها تقرير المصير..الاستعمار يحاربنا بشعاراتنا، يحرّك غرائز ال”buzz” الثورجي لخلط الأوراق وتمثّل حالة الغباء الذي يصل حدّ محو الأرقام والحروف..فلسطين استثناء ولذا كانت بوصلة لا يقاس بها شيء في تاريخ كفاح الشعوب الحرّة في القضايا العادلة والصحيحة..كلّنا يدرك أنّ الاستعمار ساهم في تقسيم البلاد العربية وبلاد أخرى من العالم..باتت الأقطار سائلة..وكان الهمّ العربي هو توحيد الوطن العربي ولو عبر تأسيس وحدات ثنائية نموذجية(= الوحدة المصرية-السورية)..كل شكل من أشكال الوحدة هو مكسب في مشروع الوطن العربي..التقسيم مشروع صهيوني واستعماري لا غبار عليه..والحق الفلسطيني بديهي لا يحتاج إلى حجاج تاريخي أو سياسي أو شرعية دولية..لا أحد يملك أن يعيد رسم الخرائط أو تقديم تفسير متملّق على حساب الحق الفلسطيني..زمن لغا في هذا الحق أو تحرّش به ليلطّخ نقاءه فهو جاهل بالتّاريخ والجغرافيا..إنذ السيرة الحقيقة للمناضل هو الاستقامة والوضوح في بناء تصوره للموقف..إنّ الكفاح العربي لا زالت تنتابه الكثير من الأزمات، وهنا لا بدّ من التمييز بين متطلّبات الصمود والمقاومة ومتطلّبات إحراز الموقف العلمي من طبيعة الأشياء..هناك محاولة لنحريف تاريخ وجغرافيا فلسطين وتحويلها من بديهة إلى إشكالية ينفذ من خلالها العدو لخلق منعطف تفاوضي فوق أرض متنازع حولها..ليس النزاع السياسي دائما مبنيّا على رؤية علمية بل هو خطّة للتشويش على بداهة القضية العادلة..وفي المقابل ما هو الجهد العلمي الذي قام به العرب على مستوى مقاومة هذا الاحتلال للعقل السياسي العربي حيث بدأ يقتطع جيوبا من الوعي بنقاء القضية، حيث ستدفع أموال طائلة لتمويل مشاريع الإلتباس..هذا ولا زال الكثير من الفاعلين العرب لا يجددون في قراءة تاريخ انتصاراتهم هزائمهم..ومعلوم أنّ التأريخ لواقع الهزائم إذا لم يكن تاريخا علميّا فهو ينتج موقفا مهزوما ويجعل الهزيمة أمرا قابلا للتجدد..فالعرب، ونقصد بعض فعالياتهم وقطعا رعاة الهزيمة في أولويتهم، لا زالوا يفكرون بمنطق الهزيمة وهواجسها..ولا بدّ من القول أن حماة الهزيمة ليسوا فقط الرجعيين بل كلّ من يفكّر تفكيرا مغالطا ولو رفع علامة فيكتوار برجله..لأن الجهل هو مقدّمة الواجب للهزيمة..إنّ اختزال الهزيمة في مقاربات ضحلة وتفسيرات مغالطة لا ينتج وضوحا في معالم طريق النّصر..لا بدّ من تغيير طريقة تفكيرنا ونكتسب الشجاعة الكافية لوضع اليد على الجرح: نحن متخلفون، نحن مهزومون..هذا واقعنا ولا بدّ من البحث عن العلل والأسباب..وجود طلائع تحرر في الوطن العربي هو ضامن لاستئناف النهوض والمقاومة وتحقيق الانتصارات..شيء من التحليل النفسي للذات العربية من جراء الإدمان على الهزيمة والتناقض المهول بين مكونات ومزاجات هذا الكيان ضرورة لفهم أي نوع من المرض يجعلنا ننظر إلى هزائمنا بلغة التبرير لا الاعتراف، وينظر لانتصاراتنا المطلوبة بلغة المستحيل..أمراض الهزيمة شتّى..والاعتراف غير وارد..والهشاشة لا زالت تحيط بالعقل السياسي العربي..في مثل هذا الوضع: ما هي مهام طلائع النهضة العربية والفاعل المقاوم؟
من الطبيعي أن تنتج بنية هشة وفاسدة كل هذا الوضع التناقضي..من هنا تصبح أولى مهام طليعة النهضة العربية هو تأمّل أوهامها، مصطلحاتها، أنماطها في التفكير، التجديد في منطق نهضتها..القوة الخشنة وحدها لا تصنع التاريخ، بل لن تصنعه إذا لم تتوسّل بآليات القوة الناعمة..العدو تقدم كثيرا في مسار بناء القوة الناعمة..ولا زال العرب ينتجون القوة المنفّرة(=أي القوة الطاردة التي نراها معادلا لنقيض القوة الناعمة)..هذا النفور ليس نتيجة للملل بل هو نتيجة عدم الفعل المناسب في الوقت المناسب..هو سياسة الفراغ وإنتاج ردود فعل خاطئة نظرا لما تنتجه فواعلنا من سياسات خاطئة..ماذا يا ترى تفعل فواعلنا في منطقة الفراغ؟ وما هو حجم التقدير التي تبديه فواعلنا حيال أنواع التضامن الذي ليس أمرا معطى..ننتج أعداء لمجرد عدم الاعتراف..ننتج ردود أفعال لمجرد الاستهتار بالمنجزات..في هذا المجال حيث تتحرك قوة ناعمة أخرى تعرف كيف تنفذ إلى العمق: إسرائيل لا تزايد على حلفائها، بينما ما أهلك العرب إلاّ المزايدات فيما بينهم..استطاعت إسرائيل أن تنتج فتنا في صفوف العرب وأوجدت آليات لذلك يرعاها أغبياء العرب..لقد ردمت جسور التضامن بين الدول ثم بين الدول والشعوب ثم بين الشعوب والشعوب ثم بين قوى وهيئات المجتمع المدني ، بل تحاول فعل الأمر نفسه حتى داخل المجال الممانع وهي تعمل بالليل والنهار لنشر فتنة عبر حروب قذرة والإساءة والتشويه والتفتيت..كلكم كعرب تدركون بأنّ أمرين في تاريخنا كانا سببا في الهلاك(= ويل للعرب من شرّ قد اقترب):التناحر القبلي والتمكين للنّفاق..فلقد فشل العرب وذهبتم ريحهم باستفحال التناحر القبلي..هذا التناحر الذي قد تنتجه كلمة غير مناسبة أو سلوك غير وفيّ أو لا مسؤول، يفعل في الذات العربية فعل النار في الهشيم، فإذن راقبوا كلماتكم سلوككم جيدا..والأمر الثاني التمكين للمنافقين واستسهال أمرهم فإذا بهم يصنعون الفشل..إن مقتضى كونوا أحرار في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون، صرخة ثائر حرّ ضمآن من الماء محاط بالخذلان لكنه مرتوي حدّ الكمال من رحيق الكرامة المختوم وحتمية النصر المحتوم..فلسطين سيحررها الأحرار الذين صنعتهم المبادئ وتجارب التضحية والوفاء وأخلاقيات الفرسان..لنقضي على ضعفنا وهزائمنا وانحطاطنا وتفاهاتنا ونرقى..لنكن أوفياء ولا نتآمر تآمر قبائل الجاهلية على بعضها..نراقب جيدا لغتنا وأساليبنا ولا نكون جبناء وظلمة..فلا نساعد العدو علينا ثم نرفع علامة النّصر كالبلهى..
فلسطين قضية عادلة وبديهية غير أننا لا زلنا لا نفكّر بطريقة عادلة وصحيحة..فهل يكون يوم القدس العالمي مناسبة للتعبير عن الغضب والتضامن وأيضا المقاومة النظرية لإعادة بناء الموقف العقلاني والأخلاقي من القضية الجوهرية في كفاحنا العربي؟

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *