الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / بين التحليل السياسي والسمسرة ومسح الجوخ…و(tralala)

بين التحليل السياسي والسمسرة ومسح الجوخ…و(tralala)


ادريس هاني

تصبح المغالطة مشكلة قيمية حين تتحوّل إلى منهج مقصود وإلى كذب مخطط..يجري هذا في الإعلام كما يجري في الخطاب السياسي المغشوش..لذا فإنّ عدوّ الزّيف في الإعلام والتحليل السياسي هو محلّل الخطاب الذي يحيط بأسرار ما يحبل به الخطاب من نقائض في بنيته الحجاجية فضلا عن تاريخ الخطاب وتأويله في أطوار متفرقة مما يكشف عن عدم استقامة المغالط بوصفه ظاهرة في الإعلام وفي السياسة..
الضجيج الذي يحدثه المغالط في مجال الإعلام أو التحليل السياسي يربك المتلقّي العادي الذي يتلقّى الخبر بوصفه صحيحا: كل ما يقال فهو صحيح..لكنه لا يبدو مقنعا لناقذ الخطاب حينما يدرك طبيعة الإحالات ومزاعم المحلل وادعاءاته..واحدة من علامات هذا الزّيف إسناد المحلل لنفسه الكثير من المواقف والآراء والاستشرافات من دون توثيق ، لا سيما مجال المغالط هو حقل التخاطب الشفقهي مما يجعلنا أمام ظاهرة يتعين التعاطي معها من منظور انثربولوجيا الكذب، فالمغالط يحيل على أفكار حقبة ما إلى نفسه، فيعتبر قراءة مقال في لوموند ديبلوماتيك مثلا وثيقة تنسب إليه..لقد وقفت على أمثلة رهيبة في هذا المجال، حيث كان أحدهم كاتبا ومؤرخا (س) عاش في مصر فترة ما، يكتب مقالات في الأهرام خلال أربعينيات خمسينيات القرن الماضي باسم مستعار لكن بعد مرور نصف قرن كتب موسوعة تاريخية فيها الكثير من الهنات وكان يستند فيها على مقالاته التي كتبها باسم مستعار بوصفها وثيقة كتبها كتاب من عهد الأربعينيا في الأهرام..هذا نموذج ربما أذكى مما نجده اليوم من عيّنات “ترالالالية” حيث مزاعم البعض تستخفّ بذكاء القارئ الذي يتابع تاريخ الأفكار والسياسات. هذا في المنطوق اليومي يسمى دجلا..وهو ما يضرّ بجودة التحليل السياسي في البلاد العربية..بإمكان أي واحد يسطوا على تحليل سياسي في أي حقبة من الحقب وينسبه ببهلوانية لنفسه ..ولكن حين تتكرر مثل هذه الإدعاءات في صمت عارم وعدم اكتراث المتلقّي فإنّ منسوب الدجل يزداد حدّ القرف..غياب الحركة النقدية في مجال تحليل الخطاب السياسي بما فيه ذلك الذي يأخذ طابع التحليل السياسي ظاهرة سلبية تساهم في انحطاط التحليل السياسي وفوضاه العارمة..لا قيمة لأي ادعاء من دون توثيق. ثم لا زلنا في الوطن العربي نعاني من الخلط الكبير بين التحليل السياسي والسمسرة، وهذا في أقل التقادير يضعنا أمام شكل من القراءات السائلة التي تميّع المواقف وتجعل السياسة عبارة عن جري سمسري فيه يصبح التملق والدسائس لعبة مستدامة، ويتحول المجال إلى حرب، وهرولة، وتآمر، ونمائم، وسلوك مافيوزي بينما حقل التحليل السياسي هو تأمل ونظر وتفكير وبحث عن الحقيقة..وعادة ما تنعكس حالة المحلل السياسي المغالط على استقامته الفكرية حيث يترنّح بين مقروئيات كثيرة بينما ينخرط فيما ينتهكها من مواقف وسياسات..علم النّفس المرضي للمحلل السياسي أيضا يجعلنا أمام ذات الأحاسيس التي قد تنتابه كل من هو مصاب بأعراض العصاب..فمظاهر البارنويا تتجلّى في هذا الخطاب الذي يستهين بمفارقاته لأنها تعتبر وظائف أساسية في تحقيق الغرض من الخطاب الذي يتمثّله، فتناقضات الخطاب تختلف بتوتّرات الحالات التي تعتري صاحب التحليل نفسه، هنا المحلل السياسي هو في حاجة إلى تحليل نفسي..
آفة الدجل في مجال التحليل السياسي والاصطفافات السياسية هو النّط السريع بالحدّ الأدنى من معطيات هي في التقدير العلمي لا تمثّل وثيقة تصلح مستندا لقيام تحليل عميق..تستهلك المعطيات هنا مثل الحشيش لأن الغاية منها الإثارة وليس الحقيقة..ولا يهمّ المغالط أن يتمّ تقويض تلك المعطيات في الزمن المنظور لأنه معني باللحظة تحت ضغط بارانويّا الإخبار..يتحلّى المحقق بالرّوية واللّبث في نخل الخبر وتأثيله..فالتسرع في الحكم والموقف وكذا السذاجة في الإنصات هي طبيعة في العوام وليست من صفات العلماء والمحققين..يشبه المحلل السياسي الذي لم يضف على حقائق السياسة سوى الضوضاء حالة شراء الذّمم، حيث يصبح الراجح في الرأي والموقف حامل أكياس المال..يا للبؤس حين يصبح السياسوي المدجّن والمدجّل عبدا متملّقا لذراري البيترودولار كما نجد اليوم في الإعلام والسياسات..بعضهم يظن أنه قادر أن يشتري كل شيء حتى إرشاء الحقيقة وشراء الألقاب وتأليف ميليشيا من بنات آوى لتشكيل جبهة تشبه جبهة الحيوانات المصابة بالطاعون..هنا حيث حذاء الحرّ قادر أن يدعس على كتيبة من ممتهني القوادة السياسية أو الميليشيا المصابة بالفالج والبلهارسيا..يطلّون برؤوسهم كالجرد يرعى على بقايا الطّعام..جبلوا على الدسائس والطعن في الظهر كالثعابين..الحرّ لا يستفزّ..ولسان النميمة تقطعه فيزياء الزّمن الذي يجهل أثره – من لاعهد لهم بلغة النسبية – في معادلة الانتصار..التّاريخ لا يصنعه “ماسح الجوخ”، وإن كان يسمح له بالوجود كجزء من حركة النفاق التي ابتلي بها الأحرار..وأكبر ابتلاء للأحرار أنّ المنافقين أصبحوا يزاحمونهم في شعار الحرّية والتّحدّي..مغالطة أخرى تنضاف لملحمة من الكتاب الأسود للمنافقين عبر العصور..
لقد استوى في عالمنا العربي كل شيء..صدقوني فلست أقولها من باب البلاغة: لا يختلف حديث المحلل السياسي اليوم من حيث المحتوى عن تحليل الجدّات(مع وجود الاستثناء طبعا)، ترتكز في نظر القطيع جودة التحليل والإخبار على مستند الشهرة والأسطرة: قالها فلان، وحللها فلان..كما تصبح العناصر الأجنبية عن الموضوع بمثابة رسائل في خطاب فارع يستمد قيمته من الإجالات الخاطئة..التحليل العلمي والسيميائي للخطاب يكشف عن مرض الخطاب من خلال رصد رسائله وسياقاته، هذا ناهيك إن كنت على إحاطة بالخفايا والمعطيات الكامنة وراء هذا الشّكل من الخطاب والتّاريخ اللاّتاريخي لمحترفي هواية النصب والاحتيال في المجال الرمزي..خطابي هذا وجبة صباحية لبعض محترفي الدسائس والنميمة والمزايدات والدجل..أنا بالفعل أحتقر شيطانكم الجبان والبليد..ما منعني من استخراجكم من جحوركم كصلال سامّة جبانة سوى رمق من الصّبر تمّ استنزافه…
ادريس هاني:13:7:2018

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *