الرئيسية / الملف السياسي / العالم / ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(4)

ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(4)

ادريس هاني

كان الشّرق الأوسط آخر مجال مارست فيه الولايات المتحدة الأمريكية القوّة الصلبة، وقد حاولت إسرائيل أن تواصل ممارسة القوة بذات المنهجية فكان مصيرها ذاته هو الفشل في تحقيق مردودية حقيقية بواسطة القوة..كان آخر مشوار في القوة الصلبة مارسته إسرائيل في حرب تموز وتأكّد في حرب غزّة..إسرائبل حليف متين لواشنطن وليست مجرد محور للقيام بحرب وكالة..ذلك لأنّ إسرائيل بعد هذه الهزيمة لا زالت تبحث عن وسائل القوة البديلة لأنها نشأت وتطورت على أساس القوة الصلبة، وهنا يكمن القلق الأمريكي نفسه حيال إسرائيل..

بعد النتائج المخيبة للآمال في الحرب على أفغانستان والعراق وما تكبدته إسرائبل في حرب تموز، كان لا بدّ أن يحدث تغيير كبير في السياسة الأمريكية..لكن ما حصل بعد ذلك ليس انتقالا لخيار آخر بقدر ما هي لحظة استراحة مقاتل..سأمضي هنا في الحديث عن مستوى آخر من القوة لكن في الحقيقة لا أعتبره خيارا حقيقيا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية..أعني ما حصل في عهد أوباما هو استراحة وليس خيارا..وسيكون من التبسيط إن نحن اعتبرنا أن ترامب يملك من السلطات الحقيقية لكي يغير هذه الاستراتيجيا رأسا على عقب..نُذكّر دائما أننا أمام رؤساء يلعبون أدوارا يحددها السيناريست ويفعّلها المخرج..لكن مع ذلك لا بد أن نتوقف عند هذه السياسية الجديدة التي طورها جوزيف ناي  وشكلت أرضية وإطارا لسياسة أوباما..ويتعين هنا أن نذكّر بأنّ هناك ما يفرض أن نعيد تقييم أطروحة هنتنغتون التي وجب أن نعيد قراءتها في ضوء القوة الناعمة وفي أي سياسة وجب علينا وضعها..صحيح أنّ جوهر فكرة الصدام خرجت من جبة المستشرق المخضرم ومستشار البيت الأبيض والبانتاغون برنار لويس..هذا الأخير دعى إلى استعمال القوة الصلبة بلا هوادة..غير أنّ فكرة الصدام لدى هنتنغتون لا تلتقي مع مقاصد برنار لويس..إن أطروحة برنار لويس في الصدام تشرعن استعمال القوة الصلبة بينما فكرة الصدام عند هنتنغتون تحذيرية تدعوا للانكفاء على النموذج الحضاري وعدم إلزام غير الغرب به..لقد انتفض الكثيرون ضد هنتنعتون  وأساؤوا قراءته وصوروه ككاهن للعنف والقوة الصلبة الأمريكية فقط لأنه ربط بين النموذج الحضاري والهوية..وهذا في الحقيقة استفزاز انثربولوجي وليس استفزازا سياسيا..لقد دعى أمريكا للاهتمام بهويتها الغربية قبل أن يجرفها تيار الهجرة..في أطروحة هنتنغتون تأكيد على النموذج الحضاري ولكنه لم يذهب باتجاه استعماله لا بواسطة القوة الصلبة ولا بواسطة القوة الناعمة في سياسة الإرغام..إن هنتنغتون ضدّ الإرغام لسبب بسيط هو أنّه لا يرى جدوى من التأثير بالنموذج الغربي بوصفه خاصّا ويذهب إلى حدّ اعتبار فرض النموذج بالقوة بمثابة خيار غير أخلاقي..وإذن وكما أكدنا منذ سنوات مخالفين كلّ القراءات العربية وغير العربية هو أنها ليست أطروحة للحرب..هناك أفكار كثيرة استعملها هينتنغتون وتم الاستفادة منها من تقارير عدّة ولكن جوهر هذه الأطروحة هو نقيض للسياسة الأمريكية، ذلك لأنّ جوهر السياسة الأمريكية هو الإخضاع بمستويات متعددة من القوّة، بينما أطروحة الصدام تقوم على الدعوة إلى الانسحاب وإيقاف سياسة التدخل والإخضاع ومقاومة التهديد الذي يستهدف أمريكا والغرب داخل حدوده لا خارجها..فإذن نحسم الأمر ونقول بأنّ أطروحة الصدام بين الحضارات هي ليست دعوة إلى العنف بل دعوة للإنكفاء..ليست إنشاء للصدام بل إخبارا وتحذيرا منه في حال تصادم النماذج الحضارية..فهي إذن لا تنتمي للقوة الصلبة ولا الناعمة ولا لأي مستوى آخر من مستويات القوّة، هي أطروحة للاكتفاء الذاتي الغربي وفق نموذجه..قد يخطئ هنتنغتون في تقدير الهويّات، وهو كما قلت خطأ أنثربولوجي ولكنه لم يخطئ في الدعوة إلى الكفّ عن سياسة التدخل وفرض النموذج..إذن قد يخطّؤونه فيما نصححه من أطروحته، لأن أمريكا عاجزة عن أن تعيش من دون سياسة إخضاع..إن أطروحة هنتنغتون تصلح لما بعد نفاذ كل أشكال ومستويات القوة المذكورة، إنه خيار أمريكا بعد أن تتحوّل إلى دولة عادية..

ظلّ هنتنغتون متشبّثا بأنّ النموذج الحضاري الغربي هو واحد من النماذج وهو غير قابل للتعميم فلا جدوى من سياسة فرضه بالقوة ولا حتى بالإقناع..نعم هو يتحدث عن تفوق النموذج الغربي ولا يرى جدوى من محاولة تقاسمه مع الشعوب، لكنه وجد في النموذج الحضاري ما يصلح قوة تفسيرية لحوادث ما بعد الحرب الباردة، أي الحروب التي سيكون منبعها ثقافي وعرقي وحضاري..فالنموذج الغربي فريد في نظر هنتنغتون ولكنه غير قابل للتعميم..أي بتعبير آخر هو نموذج خاص وليس نموذجا كونيّا..وبهذا ضرب في جوهر الفكر الغربي نفسه الذي لا زال يقدّم مشروعه بوصفه حداثة كونية..

إن البديل عن جملة الخيارات التي قدمت كتقارير ومشاريع رؤية لترشيد السياسة الخارجية الأمريكية لم تتجه ناحية هذه الأطروحة، بل ستحاول أن تجد في مفهوم القوة الناعمة شكلا من الرّاحلة البيولوجية قبل التحوّل إلى خيار ثالثة كما سنرى..لم يتخلّ الأمريكيون عن تلك الفكرة التي عبّر عنها فوكوياما حينئذ وهي انتصار النموذج الليبرالي في تاريخ الصراع بين النماذج، وهم يحاولون التأكيد على هذه الغلبة التاريخية بواسطة خيارات أخرى قوّوية يتبادلون أدوارها في ستوديوهات البيت الأبيض..

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *