الرئيسية / الملف السياسي / العالم / ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(2)

ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(2)

ادريس هاني

سعت أمريكا في العهد البوشي إلى إظهار فائض القوة الصلبة لتحتلّ المجال الاستراتيجي وتعزز وجودها كقطب وحيد..فقد اعتمدت القوة الصلبة على الطريقة التقليدية حيث لم يكن في تلك المرحلة الانتقالية من ينافس أو يهدد القدرة الأمريكية..شنّت أمريكا حروبا خارج الإرادة الأممية التي سددت لها أكبر ضربة لم تقم منها حتّى استخدام الروس لسلسلة من الاعتراضات -الفيتو- عشية إعلان الحرب على سوريا..تحت زهو الانتصار في الحرب الباردة ظنت أمريكا أنها تمتلك القدرة الكافية للهيمنة على العالم..لم تنظر إلى أن العالم في حالة تشكل جديد..سقوط الاتحاد السوفياتي في الحقيقة لم يكن سقوطا لقطب وانتصار لقطب بل هو سقوط لنمط الحرب الباردة وفق قانون الأواني المستطرقة..الزمن الانتقالي الاستراتيجي قد يطول ويوحي بأنّ القطب الثاني في معادلة الحرب الباردة سيربح الرهان كما ظنّ كيسنجر وكما تغنّى فوكوياما لكن في الحقيقة كان القطب الرأسمالي يقاوم المرض..ظهرت في تلك الآونة أفكار تعزز ذهان القطب الواحد..فهذا انتصار تمّ تكييفه بواسطة فلسفة التاريخ الهيغلية عند فوكوياما، وبتنا أمام نهاية التاريخ وليس أمام مرحلة انتقالية وانهيار لنموذج الحرب الباردة..

على هامش هذه النزعة القوّويّة كانت هناك أطاريح تحذيرية..فلقد مثّلت أطروحة صدام الحضارات لهنتنغتون صيحة في واد على الرغم مما تضمنته من أفكار مستفزة نظرا لتمسّكها بتفوّق الغرب على سواه، لكنها لم تكن تحريضا على القوة الصلبة بل أستطيع أن أؤكد كما فعلت منذ عام 2000م(وانظر أيضا كتابي المفارقة والمعانقة) على أنها أطروحة انزواء وتحذير كما أنها أطروحة تعزز فكرة أن أمريكا عاجزة عن الهيمنة على العالم..لكن الإدارة الأمريكية وجدت في أطروحة فوكوياما المنحدرة من فكرة رجل الاستشراق المخضرم برنار لويس خير معين أيديولوجي لتحقيق هذيان القوة الصلبة..

كانت أمريكا تحتكر التفوق العسكري في غياب منافس أنذاك..وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي داخل الولايات المتحدة تحدثت عن اعتبار أزيد من 80 في المائة من الشعب الأمريكي الحرب على أفغانستان خطأ وأقلّ منه بقليل بالنسبة للحرب على العراق وسوف تسجل ما يقارب 60 في المائة من ذات الموقف حيال الحرب على سوريا إلاّ أن أمريكا استخدمت القوة الصلبة في التدخل المباشر، وهو ما أنتج فظاعات مهولة من دون أن تحقق أمريكا أهدافا استراتيجية..لنتذكّر أنّه في كل التقارير الاستراتيجية المعلنة وغير المعلنة يكون العدو الاستراتيجي لأمريكا هو الصين والروس وإيران..خلال الحروب الأمريكية خرجت هذه الأخيرة مدينة للصين التي أظهرت تمركزا غير مسبوق في التجارة والاقتصاد الدوليين وبرزت كقوة مالية عظمى..بينما استطاعت روسيا أن ترمم جروح سقوط الاتحاد السوفياتي لتعود إلى الواجهة كقطب دولي كبير..أما إيران فقد تحولت إلى القوة الأولى في المنطقة وارتقت في سلم الصراع مع الغرب لتحتل لها مكانا في النّادي النّووي..لقد أسقطت أمريكا أفغانستان والعراق ولكنها لم تؤثّر على التطور الكبير الذي أنجزه الأقطاب الثلاثة..لقد فشلت القوة الصلبة في المنطقة وازداد منسوب المقاومة فأصبحت إسرائيل في حرج لم تعرفه منذ نشأة الاحتلال..

لم تكن شخصية جورج بوش دبليو أساسية في هذا الاختيار، فقد تحدثنا عن أنه ممثل دور في فيلم كان بالإمكان أن يلعبه آخرون..لكن بوش كان يتمتع بشخصية كوبوية بامتياز..عبّر ذات مرّة عن إعجابه بتشيك نوريس الممثل الأمريكي الذي ملأ الشاشة ببطولات تندرج في إطار برامج العلاج من الهزيمة في فيتنام..قال بأنه معجب بقبضته لأنها تمثل القبضة الأمريكية..لم يتابع جورج بوش الإبن فيلم طريق التنين لكي يدرك أن تشيك نوريس قضى مسكينا تحت ضربات بروس لي(الصين) في نهاية حزينة..كان العالم منشغلا بأطروحة حوار الحضارات ردّا على هنتنغتون..في محاولة للاستهداف خاطئة..لم يكن بوش يطبق فكرة هنتنعتون بل كان يطبق فكرة فوكوياما بقبضة تشيك نوريس أو على الأقل محاولة تطبيق فكرة كيّ الوعي على امتداد العالم الخارج توّا من تحت معادلة الحرب الباردة..

بدا السيناريست الأمريكي مدركا لخطورة الوضع..فالقوة الصلبة معناها ارتداد القوة على الذّات مثل من يلكم الجدار..لكل سياسة مساحة زمنية مقررة..لو زاد العهد البوشي عن حدّه لانهار الكيان الأمريكي..من هنا كان لا بد من إسدال الستار وإعلان نهاية فيلم انتهى بطريقة غير مشوقة لتبدأ وقائع فيلم جديد..السياسة البديلة لا تعني نهاية زمن الإخضاع بل تعني تبنّي سياسة أخرى أقل كلفة مع تحقيق ذات الغرض..لم تكد أمريكا لتنهي ملحمة الغزو حتى بدأت نتائج الحرب المزرية تظهر على الميزان التجاري الأمريكي..قال بوش: لا أدري لماذا يكرهوننا؟ وطبيعي أن تكون الكراهية هي النتيجة المتوقعة لاستعمال القوة الصلبة..كان سؤالا بليدا، لكنه أجاب عن محصول مرحلة..لم نكن أمام نهاية تاريخ بل كنّا أمام نهاية تاريخ القوة الصلبة..أمام نهاية الفيلم الأوّل……..يتبع

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *