الرئيسية / الملف السياسي / العالم / ذروة الإمبريالية(63)

ذروة الإمبريالية(63)


ادريس هاني

إنّ موضوع الإمبريالية هو الجغرافيا..تنظيم المكان..باعتباره المشترك، ومجال التباري..هذه الأخيرة هي مجال ممارسة الهيمنة..مجال النهب والاستنزاف..وإذن هي مجال تقسيم وتوزيع وخرائط..يسبق الجغرافي الجيش إلى مسح الأرض قبل الغزو..الجغرافيا هي مجال التنظيم والسلم والحرب وخطوط الصدع..وإذن هي مجال السياسة والاقتصاد والثقافة..بل هي ذلك الشيء الأكثر حضورا في التاريخ..لم تُدخل مدرسة “الآنال” الجغرافيا في اهتمام المؤرخ كما لو أن الجغرافيا لم تكن حاضرة في ذهن المؤرخين، بل فقط أعادت لها الاعتبار بعد هذا الاستبعاد..بروديل نفسه جعل من المكان مدخلا لدراسة الكائن، أي ليست الجغرافيا فقط مدخلا للتاريخ بل هي مدخل للسوسيولوجيا..فالثقافة والعلاقات الاجتماعية تجري في المكان وتنشأ من طبيعة العلاقة معه..بخلاف ما ينزع إليه البعض من أن الحداثة ركزت على الزمان بينما ما بعد الحداثة ركزت على المكان فإنّ الحداثة وما بعدها كليهما مضغوطان بحتمية المكان..العولمة نفسها هي فكرة عن المكان المفتوح..وخلف المكان المغلق أو المفتوح هناك عمل إمبريالي..فالإمبريالية تستغل كل شيء: التاريخ والجغرافيا مدمجين أو في حالة فكاك..الحداثة في نظر ماكس ويبر هي نزع الساحرية عن العالم (désenchantement du monde ) أو حسب ترجمة صديقنا الفيلسوف محمد سبيلا: نزع الابتهاج عن العالم الفكرة التي سيتوسّع فيها مارسيل غوشي أكثر..هذه النظرة أثرت على مفهوم الجغرافيا خلافا لما هو مطلوب من ما بعد الحداثة التي ستعيد الابتهاج للعالم وبالتالي الأهمية للمكان..أعتقد أنّ هذا غير صحيح، فما بعد الحداثة هي من سينزع الابتهاج أكثر عن العالم، لأنها وكما وصف مظاهر عالم الغد جاك أتالي: العودة إلى الترحال، وهذا من شأنه أن يؤثّر على شاعرية المكان – بتعبير غاستون باشلار – التي تتطلّب اهتماما وإقامة بالمكان..في تقديري يستحيل وجود تاريخ بمغزل عن الجغرافيا..نُقدر الزمن بطلوع الشمس وبحركة القمر..نؤرخ لأحداث تجري في الأرض..هناك جغرافيا زمنية بقدر ما هناك زمن جغرافي..كما يقول أحدهم : كل شيء أصبح جغرافيا..وكم من موبقة اقترفت باسم الجغرافيا..هل هذا كله يا ترى يجري بمعزل عن الإمبريالية أو أنذ هذه الأخيرة هي في منأى عن الإشكالية الجغرافية أم أنها هي من يكون الأكثر استغلالا للجغرافيا باعتبارها تهيمن على كل شيء يجري داخل المجال؟ من يتفلّت من هيمنة الإمبريالية سوى من يقاوم..
كيف تفكر الإمبريالية في الجغرافيا..كيف تستعملها..ما حضنا كثالثيين من التفكير الجغرافي؟
حين تجهل الجغرافيا فإنك لا تستطيع أن تمتدّ في المجال، ولا أن تمنع الاحتلال..كما كان الهنود الحمر يصعون آذانهم على الأرض لسماع صوت حوافر العدو من مسافات بعيدة، فكذلك إنّ سماع دبيب الاستعمار على مسافة بعيدة أمر مهم اليوم..تستطيع من خلال لعبة الدومينو والتفكير الجغرافي التكهن بالخطوات القادمة على المسافة الجغرافية..
أعود إلى حكاية أخرى، سبق وتناولتها كمدخل للإجابة عن سؤال: هل يملك العرب استراتيجيا؟..قبل سنوات عارضني أحد الظواهر الصوتية في قولي بانعدام وجود استراتيجيا لدى بعض دول الخليج..كنت أدرك أنّ هذا نوع من الاعتراض يقوم على حبّ الاعتراض والتّفاهة، وما أكثرها، لأنّ المتحدث كان جاهلا بتعقيدات الجغرافيا وفلسفتها وإبستيمولجيتها وأشياء أخرى تتجاوز الأنماط البوليميكية التي اعتاد عليها عديد من المحللين “السياسويين” في منطقتنا..لم يكن هناك من إمكانية للتوضيح بأنّ الاستراتيجيا السياسية مرتبطة بالمكان والإقليم..فما يجري اليوم هو سوء تقدير لما يسميه كابلان بانتقام الجغرافيا..الانطلاق من النظرة الكلاسيكية للجغرافية يحجب عنّا تحوّلاتها..هذه التحولات في الجغرافيا المادية والبشرية كان لها تأثير سياسي: الربيع العربي إن صحّ هذا الوصف مثالا..تدوير زوايا الجغرافيا واستغلال جدليتها..إننا لم ندخل بعد زمن التفكير الجغرافي..أي حديث عن استراتيجيا عربية تقودها دوائر المجموعة النفطية ليس سوى تنفيذ مخطط، فمجال السياسات النفطية غير مستقل وعليه يقوم الصراع اليوم في الشّرق الأوسط..لم يكن النفط يوما عامل سيادة بل على عكس ذلك ظلّ يشكل خطرا على السيادة..والدول التي تمارس سيادتها النفطية تعتبر اليوم مناهضة للإمبريالية..لكن هذا لا يمنع من أن نسمع وجود استراتيجيا لدى هذه المحاور الإقليمية في المؤتمرات الصحافية كتلك التي تحدث بها أنور ماجد عشقي المعني بإيجاد مسوغات “استراتيجيانية” تستعمل مفاهيم الجيوستراتيجيا في تعزيز الخطوات الممنهجة باتجاه التطبيق..يتحدث بلغة ماكندر عن قلب العالم وأوراسيا كما لو كان بالفعل يعتقد أنّ بلاده هي دولة جيوستراتيجية، هذا في الوقت الذي سبق أن تحدث برجنسكي عن أن بعض الدول بما فيها بريطانيا ليست جيوستراتيجية..كل شيء مقدّر له أن يتميّع في المنطقة، فالموقف الجيوستراتيجي يتطلب جملة من الشروط لا تتوفر لدى هذه الدول التي تعيش على سبيل الحماية..وفي ثنايا الخطاب نقف على الحقيقة ألا وهي أنّ محاولة التطبيع هنا بوصفهم بوابة العالم الإسلامي يعني جرّ سائر العالم العربي والإسلامي للتطبيع، الشيء الذي يعبّر عن رؤية الإمبريالية للجغرافيا وللدين الجغرافي الذي بات اليوم عاملا غير موحدا، لأنّ الجغرافيا الدينية طرف في الصراع وإلاّ كيف نفهم حكاية داعش والقاعدة؟ هناك عناد فاق كل شيء للإطاحة بسوريا باعتبارها عقبة وكذا كل الدول التي تقف ضد التطبيع..عن أي أبعاد جيوستراتيجيا يتحدث محور صغير في الشرق الأوسط، هل الوصول إلى “الهارتلاند” متاح لدولة ثالثية أو شرق أوسطية ينهض اقتصادها على الريع النفطي؟ هل المجال الأوراسي متاح بهذه السهولة أم أنّنا نتحدث لغة الكبار مثل خادم يتحدّث لغة السيد ويلبس معطفه حين يغيب عن البيت؟ فالذي لا يملك سيادته على جغرافيته كيف يفكر في اختراق المجال الأوراسي وقلب العالم حيث من امتلكه امتلك السيطرة على العالم حسب القاعدة الجيوستراتيجية التي أرساها ماكندر..حين تكون منفّذا لمخطط جيوستراتيجي إمبريالي فأنت بطبيعة الحال جزء من اللعبة الجيوبوليتيكية غير أنك لست من يتحكم فيها بل أنت ستكون أيضا ضحيتها في المستقبل القريب..إنّني أعتبر تلك التصريحات جزء من الكوميديا الجيوستراتيجية..
ادريس هاني :27/9/2018

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *