الرئيسية / الملف السياسي / الوطن العربي / ليالي العروبة في الأمم المتحدة…

ليالي العروبة في الأمم المتحدة…

ادريس هاني

الحدث الأبرز في لقاء الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 73، هو الموقف اللاّفت والذّكي الذي قامت به وزيرة الخارجية لدولة النمسا السيدة كارين كنايسل حين اختارت أن تخاطب من المنبر الأممي المجتمع الدولي باللغة العربية..الأمر هنا بالغ الأهمية من جهات متعددة..فهذه الأخيرة هي ذات ميول يمينية ورافضة للهجرة ولكنها خاطبت العالم بلغة بات يتطاول عليها أهلها الجاهلون بها قبل الأغيار..الدرس الأول المستفاد من هذه الإطلالة هو أنّها خاطبت العالم باللغة العربية التي مدحتها واعتبرتها جميلة واعتبرتها أيضا من خلال اختيارها لغة الخطاب قادرة أن تخاطب العقول والمشاعر العالمية..فأي حديث سلبي بعد هذا عن قدرات اللغة العربية سيندرج في رطانة الحقد والتّفاهة..نزيد في طينة التحدي بلّة فنقول: أخبرونا عن ذلك الشيء الذي لا تستطيع اللغة العربية أن تعبر عنه..وعن أي شيء يمكن أن يعبر عنه الأوربي لا تستطيع أن تعبر عنه العربية مع أننا نملك قضايا تستطيع العربية وحدها التعبير عنها وتعجز عنها اللغة الأوربية وأقلّها التعبير عن درجات الانحطاط: انحط وارتكس وهبط وسقط وتدحرج وانهدّ ونزل وهوى وخرّ وغيرها من تعابير السقوط الذي تتعرض له اللغة العربية من قبل خصومها..ويأتي الدرس الثاني من حيث أنّ السيدة كارين تحدثت بالعربية في الوقت الذي كان الكثير من المسؤولين العرب يتلوّون في لغات قومية أخرى..اللغة مسألة أساسية في التحرر والاستقلال والسيادة..لكن الدرس الأساسي هو أنّ السيدة كارين لم تخالف القانون المعمول به لأنّ اللغة العربية تعتبر لغة دولية ضمن ست لغات عالمية والتخاطب بها أمر وارد لولا أنّ بعض العرب يخذلون لغتهم القومية..فالسيد كارين تتقن سبع لغات واختارت العربية لغة مخاطبة العالم..ثم هي كانت أكثر استراتيجية من كل الحاضرين الغربيين لأنها فضلت أن تخاطب المنطقة الأكثر عرضة للحرب..ويعد خطاب الوزيرة النمساوية باللغة العربية انتصار لسوريا أيضا لأنّ الوزيرة تعلمت العربية في لبنان وتعاطت مع خط لبنان -دمشق واكتشفت جمالية اللغة العربية من خلال جمالية وحضارية التعايش في لبنان على الرغم من كل الحروب والمواجع، حيث للغة دور كبير في الهوية والتواصل وروابط النسيج الاجتماعي..تزوجت السيدة كارين مأخّرا ودعت إلى حفلت زفافها الرئيس بوتن الحليف الاستراتيجي لسوريا..

للسيدة كارين خبرة واسعة وهي أكاديمية متينة التكوين ، فقد تعاملت بمستوى المثقّف الذي من دونه تتحول السياسة إلى ممارسة كئيبة وسطحية..قالت السيدة الوزيرة لكي تشرح سبب اختيارها لهذه اللغة: “البشرية لديها صوت أمام الجمعية العامة وتحتاج أن تستخدمه للتعبير عن أولئك الموجودين خارج القاعة، وغارقين فى خضم الحروب والصراعات”..بهذا حاولت أن توقف قدرية التخاطب بالإنحليزي وهو ما يعني أنّ النزعة الجرمانية حاضرة في هذا الانقلاب الذكي في استراتيجيا اللغة..كلنا ندرك المشكلة اللغوية والثقافية في السياسة الأممية..كله يصب في صالح اللغة الإنجليزية في المرتبة الأولى..انتصار الوزيرة كارين للغة العربية هو بمثابة كاسحة ألغام قوية وتكتيك في الانتصار لكل اللغات التي يجب أن يسمعها العالم..قالت السيدة الوزيرة: “لماذا أفعل هذا؟ لأنها اللغة الوحيدة من ست لغات رسمية فى الأمم المتحدة، اللغة العربية لغة مهمة وجميلة وجزء من الحضارة العربية المهمة”..لقد تحدثت عن العرب كأصحاب حضارة..نتذكر بهذا ” شمس العرب تسطع على الغرب” لزيغرد هونكه..وتحدثت عن العرب وعن المآسي وكيف يعيش الإنسان هناك في جو من التقدير، تقول: ” لقد عشت فى لبنان أثناء الحرب، وتعلمت هناك كيف يواصل الناس الحياة رغم ظروفهم الصعبة، فكل الاحترام والتقدير لأولئك الرجال والنساء الذين لا يزالون يواصلون الحياة فى تلك الظروف”..

إن سيرة السيدة كارين حافلة بما من شأنه أن يفسر سبب هذا الميل والوفاء للعروبة، فقد عاشت فترة إلى جانب أبيها الطيار الخاص للملك الأردني..تقلبت في مهام وأنشطة بين التعليم والمسؤوليات الجماعية والديبلوماسية والإعلامية ..لقد قدمت دراسات وكتب مهمة عن الشرق الأوسط..كتبت عن النزاع حول الحدود في الشرق الأوسط ولها كتاب عن حزب الله تحت عنوان: “حزب الله: حركة المقاومة اللبنانية، جماعة “إرهابية” إسلامية أم مجرد حزب سياسى؟”..ولها كتب أخرى في السياسة الدولية..

إنّ السيدة كارين جلدت حاملي عقدة حقارة من العرب ونبّهتهم إلى قيمت لغتهم في المنظومة العالمية..جلدت من يتعاطى مع العرب كمشكلة وليس كإمكانية حضارية معاقة..أحيانا وجب أن نسمع اللغة العربية من فم نمساوي جميل وغير حاقد..لدي صديق فيلسوف كان يتابع دروس جيل دولوز بالكوليج دي فرانس وكان هناك شخص يتابع بإصرار هذه الدروس على الرغم من أنه ليس من شعبة الفلسفة، ولكنه كان حريصا على أن يسجل الدرس..قال له الطالب الفرنسي وكان كبيرا في السن لعله أكبر من دلوز نفسه: إنني آخذ هذه الدروس وأحررها ثم أعطيها لزوجتي تعيد تسجيلها بصوتها لأنني أرى أن صوت دولوز ليس “حلوا”..ففضّل أن يسمع فكر دولوز بصوت زوجته..نحن في الحقيقة نحتاج أن نسمع لغتنا من فم امرأة جرمانية وأتمنّى أن يكون الصوت برباطة جأش نيتشية..هي اكتشفت ليالي العروبة في بيروت كحقل لتصريف الدلالة الإنسانية والسياسية ونحن اكتشفنا ليالي الأنس في فيينا..

عن prizm

شاهد أيضاً

التنمية بعيدا عن التبعية حلم بعيد المنال..!

4 تشرين الأول 2023 د.محمد سيد أحمد* ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التنمية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *