الرئيسية / الملف السياسي / العالم / ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية (7)

ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية (7)

ادريس هاني

طرق أوباما البيت الفارسي..رسائل فارسية ..كان الباب محكما..40 عاما من الحصار والتآمر لن تجعل المهمّة سهلة ولن تجعل الباب ينفتح لعابر سبيل في اختبار سياسي اعتاد عليه الإيرانيون بوصفهم المستهدف الأهم في منطقة الشرق الأوسط والخليج..هناك غياب كامل للثقة..تحوّلت أنظار أوباما إلى بديل آخر بعد خيبات الأمل، كان بديلا مستعدا لكي يمضي شيكا على بياض..بديل أنهكه البحث المضني عن التمكين، هم الإخوان المسلمون..كان أوردوغان لا زال من المجاهيل غطت عليه كاريزما أربكان وسمعته..منحت القوة الناعمة للإخوان عنفوانا آخر..استطاعت تغيير أساليبهم..فتحت لهم مؤسسات التدريب على الديمقراطية والبرمجة العصبية اللغوية وجعلت منهم شركاء مصلحة فحجّوا إلى واشنطن زمرا وتدفّقوا نحوها من كلّ فجّ عميق..تطورت الدراسات والأبحاث في مؤسسة راند باتجاه البحث عن إعادة علاقة متينة بين أمريكا والإخوان حاولت أن تنظر في ما هو ممكن..فلقد رصدت الاستخبارات الأمريكية قدرة الإخوان الفائقة في مجال العمل الاجتماعي والقدرة على المساهمة في التعبئة منذ حصل التعارف والعمل المشترك في أفغانستان..اشتغل المستشرقون الشباب بالتّبع على هذه الفرضية..قدرة الإخوان على العمل الاجتماعي والقبول بالتعاون..حصلت لقاءات مع مركز الإخوان في مصر وكذا فروعه ونظائره على امتداد المنطقة..دافع غراهام فولر مسؤول سابق في جهاز الاستخبارات الأمريكية وباحث في مؤسسة راند التابعة للبانتاغون عن أطروحة منح الإخوان فرصة الحكم باعتبارهم أصدقاء أمريكا المفترضين..أما الإخوان فقد سالت مواقفهم وأفكارهم باتجاه التماهي مع ما يطلبه الحليف الجديد..خلال سنوات فقط انقل مزاج الإخوان وأصبح أكثر احتيالا وقدرة على المراوغة..كان أوردوغان من الناحية الأخرى هو الشخص الذي عملت عليه القوة الناعمة وقررت دعمه بمارشال أمريكي من المساعدات جعل منه أيقونة إنقاذ الاقتصاد التركي..هذه الأسطرة لرجل قدم من بلدية إستانبول إلى الرئاسة تم نسجها على شاشة الجزيرة بزعامة الإخواني أحمد منصور ونظرائه..صناعة القادة والنجوم والأساطير كما تتطلب القوة الناعمة..أصبح هناك نماذج للتفوق في العالم العربي والإسلامي تصلح نموذجا لهم ومن هناك تستمر عملية الجذب بالنموذج الأمريكي..انتفخ الإخوان بحشيش القوة الناعمة وسقطوا في الخداع الذاتي حيث اعتبروا أنفسهم القوة الأولى في المنطقة القادرة على التغيير..مكنتهم الدعاية الغربية من الانقضاض على الحراك الشعبي في المناطق العربية ، وتحوّل الربيع العربي إلى ربيع إخواني بامتياز..

أعلن أوردوغان بأنّه شريك في مشروع الشرق الأوسط الجديد، فتماهى مع منطق القوة الناعمة وقدم مسرحيات كثيرة على الطريقة الأمريكية انتهت إلى جذب الرأي العام في العالم العربي بفضل الضّخّ الإعلامي لقنوات الإخوان في المنطقة..

انتفخ ريش الإسلام السياسي في جغرافيا الربيع العربي المستقوي بالدعم الأمريكي، وعمل عبر التآمر على نسف الدول والكيانات، وأصبحنا أمام حرب بالوكالة ستخلف دمارا كبيرا قبل أن تحصل ارتدادات داخل المحاور الأمريكية المتنافسة في المنطقة..

وجد الإخوان في مصر الطريق سالكا واختطفوا حراك الشباب في مصر بعد أن كانوا آخر من التحق بالحراك..أظهر الرئيس مرسي الكثير من حسن النوايا للحليف الجديد كما قدم شهادة حسن السيرة حين راسل بيريز داعيا لإسرائيل وشعبها بالخير والرغد..وفي الوقت نفسه جمع كلّ قادة التكفير والتطرف في مؤتمر نصرة سوريا ووعد منظمة الجيش الحر التي تضمّ المنشقين والإخوان المسلمين بأن الجيش المصري سيكون تحت أمرهم..تأكّد الغباء الاستراتيجي فضلا عن إرادة الانخراط في مشروع أمبريالي كبير: الجيش المصري الذي حارب جنبا إلى جنب مع الجيش العربي السوري في حرب تشرين، سيضعه مورسي وجها لوجه في حرب لو قدّر لها أن تحدث وهو أمر مستحيل أحبطه الجيش المصري نفسه، سابقة في الفتنة والخراب، فضلا عن أنها كانت ستكون أكبر خدمة لإسرائيل..

شكّلت الحرب على سوريا منعطفا في هذه المؤامرة..ذلك لأنّ سوريا لم تكن دولة معزولة كما هي الدول التي استطاع الربيع العربي أن يجرف فيها الدولة والجيش والمؤسسات لصالح الفوضى، بل كانت جزء من محور الممانعة..هنا بدأت ردود الفعل جدّية لأنّ القوة الناعمة خرجت عن حدودها وتوسلت بمستوى أعنف من سياسة الإرغام حين عمدت إلى أسلوب تسليح المنظمات والمرتزقة بغرض إسقاط الدول..كانت سوريا مستهدفة من قبل الإخوان، وازداد الأمر احتقانا بعد فشل الانقلاب التآمري الذي انتهى إلى أحداث حماة التي حولها الاخوان إلى ما يشبه المحرقة التي أرادوا أن يؤسسوا عليها الشرعية التاريخية لحكم سوريا..فما أن تبينت الهوية الحقيقية للربيع العربي حتى انخرط إخوان سوريا وحلفاءهم في هذه الحرب التي أظهر فيها الإخوان حقدا تاريخيا لا نهائيا وأيضا غباء منقطع النظير حيث استمروا في المحاولة وأضاعوا على أنفسهم فرصة المصالحة مع النظام..لقد فضلوا التآمر والتعاون مع أمريكا على المصالحة مع النظام..لقد وجدت أمريكا في سوريا نموذجا لأفغانستان ثانية..ستكون أمريكا إلى جانب الإخوان في مواجهة سوريا والروس والإيرانيين..لقد كشفت الحرب على سوريا وفي سوريا عن الهوية الحقيقية للاصطفافات ولم يعد هناك ما يمنع من رؤية تلك الحقيقة ألا وهي أننا لسنا أمام ثورات بقدر ما نحن أمام مخطط جيوستراتيجي أمريكي بات معلنا وهو يقضي بتسليح المعارضين وخوض حروب بالوكالة..توسّل الإخوان بالأمريكيين لكي يتدخّلوا عسكريا في سوريا..لقد وقعوا في مفارقة أظهرت “لامبيتهم” الإستراتيجية..لقد تمنّوا لو كان العهد عهدا بوشيّا، لقد تمنوا لو أن أمريكا سلكت مع سوريا سياسة القوة الصلبة..لقد كرهوا أوباما لأنه التزم بالنص ولم يخرج عن سيناريو الحرب الذكية..لكنهم نسوا أنّ أوباما وبفضل القوة الناعمة سهّل لهم الطريق للتمكين..وسوف يصبح وضعهم حرجا بمجرد ما غادر أوباما لنكتشف إلى أيّ حدّ كانت إدارة أوباما هي المسؤولة عن تمكين الإحوان..تحدث الإخوان بعدئذ عن اختطاف الثّورة، لكن شباب 25 يناير هم من قال قبل سنوات أن الاخوان اختطفوا الثورة..والحقيقة هي أنهم جميعا اختطفوا في مخطط أكبر منهم ومن النظام الإقليمي العربي أنذاك..

تعسكرت الثورات وظهرت مسارب المؤامرة وفشل المسلحون في المضي في هذه المعركة من دون إمداد وتدخل كاد يقرّب القوة الناعمة من القوة الصلبة في جو من التلويح باستعمال القوة الذي يشكل عنوان فشل المشروع الإمبريالي في المنطقة..كان لا بدّ من تغيير السياسة بحثا عن سيناريو جديد وممثل جديد وجينيريك جديد..سيأتي ترامب لينسخ عهد أوباما ويلعن سكرتيرة حكومته في الخارجية التي حاولت أن تنافسه عبثا في الانتخابات، وهو في الحقيقة كان لا يفعل سوى ممارسة ذلك الطقس اللغوي الذي تحتضنه الحملة الانتخابية ومن خلاله تمر رسائل كثيرة تشخصن الخيارات السياسية أمار الرأي العام، تلك الخيارات التي تعتبر كما قلنا سابقا خيارات عميقة للدولة العميقة….يتبع

ادريس هاني:

ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(8)

ادريس هاني

ما كادت حقبة أوباما تنتهي حتى زاد منسوب الرداءة في العالم الذي سيعرف أهم ما أنتجته القوة الناعمة التي اعتمدت أساليب التّغلّب والفوضى الخلاّقة وبتنا أمام حالة شاملة من نظام الرداءة الذي عمّ العالم..لم يعد هناك حدود تحمي وظيفة ومصير المفاهيم الكبرى والمبادئ العليا، لقد كرست القوة الناعمة نظاما للرداءة كما سيجد أشمل تعبير عن هذه الوضعية في كتاب الباحث الكندي ألان دورنو” la Mediocratie” أي حكم التفاهة أو نظام الرداءة سمّيه ما شئت..في نظر ألان دونو خرجت السياسة من الشّأن العام، وبات المتنفذون أولئك الذين وصلوا إلى القمة من دون جهد أو ثورة..أي تعقيد في الفكر وأي تشبث بالمبدأ شأنه أن يجلب الإهانة لصاحبه..حتى المجال التربوي بات منتجا للتفاهة..الجامعات تخرج خبراء وليس مثقفين..أو تجعل العقل في حدود ما تطلبه الشركات..حتى الحرب على الإرهاب زادت من حظوظ التفاهة..لا شيء ممكن أن نفعله في مواجهة نظام التفاهة الذي اخترق كل المجالات..سأترك ألان دورنوا لأتحدّث عن هذا النظام من التحكم بالتفاهة أو الرداءة لأنها مجال اهتمامي منذ سنوات..ولأنّ لدينا منسوب من الرداءة في المجال العربي ازدادت نسبته مع طغيان القوة الناعمة..فلقد وجد التّافهون في المنطقة أيضا السبيل سالكة لبلوغ مواقعهم..فالكل تحت إشراف القوة الناعمة يمرّ..إنها ليست حالة استثنائية بل هي صناعة وبرمجة ونظام..لقد تمكنت الرداءة من اعتماد القوة الناعمة وآلياتها في تخفيض جودة التفكير في العالم..في السياسة والإعلام وحتى الثقافة نفسها بات لها مفهوم آخر..هي ذاتها التفاهة التي جعلت المفاهيم تمسخ في مختبرات الرداءة وتعطى لها معاني ووظائف تعيد إنتاج نظام الرداءة..في ضوء هذا النظام العالمي أصبحت الثّورة مقطوعة من شجرة وقصّة عبث صبياني تحت أعين استخبارات القوة النّاعمة..التحكم بفعاليات التفاهة في العالم وتمكينهم..انظر كيف أنّ مفاهيم سائلة من قبيل الحوكمة والشراكة أو التشاركية وغيرها من المفاهيم الفارغة حلّت محلّ السياسة والمفاهيم والمبادئ والقيم الكبرى المنتجة للعدالة..وستجد معنى التفاهة حينما تحبل برامج الإخوان في حكومات الربيع العربي بقاموس من المفاهيم الفارغة كما لو أنّهم منقذي الأمم..حتى التّديّن عانق التفاهة فأنتج إمّا طلاّب الحور العين و”بردلة” الجنة – من البورديل – أو طلاّب تمكين والمتاجرة في الذّمم..الحكومات مافيات لا تلتزم سوى بقواعد ما تمليه القوة الناعمة..قلب الكيانات وتدمير الدول وتخريب البلدان كله مقبول ومبرر في نظام الرداءة..الخيانة تحرر..والعمالة خبرات..والتطبيع مع الإحتلال عقلانية..تحضر العقلانية في نظام الرداءة بشكلها المغالط..تصوّر أنّ الإعلام نفسه الذي كان مجالا لكبرى الأفكار والمفاهيم أصبح مضرّا لصحة الوعي بفعل انقضاض التفاهة على صناعته..لقد غلب التّافهون وصارت لهم شوكة بفضل القوة الناعمة التي اعتمدت أيضا الفوضى الخلاّقة في المجالات المستهدفة فضلا عن التفاهة في مداها العالمي الذي تنتج أمما ومجتمعات أشبه بقطيع يسهل إدارته بأتفه أشكال الحوكمة..من خلال هذا النظام بات العدوان ليس في حاجة إلى المؤامرة لأنه فعل ذلك منذ تآمر على الذهن البشري، بل أصبح العدوان يتحكم بوضع سيناريوهات الأساطير التي يجب أن نحيا بها في زمن الرداءة..فالميركونتيلية الجديدة معنية بالبضاعة والاستهلاك وهذا يتطلب تعزيز التفاهة، لأنّ أيديولوجيا الاستهلاك لا تتعايش مع العقل النقدي..إنها مؤامرة حتى على الحداثة في جوهرها.. إنّ الباب المسدود الذي حذّر منه الفلاسفة أمام سيرورة العقل الأداتي هو باب التّفاهة الذي جعل فكرة التعقيد في الفكر والمشاعر والاجتماع قضية غير مرغوب فيها..أخرجت القوة الناعمة  التفاهة من مزابل الأمم ومنحتها تمركزا ممنهجا لا مجال لمقاومته..ستجد عند كلّ موقف مناهض للإمبريالية قطيعا من التّفاهة يحاول تغيير سياق الإشكالية ليفتح متاهة من المغالطة لن تخرج منها..ظهر إعلام الحجاج والجدل الفارغ..هنا في نظام التفاهة كل شيء يمرّ تحت شرعية أنه رأي ووجهة نظر..النقاش في البديهيات أهدر طاقة العقل وحوله إلى آلة تعمل وفق خواريزمية التّفاهة..إنها محاولة لإدارة العالم بالتفاهة وتقويض المعنى والتسامي..

وخلال حكم التفاهة قامت الإمبريالية بتنفيذ ما تبقى في أجندتها من مشاريع..إنّ التافهون لا يستطيعون رؤية الإمبريالية، فهم لا يرون سوى علف المفاهيم الرخوة بعد أن أفرغت من مضمونها التاريخي: ديمقراطية بمضمون التافهين..تفاهة الحكومات والمجتمع المدني والثقافة والآداب ومنظومة التربية والتكوين ونظام القيم، كل شيء طافح بلا مضمون كأنها عناوين يتشبث بها التافهوم للتشويش على ما تبقى من إمكانية لمقاومة مشاريع الهيمنة والاستغلال والاحتلال..جيل كامل من التفاهة أنتجته القوة الناعمة للقيام بدور تعزيز اليأس بالمفاهيم الكبرى وبالقدرة على التحرر من لعبة الأمم وخطط الإمبريالية..

لا جدوى من مقارعة التّفاهة بعد أن أصبحت لها عصبية وشوكة، ولكن الإطاحة بها تتطلب زمنا..وهذا الزمن هو زمان المقاومة لا الاستسلام كي تنضج الشروط الكفيلة بتقويض التّفاهة وإعادتها إلى حيث يجب أن تكون في مجرى مياه  عديمة لنظام عالمي جديد….يتبع

ادريس هاني: 17/8/2018

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *