الرئيسية / الملف السياسي / العالم / ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(9)

ثلاث رؤساء وثلاث سياسات أمريكية(9)

ادريس هاني

عملت القوة الناعمة على مستويين: تأمين عوامل الجذب من خلال الدعاية للنموذج وأيضا محاولة تقويض المفاهيم التي تتيح النباهة وتحفّز على المقاومة..هكذا وفي زمن القوة الناعمة وشيوع نظام التّفاهة والفوضى التي بدأت في إطار زرع الإلتباس والخلط في المفاهيم استطاعت القوة الناعمة عبر أساليبها أن تحيط المفاهيم التقليدية للمقاومة بأحكام التهوين والسخرية بذريعة أنّ هذه مفاهيم تنتمي لأزمنة انقرضت، هذا في الوقت الذي يعاد فيه تحيين أكثر الأفكار غباء وتفاهة..لقد قوضوا مفهوم التبعية، والامبريالية، والاستغلال، والسيادة، والاستقلال، والمقاومة..وأطلقوا مقابله مفاهيم سطحية رخوة وجد فيها جنود الحكم بالتفاهة فرصة للإفلات من ضغط الضمير..

نحصي عدد الخبراء المزيفيين في زمن القوة الناعمة فنقف على عدد مرعب لم يكن له مكانة زمن الكبار..ما الذي حدث يا ترى؟ يجب أن ينكمش العقل التساؤلي لكي تظل التفاهة فوق الرؤوس..

للقوة الناعمة كما للقوة الصلبة عملاؤها الذين يكيفون أنفسهم مع كل عهد جديد..لقد مزق الخبراء التافهون خرائطهم وغيروا أحكامهم بعد تغير السياسات..وفي الحقيقة هم يجدون أنفسهم في حالة حرجة وبهلوانية في الفترات الانتقالية  كمؤشّر البوصلة في حالة حيرة وعطل..وفي عهد القوة الناعمة تكاثرت هذه الظواهر في المنطقة العربية، وأصبح هناك أسلوب لإنتاج الرأي والموقف مراوغ  ثمّ سرعان ما تمّ التطبيع مع أشكال النذالة..

في الثورة التي أطلقتها القوة الناعمة بدأت أدبيات التّفاهة في سعي لكي تضمن لها موقع التنظير لثورة لا أساس تاريخي لها سوى الاحتقان وبضعة حيل مقولية أنتجتها مختبرات الرجعية للهروب من حالة الوعي التي تحرسها المفاهيم الكبرى المناهضة للعبة الأمم..إنّ حالة الاستغباء فاقت هنا حدها..والاستغباء حين يفوق حدّه يصبح غباء..إن تراجع الصدق والقيم والصراحة والنباهة هي نتيجة حتمية لتطبيقات القوة الناعمة على المجالات المستهدفة..فهي تسعى لتعرية المجتمعات من كل القيم الكفيلة بتحصينها لتحولها إلى كائنات عارية..وقد يحدث أنّ أساليب التفاهة تؤثّر حتى على خصوم الإمبريالية فيصبح المجال أيضا مخترقا بالتّفاهة والخداع والأساليب غير النظيفة..وهنا يكمن الخطر، حين يصبح من يحمل غايات إمبريالية بوسائل معارضة..فالقوة الناعمة تجعل البعض يقدم لها خدمات مجّانية..

كانت المنطقة على وشك أن تقع في فخّ القوة الناعمة حيث لاحظنا الكثير ممن يتحدث عن وقوع تغيير في أهداف السياسة الأمريكية وليس فقط السياسة الأمريكية..وتابع البعض بحماسة وانتظارية وقائع الحملة الانتخابية دون أن يقتنعوا بأنّ السياسة الأمريكية لا تستقرّ على مستوى واحد من القوّة..

تراجع مفهوم التبعية بشكل دراماتيكي مع أنّ الوقائع تثبت يوما بعد يوم أنّ غاية السياسة الأمريكية هو التبعية وليس التعاون..وتعتبر التبعية أداة لضمان التحكم الدائم..تحرّك أمريكا دول التبعية متى شاءت وفي أي مخطط شاءت..ولا يملك أتباعها خيارا لأنهم مشدودون من الأعناق بأساليب المساعدات التي تعتبر عنصرا حيويا في تدبير القوة الناعمة ومخطط الاستتباع..

محقت القوة الناعمة قاموس الممانعة وكرست قاموسا جديدا بمفاهيم رخوة حدّ التطبيع مع الاحتلال..ودائما سوف تتوسل القوة الناعمة بالواقعية التي تعني شيئا واحدا: كيف نطبّع مع الهزيمة..كيف نعترف بالمحتلّ..كيف نجعل من العمالة وجهة نظر. كيف ندين الحق في مقاومة الهيمنة بمفاهيم وظيفتها إخفاء ملامح الوقاحة والوصولية..ففي زمن التفاهة كل شيء يمارس بسلطة المفاهيم الزّائفة..محاولات أخرى مغالطة لإدانة الأمم الضعيفة وتبرئة الإمبريالية، وتسمية الأشياء بغير أسمائها..

 سيكون الوضع كارثيا حينما نتحدث في زمن التفاهة والتلبيس والفوضى عن مفهوم الشراكة والتحالف والاستقلال والسيادة والمهنية وقيم التسامح والموضوعية وما شابه ذلك من أدوات خداع نظام الرّداءة العالمي..فالقوة الناعمة تعني أيضا كيف نوظّف كلّ هذه التّفاهة في تعزيز التبعية..هي الحرب على الأمم بقوة التفاهة من دون قوة عسكرية..لقد أظهرت القوة الناعمة حقّا أنّ قوات الرداءة المسلحة هم أقوى من الجيوش والصواريخ والطائرات..يتبع

ادريس هاني:

عن prizm

شاهد أيضاً

انهيار اقتصادي عالمي في 2024 أو انقلاب بالولايات المتحدة في 2025

8 كانون أول 2023 *ألكسندر نازاروف بلغ دين الولايات المتحدة حينما دخلت الحرب العالمية الأولى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *