الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / خطوات ” صموئيل بيكيت تخطواتعبر ليل دمشق في “العود الأخير”

خطوات ” صموئيل بيكيت تخطواتعبر ليل دمشق في “العود الأخير”

17 اب 2023

الصمت والظلام هما الثنائية التي عملت عليها المخرجة ميسون علي في أولى تجاربها الاحترافية مع المسرح القومي في دمشق. وبعد ثلاثة أسابيع من التمارين والبحث في نصوص صموئيل بيكيت (1906-1989) خلصت الناقدة والأكاديمية السورية إلى التوليف بين نصي “خطوات” و”ارتجالية أوهايو”، وهما النصان القصيران اللذان كتبهما صاحب “في انتظار غودو” بين عامي 1975 و1981، ضمن سلسلة المسرحيات الإذاعية القصيرة لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

سبق اختيار مخرجة “العود الأخير” للنصين السابقين الاشتغال مع 15 متدرباً ومتدربة من متخصصين ودارسين وهواة للمسرح، عملوا معاً على دراسة عديد من نصوص الكاتب الإيرلندي – الفرنسي، وكان من أبرزها مسرحيتا “كارثة” و”ماذا أين” إضافة إلى العمل على نص “نهاية العالم ليس إلا” للفرنسي جان لوك لاغارس (1957 – 1995)، ثم تم اعتماد “خطوات” و”ارتجالية أوهايو” والتوليف بينهما في نص واحد حمل عنوان “العود الأخير” كعنوان استعاري دلالي بعيد من المباشرة، وفيه محاكاة لنظرية “العود الأبدي” لفردريك نيتشه (1844 – 1900) التي تقول بتكرار عدد محدود من الأحداث مراراً وتكراراً في زمن لا نهائي، الأم (ياسمين الجباوي)، وابنتها (ربا الحسين). نشاهد الإنسان هنا عبارة عن جسد يتلاشى حتى يصبح ضميراً وذاكرة، أما الزمان والمكان فهما فضاء استرجاع للحياة الماضية، فيتقلص المكان إلى حد الفراغ، ويمسي الإنسان كلمة وهو يعيش النزع الأخير من حياته، وكأنه يحيا قدوماً جديداً إلى الوجود. فأسلوب الاسترجاع لدى بيكيت يؤكد أبدية الماضي، وعودة الروح للجسد، ولو موقتاً، وانتفاء الحاضر والمستقبل كزمنين للاحتضار.

صدى حياة

بهذا الفهم عكفت ميسون علي في “العود الأخير” على البحث في حياة الكاتب الشخصية، لتكتشف أن وقع الخطى ما هو سوى رجع صدى لحياة الكاتب البعيدة، ولاستعادة ذكرى والدته وهي تصر على نزع السجاد عن أرضية البيت كي تتمكن من سماع وقع خطاها وهي تتمشى في أرجاء المنزل في أيامها الأخيرة. تماماً كحكاية المدينة التي تبنى من جديد عبر خطوات الكاتب نفسه في أنحائها المهجورة. مدينة مقفرة ومعتمة هجرها سكانها من دون أن يتركوا أثراً لهم، أو ما يهدي لعناوينهم الجديدة.

العودة إلى الحياة، ولو موقتاً، هي خلاصة العرض السوري، والراوي في “ارتجالية أوهايو” يسترد إذا حكايته وحكاية المدينة، فالفلسفة العدمية التي تمايزت بها نصوص بيكيت عن سواها من كتاب العبث الآخرين، اختلفت عن البعد الاجتماعي مثلاً لدى الروماني يوجين يونيسكو (1909 – 1994). فعند بيكيت (نوبل 1969) نرى العدم والتكرار ماثلين في خفايا النص، ونرى الإنسان الذي لا يملك السيطرة على نفسه ولا على الأحداث، تحدد وترسم له نهايات حتمية هو غير قادر على رفضها أو التملص منها.

تروى الحكاية في العرض السوري في شكل دائري، ومن ثم تعود وتتبلور في مستوى شعري عمل عليه صاحب “نهاية اللعبة” في نصوصه الأخيرة، مستخدماً التقطيع بين الجمل عبر وقفات من الصمت والظلام. الثنائية التي برعت مخرجة العرض في توظيفها لصالح تحقيق نسختها الخاصة من نصوص رائد مسرح العبث واللامعقول، ومن ثم الإسقاط على اللحظة السورية الراهنة، وحالة اللاجدوى الحالية التي تكتسح السوريين من جراء عيشهم اليومي في مدن معتمة ومدمرة وخالية من ساكنيها، فقد حافظت علي على حذافير النسخة التي نقلتها مواطنتها الباحثة والأكاديمية ماري إلياس عن الفرنسية (دار المدى – 2004)، وقامت علي بالمقارنة بينها وبين النسخة الإنجليزية من النصوص المقتبسة، ليتم تقطيع العرض إلى ثلاث حركات، تماماً كما يحدث في تأليف السيمفوني الموسيقية. هذا، مع العمل على تكثيف المونولوغات في نصي بيكيت، والحفاظ على الإيقاع والسرد اللذين وفرتهما اللغة العربية الفصحى للحوار، من خلال تأكيد موسيقى العبارات وإيقاعها وطريقة إلقائها، إضافة إلى تشكيل الكلمات والاعتناء بمخارج الحروف لدى الممثل. فالراوي جالس على الخشبة، والأم تلفظ أنفاسها الأخيرة على كرسي هزاز، والفتاة التي تقول مونولوغاتها وهي تذرع الخشبة جيئة وذهاباً، ترسم بخطواتها شارة اللانهاية.

دقات الناقوس

هذه المعالجة تمت ترجمتها على الخشبة من خلال تقطيع العرض بالضوء (تصميم الإضاءة وتنفيذها: إياد العساودة وهايدي فرج). تراوحت الإضاءة بين الإعتام الكامل والانسحاب التدريجي، ومن ثم تلتها إضاءة خافتة ترافقت مع حركة جديدة للممثل، ورنين جرس أقرب إلى قرع الناقوس (لارا الحلبي). فالإضاءة كانت تخفت تدريجاً على شخصيتي الأم والراوي، فيما تركت الحركة حرة لدخول الفتاة إلى حيز الضوء أو الخروج منه، تبعاً للحالة أو الجملة التي تقولها، فلا وجود لإضاءة عامة في مثل هذه النوعية من العروض، بل تم الاعتماد كلياً على مساحة فارغة وبقع ضوئية تنسل عن جسد الممثل ببطء، ومن ثم تعود لتنيره رويداً رويداً تماشياً مع الرتابة التي تقصدتها المخرجة، ووسمت العرض كله بها.

وكان لافتاً استغناء المخرجة عن الموسيقى، وإبقاؤها على مؤثر صوت الجرس كفاصل بين المقاطع، أما بالنسبة إلى الأزياء (تصميم جماعي) فالتزمت ميسون علي بالإحالات الإخراجية المكتوبة في النص الأصلي، مكتفية بإلباس ممثليها الثلاثة أسمالاً رمادية، مما أوحى بالشحوب المطلوب للشخصيات. فالراوي لبس معطفاً أسود وقميصاً أبيض، والأم وابنتها ارتدتا الزي الرمادي نفسه، لتبدو الفتاة وكأنها تسترجع ذكرى الأم، وطريقة طلبها من ابنتها تعديل وضع الوسادة تحت ظهرها، أو جلب المبولة لها. فالأم التسعينية كانت في أحيان كثيرة تبدو وكأنها لا توجد إلا في ذاكرة الفتاة، وهي موجودة كطيف أكثر منها وجوداً مادياً صرفاً.

وحرصت المخرجة على ما يشبه وصلات درامية بين الشخصيات الثلاث، وجاءت هي الأخرى على هيئة كولاج صوتي. فعندما يتكلم الراوي تتدخل الأم وتكمل جزءاً من الحكاية، وعندما تكون الأم في حالة الثبات تتوقف الفتاة عن الدوران حول نفسها، إضافة لبعض الجمل التي كانت تقولها الشخصيات الثلاث في الوقت نفسه كجملة “لم يبقَ ما يقال”. العبارة التي اعتمدت عليها المخرجة لإنهاء مقطع أو حركة، والبدء بحركة جديدة من العرض.

وخلال ما يقارب 40 دقيقة، وهو زمن العرض، اشتغلت مخرجة “العود الأخير” على أداء هامس ونبرة خافتة لممثليها، مبتعدة عن مسرح الصراخ، والتزمت بما تفرضه طبيعة نص بيكيت من اختبار لإمكانات التعبير بالكلمة، والذي نلاحظ فيه شيئاً من الذاتية والحميمية. فخطاب الشخصية التي تريد أن تعود إلى الحياة عبر الصوت لا يستلزم الصراخ والغضب، فجاء استرجاع الماضي في العرض بكثير من التأمل والذاتية والحميمية، إضافة إلى العمل على جودة الإلقاء لدى الممثل من خلال تأكيد وقع المسموع وعمقه في نفس المتلقي.

هكذا تكمل ميسون علي ما كانت قد بدأته منذ سنوات طويلة مع طلابها في قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية، حين عملت غير مرة على شرح مصطلح الدراماتورجيا وتاريخ ظهورها أكاديمياً، عبر توليف عديد من النصوص، ومنها كان عملها على مسرحيات “أحلام شقية” و”الأيام المخمورة” و”يوم من زماننا” لسعد الله ونوس. وعملت على نص “منشق أمر بديهي” للفرنسي ميشال فينافير (1927 – 2022) كنص من الحياة اليومية، إضافة إلى عملها على نص “السفر إلى لاهاي” لجان لوك لاغارس، وفيها جميعاً تم العمل على مسرحة السرد كجزء من معادلة المسرح الجوهرية “هنا الآن”، وصولاً إلى مختبر مفتوح للكتابة المسرحية المعاصرة.

ذ اندبندنت

عن Amal

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …