الرئيسية / ثقافة شعر وفنون / في عيد الفلاح المصري.. حكايا ونضالات “أم إسماعيل”

في عيد الفلاح المصري.. حكايا ونضالات “أم إسماعيل”

12 أيلول 2023

كانت الكلمات وهي تصف الست جميلة “أم إسماعيل”، وصوت “سيد درويش” يدللها: “حلاوتها أم إسماعيل في وسط عيالها زي النجفة عم بتلألط في جمالها.. تزرع وتقلع في الغيط ويا راجلها وتاود تاني لعجينها وغسيلها”.

وعلى نهج حلاوتها، جاءت سيرة نضال الكثيرات من الفلاحات الجميلات، نفيسة وآمال وشاهندة وزاهية ونعمة. ومثلهنّ، كل الأخريات في النجوع والقرى لهنّ أوجاعهنّ الخاصة المُرّة، المؤسَسة على الأبوة والرجولة وأشياء أخرى، غير أنّ هذا لم يمنعهنّ من تقديم ملمح خاص أخّاذ حينما تعلق الأمر بالدفاع عن البيت والأرض وكذلك عن الرجال.

كنا، كما في الشطر الحزين من تلك الأغنية المبهجة، حين قالت أم إسماعيل: “وكفاية اللي شفناه.. زيي أنا شفت كتير.. وسنة بسنة ولاد الكبير لا سابوا لي بيت ولا غيط”.

نضال سياسي/ نسوي يرتبط بطبيعة “الفلاحة” في كل مكان وزمان، ووفق صفحات التاريخ الحديث في مصر، الذي امتد من مشاركتهنّ في “ثورة عرابي” ضد الاحتلال الإنجليزي نهاية القرن التاسع عشر وصولاً إلى خروجهنّ غاضباتٍ في “جزيرة الوراق” ضد قرار نزعها من أيدي سكانها الأصليين مع اقتراب نهايات الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.

كتب هذا النص احتفاءً بالفلاحات ونضالهنّ تزامناً مع “عيد الفلاح المصري” في التاسع من أيلول/ سبتمبر والذي تأسس مع اعلان قوانين الاصلاح الزراعي في التاريخ نفسه من العام 1956.

فلاّحات جيش عرابي

العودة للقراءة السياسية والاجتماعية في دفاتر الثورة العُرابية في مصر تكشف بدقة أن الأمر لم يقتصر أبداً على تحرك نخبوي بقيادة الجيش في القاهرة، وما تلاه من عملية سياسية انتهت بمعركة حربية وإعلان الاحتلال الإنجليزي الرسمي لمصر.

أحدثت الثورة صداها داخل أغلب تكوينات الشعب المصري الكادحة ليقدم كل منها نسخته الثورية وفق مصالحه المباشرة، وبالقلب منهم كانت الفلاحات. فنقرأ في كتاب “القوى الاجتماعية في الثورة العرابية”(1) : “تكررت ظاهرة مشاركة النساء في مهاجمة الأجانب، فرصدت الصحف قيام نساء وأطفال بمهاجمة الحانات والدكاكين وكان القتلى ستة من الروم وثلاثة من الأوروبيين. كان المشهد الأكبر في القرى والأرياف مع أعمال أشبه بالثأر من مهندسي الري الأوروبيين ممن صادروا الأراضي من الفلاحين وأجبروهم على العمل لديهم مقابل الكفاف، إضافة إلى إقراض رجالهم أموالاً مقابل “كمبيالات” تذهب بهم بعد قليل إلى السجن”.

مشاهد لم تسجلها الكاميرات، ولكن كان أول من سجلها هم المراسلون الأجانب ممن وصف أحدهم الفلاحة المصرية في مانشيت رئيسي بـ “المجهولة المقاتلة”.

فلاحات “الوليدية” 1919

كان لوقع سيطرة الأجانب على الأرض المصرية وتوغلهم (شراكسة ـ أوروبيين ـ أتراك) أثره المضني، وقد تَعمّق الاحتلال بدوره في سياسات النهب، فأجبر المحتل الفلاحين على تسليم محاصيلهم ومواشيهم من أجل إمداد الجيش الإنجليزي خلال الحرب العالمية الأولى بما يلزمه.

وما إن خفُتَ وطيس تلك الحرب حتى لمع الاحتجاج داخل مصر باندلاع ثورة الشعب المصري عام 1919 بقيادة “سعد زغلول”. ومن جديد كان الصراع على الأرض، فتوهجت الفلاحة المصرية كـ”زهرة القطن” في الصيف الحار.

نضال سياسي/ نسوي يرتبط بطبيعة “الفلاّحة” وفق صفحات التاريخ الحديث في مصر، الذي امتد من مشاركتهنّ في “ثورة عرابي” ضد الاحتلال الإنجليزي نهاية القرن التاسع عشر وصولاً إلى خروجهنّ غاضباتٍ في “جزيرة الوراق” ضد قرار نزعها من أيدي سكانها الأصليين مع اقتراب نهايات الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.

عن دور الفلاحات المصريات في قرية “الوليدية” بمدينة “أسيوط” يقول “محمد سيد الخطيب” في تأريخه لنضال مدن صعيد مصر: احتمى الإنجليز خلف الخزان الكبير فوق نهر النيل ليتمكنوا من استهداف رجال بالقرية ممن هاجموهم. وحين تفوق السلاح الإنجليزي وتم القبض على عدد كبير من الرجال، خرجت السيدات في مواجهتهم يحملنَ الفأس والجاروف والمعول، فاستطعن قتل عدد من الجنود بهذه المعركة.

الفلاحة ووعود عهد “ناصر”

عبر السنوات تبدلت جغرافية المعارك لكن بقيت “الأرض” هي المحرك لها في الأرياف المصرية. ومع قيام الجيش بعزل الملك وإعلان الجمهورية عام 1952 ما تلاها من إصدار قوانين الإصلاح الزراعي 1956، شهد الريف المصري فترة انتعاشه الحقيقي التي لم تقتصر على توزيع الأراضي وتحديد دورة الزراعة ودعم الفلاحين بالمستلزمات الفِلاحية، وإنما لمس هذا التغيير كل فردٍ بعد أن توسعت الدولة في بناء الوحدات الصحية والمدارس. وفي ضوء ذلك وجدت الطفلة الفلاحة المصرية في عدد من القرى فرصةً للتمدرس والانطلاق والترقي المجتمعي الذي شمل التثقيف والتوعية حول حقوق المرأة وتنظيم الأسرة وحتمية التعليم.

كان لوقع سيطرة الأجانب على الأرض المصرية وتوغلهم (شراكسة ـ أوروبيين ـ أتراك) أثره المضني، وقد تَعمّق الاحتلال بدوره في سياسات النهب، فأجبر المحتل الفلاحين على تسليم محاصيلهم ومواشيهم من أجل إمداد الجيش الإنجليزي خلال الحرب العالمية الأولى بما يلزمه.

صحوة غلفتها بطبيعة الحال ومنذ اللحظة الأولى معوقات سياسية واجتماعية، فأتت على حصادها عبر السنوات. فمن ناحية، كان لغياب الديمقراطية داخل الدولة الناصرية وتأثيره على شكل السلطة في مصر نتائجه الثقيلة، ومن ناحيةٍ أخرى لعب الجزء السلبي في الإرث الاجتماعي والمعرفي دوره في محاصرة انطلاق النساء، وبشكل خاص في الأرياف، وهو ما امتد وتوغل عبر السنوات مع تقزم المشهد العام في مصر.

وقد كانت البداية مبكرة، وخلال الفترة الناصرية ذاتها.

فلاحة مصرية تستلم عقد ملكيتها للارض من يد الرئيس جمال عبد الناصر

قرية “كمشيش” .. والفلاّحة الثورية المثقفة

هي نموذج خاص، انعكاسٌ لعصرها، مثقفةٌ مصرية، فلاحةٌ أثقلها التعليم والوعي، فكانت تجربة المناضلة اليسارية “شاهندة مقلد” مع زوجها الشهيد “صلاح حسين”، وكل نساء ورجال قريتهما “كمشيش” ضد أسرة “الفقي” الإقطاعية (تسيطر على مئات الفدادين داخل القرية كإرث منحته لها الملكية في مصر).

وصلت المواجهة ذروتها عام 1966 باغتيال الإقطاعيين لابن القرية المدافع عن قرارات الإصلاح الزراعي “حسين”. لم تنزوِ “شاهنده” بعدها، بل توهج نضالها المحزون بفراق الرفيق والحبيب، فكانت هي من أوقفت “جيفارا” و”ناصر” خلال موكبهم الذي مر بالقرية خلال توجهه إلى قرية “ميت أبو الكوم” لتناول الغذاء في بيت “السادات”، فرفعت هي وعدد من فلاحي وفلاحات “كمشيش” لافتات مكتوب عليها “نحن معزولون عنك منذ سنوات يا جمال عبد الناصر، ونحن قرية ثورية ونقف إلى جانبك”. توقف الموكب وصافحها عبد ناصر وجيفارا وتسلما رسالتها التي تضمنت مطالب الفلاحين.

نضال الفلاحات ضد عودة الإقطاع

كان العام 1974 هو بداية تغيير وجهة الانحيازات السياسية والاجتماعية في مصر على يد “السادات” وخلفه “مبارك”، وكان من الطبيعي أن يحصد الفلاحون والفلاحات النصيب الأكبر من المعاناة على طريق “الردة”.

“قامت قوات الشرطة بربط كل اثنين من النساء ببعضهنّ من شعورهنّ وضفائرهنّ إلى جانب تقييد أيديهنّ، وضربت بعضهن على الوجه بالأحذية، وألقت بهنّ داخل عربات الشرطة التي نقلتهنّ إلى مركز شرطة دمنهور حيث تعرضن داخله إلى مزيد من التعذيب وحالات التحرش الجنسي. قام عدد كبير من رجال القرية بتسليم أنفسهم من أجل الإفراج عن السيدات، وهو ما لم يحدث” (تقرير “مركز الارض” 2005).

بدأ التهافت السلطوي الطبقي المهروِل للانتقام من كل الإنجازات الاجتماعية التي تحققت، وقد كشف عن مدى هشاشة أي بناء مجتمعي لا تحميه الحريات. وعليه تبخرت التنظيمات الشعبية الهشة التابعة للسلطة، وبقي الفلاحون والفلاحات بأجسادهم يقاومون محاولات الاقطاعيين استرداد سيطرتهم على الأرض.

تبلورت ملامح الهجوم في عام 1992 حين أقر مجلس الشعب المصري تعديل بنود قانون الإصلاح الزراعي، وأطلق قانوناً جديداً ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية أسماه الفلاحون “قانون طرد المستأجرين”.

تقول الباحثة “ريم سعد”(2) : “أعطى القانون الجديد مهلة خمس سنوات انقضت في الأول من أكتوبر ،1997 وهو اليوم الذي فقد فيه ما يقرب من مليون عائلة “أراضي” كانوا حتى صدور القانون يتمتعون فيها بحيازة آمنة. الغالبية الساحقة منهم كانوا من صغار المزارعين الفقراء، ومع فقدان الأرض فقدوا مصدراً رئيسياً لرزقهم ولأمانهم الغذائي أيضاً، ولقد رصدت في جولاتي بعد صدوره بسنوات حجم الفقر الذي شمل آلاف الأسر في قرى مصرية فقد أصحابها مدخل رزقهم الرئيسي”.

الشهيدة “آمال دردير”

خاضت بعض القرى، بمساندة ودعم قوى سياسية، نضالات ضد تسليم الأرض وحاولت الدفع في حلول تسمح للفلاحين بتقسيط المبالغ التي ثمنت بها على فترات زمنية طويلة، وهو ما رفضته السلطة مدعومة برجال الإقطاع القديم، فاندلعت انتفاضة ريفية، كان أقواها في محافظة “كفر الشيخ” التي شهدت القبض على عدد من قيادات العمل السياسي آنذاك في مصر.

عبر السنوات، تبدلت جغرافية المعارك لكن بقيت “الأرض” هي المحرك لها في الأرياف. ومع قيام الجيش بعزل الملك وإعلان الجمهورية عام 1952 ما تلاها من إصدار قوانين الإصلاح الزراعي 1956، شهد الريف فترة انتعاشه الحقيقي الذي لم يقتصر على توزيع الأراضي وتحديد دورة الزراعة ودعم الفلاحين بالمستلزمات الفِلاحية، وإنما لمس كل فردٍ بعد أن توسعت الدولة في بناء الوحدات الصحية والمدارس.

كان لغياب الديمقراطية داخل الدولة الناصرية وتأثيره على شكل السلطة في مصر نتائجه الثقيلة، ومن ناحيةٍ أخرى لعب الجزء السلبي في الإرث الاجتماعي والمعرفي دوره في محاصرة انطلاق النساء، وبشكل خاص في الأرياف، وهو ما امتد وتوغل عبر السنوات مع تقزم المشهد العام في مصر. وقد كانت البداية مبكرة، وخلال الفترة الناصرية ذاتها.

وعلى الرغم مما تعكسه قيمة تواجد قيادات سياسية شابة في أرض المواجهة، إلا أنه بالقبض عليهم لم ينتهِ المشهد، بل العكس هو الصحيح. لقد ازداد حدةً، وشاركت فيه السيدات بقوة بعد القبض على عدد كبير من رجالهن، فكنّ مشاركاتٍ في فلاحة الأرض وفي الدفاع عنها أيضاً. وجاء الحصاد باسم وروح الشهيدة “آمال دردير” التي قتلت في 2005 برصاص أحد رجال الإقطاع بعد أن رفضت مرورهم إلى “الغيط”.

كتب عنها “حمدين صّباحي”، خلال حبسه على ذمة تلك القضية، قصيدة “وردة العصيان”، قال فيها: “آمال.. يا أخت الروح.. يا وردة العصيان طالعة بلون الدم.. بطعم قوت الغلابة من خبيز الهم.. وبريحة الأرض ساعة الري.. بالحزن والفرح اللى راح والجاي.. طالعة ومين يوقفك.. يا ويل عدوينك.. الأرض شرفك ودينك..” وينهي بـ “على قد ما أنتِ بهية.. وعفية في الميدان.. بالطرحة والنبوت”.

سراندو

لم يقتصر الأمر على اشتراطات القانون دفع مبالغ باهظة مقابل الاستمرار في العمل داخل الأرض وإنما نشطت الأسر الإقطاعية القديمة في رفع دعاوى قضائية لاستردادها كلية.

وعلى الرغم من عدم صدور أحكام قضائية باتة في هذا الأمر، احتمت الثروة بالقابعين داخل أقسام الشرطة، فكان المشهد الذي لا يمكن أن يُمحى، وعبره سجّل نضال المصريين في قرية “سراندو” في محافظة البحيرة 2005 وهو ما يتشابه مع ما تعرضت له مئات من القرى المماثلة.

ثلاثة أيام كانت كافية لتغيير مصير القرية. فعقب علاقة وطيدة جمعت بين رجال قسم شرطة “بندر دمنهور” وأسرة “نوار”، بدأت حلقات السيناريو تتوالى تباعاً.

نقرأ في تقرير “مركز الأرض” لعام 2005:

“بدأت المشكلة في يوم الاثنين الموافق 3/1/2005. قام بعض التنفيذيين والقيادات الحكومية المحلية مع مدعي الملكية باستدعاء عدد من الفلاحين لمركز الشرطة في محاولة لتسوية الامر بشكل ودّي، وذهب إلى مركز الشرطة تسعة من الفلاحين وفوجئوا برئيس المباحث يرغمهم على التوقيع على بعض الأوراق مدعياً أنها إقرارات بعدم التعرض لمدّعي الملكية، وعلى الرغم أنهم لم يطّلعوا على هذه الأوراق إلا أنهم وقعوا مرغَمين ودون إرادتهم، وطالبهم بعد ذلك بإرسال باقي الفلاحين لمركز الشرطة فرفضوا حتى لا يجبروا على التوقيع على التنازل بترك الأرض ، مما دفع رئيس المباحث إلى القيام بحملة لتأديب الفلاحين، فقام بالهجوم على القرية واقتحام عدد من منازلها والقبض على بعض فلاحيها، وتلفيق التهم لآخرين من أجل الضغط عليهم للتنازل عن أراضيهم التي يزرعونها منذ عشرات السنين”.

وفي يوم وقفة عيد الأضحى استأجر بعض أفراد عائلة “نوار” بعض البلطجية وأغلقوا الطرق المؤدية لأرض قرية “سراندو”، إلا أن فلاحي القرية وفي صباح يوم العيد قاموا بمطاردة البلطجية إلى خارج الأرض. مر ما يقارب الشهرين وسط ترقب وتوجس ومحاولات من الفلاحين لإيصال صوتهم عبر كل منصة، وفي فجر4 آذار/ مارس 2005 استكمل المشهد، فقامت قوات الشرطة بمهاجمة القرية واعتقلت 7 رجال بعد أن اقتحمت المنازل، وقُدّم الفلاحون للنيابة في 5 آذار/ مارس واتهموا بسرقة محاصيل مدّعي الملكية صلاح نوار ومنعه من نزول الأرض.

أيام قليلة مرت لتستيقظ القرية على وصول مسلحين بلطجية بهدف حرث الأرض المزروعة بالقمح وإتلاف المحصول، وقام مدّعي الملكية بإطلاق أعيرة نارية على الفلاحين وكان من بينهم أعداد من النساء والأطفال الذين أدى صراخهم إلى مجيء الرجال من المزارع المجاورة. وفي الاشتباكات قتل أحد أفراد عائلة نوار بعيار ناري وحرقت ثلاث جرارات وسيارتان. بعدها توجهت قوات الشرطة إلى القرية في حوالي العاشرة صباحاً وقاموا باعتقالاتٍ عشوائية شملت عدداً كبيرا من السيدات.

بدأ التهافت السلطوي الطبقي المهروِل للانتقام من كل الإنجازات الاجتماعية التي تحققت، وقد كشف عن مدى هشاشة أي بناء مجتمعي لا تحميه الحريات. وعليه تبخرت التنظيمات الشعبية الهشة التابعة للسلطة، وبقي الفلاحون والفلاحات بأجسادهم يقاومون محاولات الاقطاعيين استرداد سيطرتهم على الأرض.

سجلت الشهادات لاحقاً ما تعرضت له سيدات القرية، يقول التقرير: “قامت قوات الشرطة بربط كل اثنين من النساء ببعضهنّ من شعورهنّ وضفائرهنّ إلى جانب تقييد أيديهنّ، وضربت بعض الحالات على الوجه بالأحذية، وألقت بهنّ داخل عربات الشرطة التي نقلتهنّ إلى مركز شرطة دمنهور حيث تعرضن داخله إلى مزيد من التعذيب وحالات التحرش الجنسي. قام عدد كبير من رجال القرية بتسليم أنفسهم من أجل الإفراج عن السيدات، وهو ما لم يحدث، وتم توجيه الاتهامات لـ 26 من أهالي القرية بينهم 9 سيدات”.

ومن باب الاحتفاء، لا بد من تسجيل أسماء السيدات كاملة، وهن: رانيا سمير الصباغ، رشيدة الجيزاوي، نعمة حافظ أبو طلبه، زاهية الأجرب، سماح عبد الحميد الجرف، فرحانة حافظ، سيدة محمد العطار، رسمية أحمد خلاف، زهرة سعيد أبو العلا، سهام سعيد أبو العلاء، وثلاث طفلات هنّ: خضرة محمد زكي، عزيزة منصور الفقي، هويدا الفقي.

وجهت لهم ولهنّ اتهاماتٌ بالتجمهر، الضرب المفضي إلى الموت، غصْب أرض الغير، إتلاف سيارات وجرارات زراعية. وهي الاتهامات التي تم لاحقاً وفي حكم ثانِ تبرئتهم منها جميعاً (رجالاً ـ نساءً) بعدما رفض الحاكم العسكري (محمد حسني مبارك) التصديق على الحكم الأول القاضي ببراءتهم. وذكرت حيثيات الحكم الثاني “أنهم كانوا يدافعون عن الأرض من أجل الحفاظ على قوت رزقهم”.

الشهيدة “نفسية المراكبي”

سقطت الاتهامات لكن لم تسقط جرائم الشرطة، بل ظلت روح “نفسية المراكبي” شاهد وجع على ما آسته هذه القرية في مقاومتها، فقد تم القبض عليها ضمن أخريات لإجبار زوجها على تسليم نفسه، وحين رفضت الإهانة الموجهة لها وسيل الشتائم، زج بها في غرفة منفردة واعتديَ عليها بشكل لم تفصح عنه بعد خروجها. قبعت لمدة شهر داخل بيتها في حالة صحية متردية إلى أن فارقتها الروح دون أن تبوح بسرها.

“25 يناير”: رياح الثورة التي تشتتت

عقب اندلاع “ثورة يناير 2011” وخلع “مبارك”، أعد مئات المصريين ما هو معروف بـ “قوائم التعذيب” التي تضم رجال شرطة متهمين بجرائم قتل وعنف، ومن بينهم من قام بتعذيب نساء ورجال في الأرياف. غير أن تشتت رياح الثورة وعدم قدرتها على إشعال النيران في مكانها الصحيح، أدى إلى تكرر المشاهد ذاتها داخل القرى المصرية، ليس فقط على يد هذا التحالف بين “الإقطاع الجديد” و”رجال الشرطة”، ولكن بقيادة السلطة الرسمية نفسها كما هو المشهد الشاهد في “جزيرة الورّاق” المصرية على مدار السنوات الماضية.

فنقرأ سطوراً من تقرير حقوقي (3)  لـ”بشير صقر” نشر في العام 2017، عن عودة عنف الشرطة داخل محافظة البحيرة مرة أخرى مع الفلاحين المستفيدين من الإصلاح الزراعي بقرى العمرية، الناموس، الكومبانية، المؤاجرين، كوم المناصير، كوم الأرانب.

الشهيدة “نجلاء سعد”

هو المشهد الجائر نفسه قد أعيد إنتاجه! ففي منتصف ليلة السبت 3 حزيران/ يونيو، عادت دماء “الفلاحات” لتُسكب. فقد داهمت قوة شرطية قرية “الكومبانية” في إحدى ليالي شهر رمضان، ومنزل أحد الفلاحين لاستدعائه لمديرية الأمن بسبب قضايا حيازة الغير، وكان الرجل المطلوب مسناً مريضاً، فطلبت الشابة المرافقة له وزوجة ابنه “نجلاء” من قوة الشرطة إمهاله فرصة حتى الصباح. عجرفة وتعنت ورفض للإهانة وتجمهر للأهالي، انتهى المشهد بإطلاق الضابط للنار من مسدسه في الهواء، فسقطت السيدة الصغيرة في دمائها تاركة خلفها ثلاثة أولاد

فلاحات الوراق يغْزين الفضاء الإلكتروني

ومن “الكومبانية” لـ “الوراق”، عشرات التقارير التي تحكي عن نضال سيدات تلك الجزيرة على مدار 5 سنوات استشهد خلالها رجل وألقي القبض على عشرات الرجال. لكن وكما يليق بالقرن الواحد والعشرين، نشطت فلاحات “الوراق” في تسجيل الفيديوهات بهواتفهنّ المحمولة ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دون خوف، وفي تحدٍ ليس للشرطة وحدها، وإنما لرئيس الجمهورية نفسه الذي اتهمنه بـ “اعتياد بيع الجزر”.

عقب اندلاع “ثورة يناير 2011” وخلع “مبارك”، أعد مئات المصريين “قوائم التعذيب” التي تضم رجال شرطة متهمين بجرائم قتل وعنف، ومن بينهم من قام بتعذيب نساء ورجال في الأرياف. غير أن تشتت رياح الثورة أدى إلى تكرر المشاهد ذاتها داخل القرى المصرية، ليس فقط على يد هذا التحالف بين “الإقطاع الجديد” و”رجال الشرطة”، ولكن بقيادة السلطة الرسمية نفسها كما هو المشهد في “جزيرة الورّاق”.

جاءت تلك الهبة النسائية واستمرت إثر مقتل رجل من الجزيرة، حاول رد الاعتداء عن “مسيرة نسائية” اتجهت إلى المعدية الرئيسية على نهر النيل للمطالبة بعدم مرور قوات الأمن التي جاءت من أجل تنفيذ أعمال الإزالة.

**

هذا هو النبع الذي منه الناضج خيال كل من حاول تجسيد نضال “الفلاحة المصرية”، في تفاصيل يومها الاعتيادية وعندما يشاء الكرب. فلم تكن ضغطة “فؤادة” على “الهوس” من أجل ري الأرض العطشانة في فيلم “شيء من الخوف” مجرد خيال عابر بعقل الروائي “ثروت أباظة”، ولم تبزغ ملامح السيدة الخضراء الباسقة فوق قاعدة تمثال “نهضة مصر” فقط بسبب تميز إزميل الفنان تشكيلي “محمود مختار”، ولكن وهج الشخصيات منه، فتحية لـ “هنّ” في عيدهنّ.

الأخبار

عن Amal

شاهد أيضاً

مكتبة تعيد التاريخ الفلسطيني مخطوطة واحدة في كل مرة

22 تشرين الأول 2023 هبة اصلان تقدم مكتبة في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل لمحة …